فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ} (25)

{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ } قرأ الجمهور بتشديد { ألا } . قال ابن الأنباري : الوقف على فهم لا يهتدون غير تامّ عند من شدّد ألا ، لأن المعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا . قال النحاس : هي أن دخلت عليها لا ، وهي في موضع نصب . قال الأخفش : أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله . وقال الكسائي : هي في موضع نصب بصدّهم : أي فصدّهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا ، فهو على الوجهين مفعول له . وقال اليزيدي : إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب . وقال أبو عمرو : في موضع خفض على البدل من السبيل . وقيل العامل فيها { لا يهتدون } أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله ، وتكون لا على هذا زائدة كقوله : { وَمَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] . وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة ، لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود : إما بالتزيين أو بالصدّ ، أو بمنع الاهتداء ، وقد رجح كونه علة للصدّ الزجاج ، ورجح الفراء كونه علة لزين ، قال : زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا ، ثم حذفت اللام . وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف { ألا } قال الكسائي : ما كنت أسمع الأشياخ يقرؤونها إلاّ بالتخفيف على نية الأمر ، فتكون { ألاّ } على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح ، وما بعدها حرف نداء ، واسجدوا فعل أمر ، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا " ألا يا اسجدوا " ، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا ، فصارت صورة الخط ألاّ يسجدوا ، والمنادى محذوف ، وتقديره : ألاّ يا هؤلاء اسجدوا . وقد حذفت العرب المنادى كثيراً في كلامها ، ومنه قول الشاعر :

ألاّ يا اسلمي يا دار ميّ على البلى *** ولا زال منهلاً بجرعائك القطر

وقول الآخر :

ألاّ يا اسلمى ثم اسلمي ثمت اسلمى *** ثلاث تحيات وإن لم تكلم

وقول الآخر أيضاً :

* ألاّ يا اسلمي يا هند هند بني بكر *

وهو كثير في أشعارهم . قال الزجاج : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد ، واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد . قال الزجاج : ولقراءة التخفيف وجه حسن إلاّ أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم . والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه ، وكذا قال النحاس ، وعلى هذه القراءة تكون جملة { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } معترضة من كلام الهدهد ، أو من كلام سليمان ، أو من كلام الله سبحانه . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " هل لا تسجدوا " بالفوقية ، وفي قراءة أبيّ { أَلا تَسْجُدُواْ } بالفوقية أيضاً { الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السموات والأرض } أي يظهر ما هو مخبوء ومخفيّ فيهما ، يقال : خبأت الشيء أخبؤه خبأ والخبء ما خبأته . قال الزجاج : جاء في التفسير أن الخبء ها هنا بمعنى : القطر من السماء والنبات من الأرض . وقيل خبء الأرض : كنوزها ونباتها . وقال قتادة : الخبء السرّ . قال النحاس : أي ما غاب في السماوات والأرض . وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر : " الخب " بفتح الباء من غير همز تخفيفاً ، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار : " الخبا " بالألف . قال أبو حاتم : وهذا لا يجوز في العربية . وردّ عليه بأن سيبويه حكى عن العرب : أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن . وفي قراءة عبد الله : { يخرج الخب من السموات والأرض } . قال الفراء : ومن وفى يتعاقبان ، والموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتاً لله سبحانه ، أو بدلاً منه ، أو بياناً له ، ويجوز أن يكون في محل نصب على المدح ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . وجملة { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } معطوفة على يخرج ، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين ، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية للخطاب ، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدّمة ضمائر غيبة ، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك ، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب . والمعنى : أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السماوات والأرض .

/خ26