وقوله { ألا يسجدوا } إلى قوله { العظيم } ظاهره أنه من قول الهدهد ، وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ويعترض بأنه غير مخاطب ، فكيف يتكلم في معنى شرع ، [ ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم ]{[9007]} ، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضاً بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل ، وقراءة التشديد في «ألاَّ » تعطي أن الكلام للهدهد ، وقراءة التخفيف تمنعه وتقوي الآخر حسبما يتأمل إن شاء الله ، وقرأ جمهور القراء «ألا يسجدوا » ف «أن » في موضع نصب على البدل من { أعمالهم } وفي موضع خفض على البدل من { السبيل } أو يكون التقدير لأن لا يسجدوا ف «أن » متعلقة إما ب «زين » وإما ب «صدهم » ، واللام الداخلة على «أن » داخلة على مفعول له{[9008]} ، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري وأبو عبد الرحمن والحسن والكسائي وحميد : «ألا » على جهة الاستفتاح ووقف الكسائي من هذه الفرقة على يا ، ثم يبتدىء «اسجدوا »{[9009]} ، واحتج الكسائي لقراءته هذه بأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه موضع سجدة .
قال القاضي أبو محمد : وهذه القراءة مقدر فيها النداء والمنادى محذوف تقديره إن جعلناه اعتراضاً يا هؤلاء ويجيء موضع سجدة ، وإن جعلناه من كلام الهدهد يا قوم أو يا عقلاء ونحو هذا ومنه قول الشاعر :
«ألا يا سلمي » يا دار ميَّ على البلا *** ولا زال منهلا بجرعائك القطر{[9010]}
ونحو قول الآخر وهو الأخطل : [ الطويل ]
ألا يا أسلمي يا هند هند بني بدر . . . وإن كان حيانا عدًى آخر الدهر{[9011]}
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطة . . . فقلت سمعنا فاسمعي واصمتي{[9012]}
ويحتمل قراءة من شدد : «ألاَّ » أن يجعلها بمعنى التخصيص ، ويقدر هذا النداء بعدها ويجيء في الكلام إضمار كثير ولكنه متوجه ، وسقطت الألف كما كتبت في يا عيسى ويا قوم ، وقرأ الأعمش «هل لا يسجدون » ، وفي حرف عبد الله بن معسود «ألا هل تسجدون » بالتاء ، وفي قراءة أبيّ : «ألا هل تسجدوا » بالتاء أيضاً ، و { الخبء } الخفي من الأمور وهو من خبأت الشيء ، و «خبء » السماء مطرها ، و «خبء » الأرض كنوزها ونباتها ، واللفظة بعد هذا تعم كل خفيّ من الأمور وبه فسر ابن عباس ، وقرأ جمهور الناس «الخبْء » بسكون الباء والهمز{[9013]} ، وقرأ أبي بن كعب «الخبَ ، بفتح الباء وترك الهمز ، وقرأ عكرمة » الخبا «بألف مقصورة ، وحكى سيبويه أن بعض العرب يقلب الهمزة إذا كانت في مثل هذا مفتوحة وقبلها ساكن يقلبها ألفاً ، وإذا كانت مضمومة وقبلها ساكن قلبها واواً ، وإذا كانت مكسورة قلبها ياء ومثل سيبويه ذلك بالوثا والوثو والوثي{[9014]} ، وكذلك يجيء { الخبء } في حال النصب وتقول اطلعت على الخبي وراقني الخبو وقرأ جمهور القراء » يخفون «و » يعلنون «بياء الغائب .
قال القاضي أبو محمد : وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص «تخفون وما تعلنون » بتاء الخطاب ، وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف أبي بن كعب «ألا يسجدوا والله الذي يخرج الخبء من السماوات والأرض ويعلم سركم وما تعلنون » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء} يعني: الغيث {في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون} في قلوبكم {وما تعلنون} بألسنتكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القرّاء، في قراءة قوله "ألاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ"؛ فقرأ بعض المكيين وبعض المدنيين والكوفيين «ألاَ» بالتخفيف، بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فأضمروا «هؤلاء» اكتفاء بدلاة «يا» عليها... فعلى هذه القراءة اسجدوا في هذا الموضع جزم، ولا موضع لقوله «ألا» في الإعراب. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة ألاّ يَسْجُدوا بتشديد ألاّ، بمعنى: وزيّن لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله، «ألاّ» في موضع نصب لما ذكرت من معناه أنه لئلا، ويسجدوا في موضع نصب بأن.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء مع صحة معنييهما...
ويعني بقوله: "يُخْرِجُ الخَبْءَ": يخرج المخبوء في السموات والأرض من غيث في السماء، ونبات في الأرض ونحو ذلك...
"ويَعَلَمُ ما تُخْفُونَ ومَا تُعْلِنُونَ" يقول: ويعلم السرّ من أمور خلقه، هؤلاء الذين زين لهم الشيطان أعمالهم والعلانية منها، وذلك على قراءة من قرأ ألاّ بالتشديد. وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف فإن معناه: ويعلم ما يسره خلقه الذين أمرهم بالسجود بقوله: «ألا يا هؤلاء اسجدوا».
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
من قرأ بالتشديد أراد: «فصدّهم عن السبيل» لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن. ويجوز أن تكون «لا» مزيدة، ويكون المعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف، فهو «ألا يسجدوا». ألا للتنبيه، ويا حرف النداء، ومناداه محذوف... وفي إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض جلت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه ومنطقه وشمائله، ولهذا ورد: ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله. فإن قلت: أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أم في إحداهما؟ قلت؛ هي واجبة فيهما جميعاً، لأنّ مواضع السجدة إما أمرٌ بها، أو مدحٌ لمن أتى بها، أو ذمٌ لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك...
فإن قلت: هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت: نعم إذا خفف وقف على {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} ثم ابتداء {أَلاَ يَسْجُدُواْ}، وإن شاء وقف على «ألا» ثم ابتدأ {يَسْجُدُواْ} وإذا شدّد لم يقف إلا على {العرش العظيم}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [معناه: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ}] أي: لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من شيء من الكواكب وغيرها..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا الضلال عجباً في نفسه فضلاً عن أن يكون من قوم يجمعهم جامع ملك مبناه السياسة التي محطها العقل الذي هو نور الهداية، ودواء الغواية، علله بانتفاء أعظم مقرب إلى الله: السجود، تعظيماً له وتنويهاً به فقال: {ألا} أي لئن لا {يسجدوا} أي حصل لهم هذا العمى العظيم الذي استولى به عليهم الشيطان لانتفاء سجودهم، ويجوز أن يتعلق بالتزيين، أي زين لهم لئلا يسجدوا {لله} أي يعبدوا الذي له الكمال كله بالسجود الذي هو محل الإنس، ومحط القرب، ودارة المناجاة، وآية المعافاة، فإنهم لو سجدوا له سبحانه لاهتدوا، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففات الشيطان ما يقصده منهم من الضلال، وعلى قراءة الكسائي وأبي جعفر بالتخفيف وإشباع فتح الياء يكون استئنافاً، بدئ بأداة الاستفتاح تنبيهاً لهم على عظم المقام لئلا يفوت الوعظ أحداً منهم بمصادفته غافلاً، ثم نادى لمثل ذلك وحذف المنادى إيذاناً بالاكتفاء بالإشارة لضيق الحال، خوفاً من المبادرة بالنكال عن استيفاء العبارة التي كان حقها:: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله، أي لتخلصوا من أسر الشيطان، فإن السجود مرضاة للرحمن، ومجلاة للعرفان، ومجناة لتمام الهدى والإيمان.
ولما كانت القصة في بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة، وصفه بما يقتضي ذلك فقال: {الذي يخرج الخبء} وهو الشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلاً، وخصه بقوله: {في السماوات والأرض} لأن ذلك منتهى مشاهدتنا، فننظر ما يتكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وغيرهما، وما يشرق من الكواكب ويغرب -إلى غير ذلك من الرياح، والبرد والحر، الحركة والسكون، والنطق والسكوت، وما لا يحصيه إلا الله تعالى، والمعنى أنه يخرج ما هو في عالم الغيب فيجعله في عالم الشهادة.
ولما كان ذلك قد يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد يعرف بأمارات، وكان ما تضمره القلوب أخفى، قال: {ويعلم ما تخفون} ولما كان هذا مستلزماً لعلم الجهر، وكان التصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم، قال: {وما تعلنون} أي يظهرون.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والمعنى كان ذلك التزيين والصد وعدم الاهتداء في ذاته لأن لا يهتدوا إلى عبادة الخالق الذي يخرج الخبء في السموات والأرض. ويصح أن نقول: إنه متعلق ب {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي أنه حسن ذلك في قلوبهم ليصرفهم عن السبيل، ويكون التركيب هكذا زين لهم ألا يهتدوا إلى عبادة الله تعالى الذي يخرج الخبء.. إلى آخره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والطريف في الآية أنّها تتكلم أوّلاً عما خفي في السماوات والأرض، ثمّ تتكلم عن أسرار القلوب!. إلاّ أنّه لِمَ استند الهدهد من بين جميع صفات الله إلى علمه بغيب العالم وشهوده كبيره و صغيره؟! لعل ذلك لمناسبة أن سليمان بالرغم من جميع قدرته كان يجهل خصائص بلد سبأ، فالهدهد يقول: ينبغي الاعتماد على الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض. أو لمناسبة أنّه طبقاً لما هو معروف للهدهد حس خاص يدرك به وجود الماء في داخل الأرض... لذلك يتكلم عن علم الله الذي يعلم بكل خافية في عالم الوجود.