103- وتمسكوا بدين الله مجتمعين عليه ، ولا تفعلوا ما يؤدى إلى فرقتكم ، وتذكروا نعمة الله عليكم حين كنتم في الجاهلية متعادين ، فَألَّف بين قلوبكم بالإسلام فصرتم متحابين ، وكنتم - بسبب كفركم وتفرقكم - على طرف حفرة من النار فخلصكم منها بالإسلام ، بمثل ذلك البيان البديع يبين الله لكم دائماً طرق الخير لتدوموا على الهدى .
وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } معناه تمنعوا وتحصنوا به ، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد ، وبارتقاء القنن ، وبغير ذلك ما هو منعة ، ومنه الأعصم في الجبل ، ومنه عصمة النكاح ، و «الحبل » في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به ، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ، ونسبة بينهما ، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئاً بشيء ، وتسمى العهود والمواثيق حبالاً ، ومنه قول الأعشى{[3382]} :
وإذَا تَجَوَّزَها حِبالُ قَبِيلَةٍ . . . أَخَذَتْ مِنَ الأَدْنَى إِلَيْكَ حِبَالهَا
إني بحبلِكِ واصلٌ حبلي{[3383]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول الله تعالى : { إلا بحبل من الله وحبل من الناس }{[3384]} واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية { بحبل الله } ، فقال ابن مسعود : «حبل الله » الجماعة ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبيعن فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله : وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده وقال : الجماعة وقرأ ، { واعتصموا بحبل الله جميعاً }{[3385]} » ، وقال ابن مسعود في خطبة : عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به ، وقال قتادة رحمه الله : «حبل الله » الذي أمر بالاعتصام به هوا لقرآن ، وقال السدي : «حبل الله » كتاب الله ، وقاله أيضاً ابن مسعود والضحاك ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض »{[3386]} ، وقال أبو العالية : «حبل الله » في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد : «حبل الله » هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض ، وقوله تعالى : { جميعاً } حال من الضمير في قوله ، { اعتصموا } ، فالمعنى : كونوا في اعتصامكم مجتمعين : { ولا تفرقوا } يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلاف أمتي رحمة »{[3387]} ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج ، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها ، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة ، وحينئذ نزلت هذه الآية ، فهي في الأوس والخزرج ، كانت بينهم عداوة وحروب ، منها يوم بعاث وغيره ، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة ، حتى رفعها الله بالإسلام ، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجاً ، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم ، وتلا عليهم القرآن ، كما كان يصنع مع قبائل العرب ، فآمنوا به وأراد الخروج معهم ، فقالوا يا رسول الله : إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب ، خفنا أن لا يتم ما نريده منك ، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ، ونداخل الناس ، وموعدنا وإياك العام القابل ، فمضوا وفعلوا ، وجاءت الأنصار في العام القابل ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، فيهم خمسة من الستة الأولين ، ثم جاؤوا من العام الثالث ، فكانت بيعة العقبة ، الكبرى ، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيباً ، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام{[3388]} ، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين ، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب ، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما رأى النفر من الأنصار محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه ، والوجه الآخر ، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم ، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان ، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة ، وذكرهم بها ، وقوله تعالى : { فأصبحتم } عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع{[3389]} : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
و «الإخوان » جمع أخ ، ويجمع إخوة ، وهذان أشهر الجمع فيه ، على ان سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع ، وليس ببناء جمع لأن فعلاً لا يجمع على فعلة ، قال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، والأخ في النسب يجمع إخوة : هكذا كثر استعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }{[3390]} وفيه ، { أو بني إخوانهن }{[3391]} ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب ، ويقالان في الدين ، و «الشفا » حرف كل جرم له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه ، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى ، كقوله { شفا جرف }{[3392]} وإلى الأسفل كقوله { شفا حفرة } ، ويثنى شفوان ، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام ، والضمير في { منها } عائد على النار ، أو على «الحفرة » ، العود على الأقرب أحسن ، وقال بعض الناس حكاه الطبري : إن الضمير عائد على «الشفا » ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، فالآية كقول جرير :
رَأَتْ مَرَّ السنينِ أَخَذْنَ مِنّي . . . كَمَا أَخذَ السّرارُ مِنَ الهِلاَلِ{[3393]}
قال القاضي : وليس الأمر كما ذكر ، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم تجد معاداً للضمير إلا «الشفا » ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى : { كذلك يبين لكم آياته } إشارة إلى ما بين في هذه الآيات ، أي فكذلك يبين لكم غيرها ، وقوله ، { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء{[3394]} .