قوله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } ، الآية . قال مسروق ، وقتادة ، والضحاك : أراد ليس بأمانيكم أيها المسلمون ، ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى ، وذلك أنهم افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نبينا خاتم الأنبياء ، وكتابنا يقضي على الكتب ، وقد آمنا بكتابكم ، ولم تؤمنوا بكتابنا ، فنحن أولى . وقال مجاهد : أراد بقوله : { ليس بأمانيكم } يا مشركي أهل الكتاب ، وذلك أنهم قالوا : لا بعث ولا حساب ، وقال أهل الكتاب { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } [ البقرة : 80 ] { ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } [ البقرة :111 ] فأنزل الله تعالى : { ليس بأمانيكم } . أي : ليس الأمر بالأماني ، وإنما الأمر بالعمل الصالح .
قوله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة : الآية عامة في حق كل عامل ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين ، وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً غيرك فكيف الجزاء ؟ قال : " منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ، ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشر ، وبقيت له تسع حسنات ، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره " . وأما من يكون جزاؤه في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته ، فيلقى مكان كل سيئة حسنة ، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة ، فيؤتي كل ذي فضل فضله .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد العبدوسي ، ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد ، ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحارث بن محمد قالا : ثنا روح هو ابن عبادة ، ثنا موسى بن عبيدة ، أخبرني مولى بن سباع قال : سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : " كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه هذه الآية : { من يعمل سوءاً يجز به }
قوله تعالى : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ، ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟ قال : قلت بلى ، قال : فأقرأنيها ، قال : ولا أعلم إلا أني وجدت انفصاماً في ظهري ، حتى تمطيت لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أبا بكر ؟ فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، وأينا لم يعمل سوءاً ، إنا لمجزيون بكل سوء عملناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا ، حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة .
قال قتادة : ذُكرَ لنا أنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ]{[8356]} } الآية . فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان .
وكذا روي عن السّدي ، ومسروق ، والضحاك وأبي صالح ، وغيرهم وكذا رَوَى العَوْفيّ عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : تخاصَمَ أهل الأديان فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء . وقال أهل الإنجيل مثل ذلك . وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام . وكتابنا نَسَخَ كلّ كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأُمرْتُم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا . فقضى الله بينهم فقال : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وخَيَّر بين الأديان فقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ]{[8357]} } إلى قوله : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا }
وقال مجاهد : قالت العرب : لن نبْعث ولن نُعذَّب . وقالت اليهود والنصارى : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 ] وقالوا { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] .
والمعنى في هذه الآية : أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال : " إنه هو المُحق " سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ؛ ولهذا قال تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله ، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام ؛ ولهذا قال بعده : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } كقوله { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أخْبرْتُ أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فَكُل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " غَفَر اللَّهُ لكَ يا أبا بكر ، ألستَ تَمْرضُ ؟ ألستَ تَنْصَب ؟ ألست تَحْزَن ؟ ألست تُصيبك اللأواء{[8358]} ؟ " قال : بلى . قال : " فهو ما تُجْزَوْنَ به " .
ورواه سعيد بن منصور ، عن خلف بن خليفة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يَعلى ، عن أبي خَيْثَمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري ، عن إسماعيل به{[8359]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : سمعت أبا بكر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سُوءًا يُجْزَ بِهِ في الدنيا " {[8360]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن هُشَيْم بن جُهَيْمَة ، حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال : قال عبد الله بن عمر : انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبًا ولا تمرُّنَّ عليه . قال : فسها الغلام ، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال : يغفر الله لك ثلاثًا ، أما والله ما علمتك إلا صوّامًا قوّامًا وصّالا{[8361]} للرحم ، أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما أصبتَ ألا يعذبك الله بعدها . قال : ثم التفت إلي فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءًا في الدنيا يجز به " .
ورواه أبو بكر البزار في مسنده ، عن الفضل بن سهل ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، به{[8362]} مختصرا . وقد قال في مسند ابن الزبير : حدثنا إبراهيم بن المستمر العُروفي{[8363]} حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حَيّان ، حدثني أبي ، عن جدي حيان بن بسطام ، قال : كنت مع ابن عمر ، فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب ، فقال : رحمك الله أبا خُبيب ، سمعت أباك - يعني الزبير - يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءًا يُجْزَ به في الدنيا والأخرى " ثم قال : لا نعلمه يروي عن الزبير إلا من هذا الوجه . {[8364]}
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني مولى بن سِبَاع قال : سمعت ابن عمر يحدث ، عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ، هل أقرئك آية نزلت علي ؟ " قال : قلت : بلى يا رسول الله . فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصَامًا في ظهري حتى تمطأت{[8365]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مالك يا أبا بكر ؟ " قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجْزيُّون بكل سوء عملناه ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فَتُجْزَوْنَ بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ، وليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة " .
وهكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى ، وعبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، به . ثم قال : وموسى بن عبيدة يضعف ، ومولى بن سباع مجهول{[8366]} .
[ وقال ابن جرير : حدثنا الغلام ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لمَّا نزلت قال أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما هي المصائب في الدنيا " ]{[8367]} .
طريق أخرى عن الصديق : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، حدثنا محمد بن عامر السعدي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن سليمان بن مهران ، عن مسلم بن صُبَيح ، عن مسروق قال : قال أبو بكر [ الصديق ]{[8368]} يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء " {[8369]} .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي ، حدثنا محمد بن زيد بن قُنْفُذ{[8370]} عن عائشة ، عن أبي بكر قال : لما نزلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : " يا أبا بكر ، أليس يصيبك كذا وكذا ؟ فهو كفارة " {[8371]} .
حديث آخر : قال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، أن يزيد بن أبي يزيد حدثه ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة : أن رجلا تلا هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقال : إنا لنُجْزَى بكل عَمَل{[8372]} ؟ هلكنا إذًا . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " نعم ، يجزى به المؤمن في الدنيا ، في نفسه ، في جسده ، فيما يؤذيه " {[8373]} .
طريق{[8374]} أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن بشير ، حدثنا هُشَيْم ، عن أبي عامر ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني لأعلم أشد آية في القرآن . فقال : " ما هي يا عائشة ؟ " قلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقال : " هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها " .
رواه ابن جرير من حديث هشيم ، به . ورواه أبو داود ، من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز{[8375]} به{[8376]} .
طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقالت : ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عائشة ، هذه مبايعة الله للعبد ، مما يصيبه من الحمى والنَّكْبَة والشوكة ، حتى البضاعة فيضعها في كُمِّه فيفزع لها ، فيجدها في جيبه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير " {[8377]} .
طريق أخرى : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن{[8378]} إبراهيم ، حدثنا أبو القاسم ، حدثنا سُرَيج{[8379]} بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن زيد بن المهاجر ، عن عائشة قالت : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال : " إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفَيْظ{[8380]} عند الموت " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحَزَن ليُكَفِّرها عنه " {[8381]} .
حديث آخر : قال سعيد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمر بن عبد الرحمن بن مُحَيْصِن ، سمع محمد بن قيس بن مَخْرَمَة ، يخبر أن أبا هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } شَقّ ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سَدِّدوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يُشَاكها ، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا " .
وهكذا رواه أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، ومسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به{[8382]} ورواه ابن مَردُويه من حديث روح ومعتمر كلاهما ، عن إبراهيم بن يزيد{[8383]} عن عبد الله بن إبراهيم ، سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الآية : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ، ما أبقت هذه الآية من شيء . قال : " أما والذي نفسي بيده إنّها لكما نزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسَدِّدوا ؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكم في الدنيا إلا كفَّر الله بها خطيئته ، حتى الشوكة يُشَاكها أحدكم في قدمه " {[8384]} .
وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة : إنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما يصيب المؤمن من نَصب ولا وَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن ، حتى الهم يُهَمّه ، إلا كُفّر به من سيئاته " أخرجاه{[8385]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سعد بن إسحاق ، حدثتني زينب بنت كعب بنُ عُجْرَة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ؟ ما لنا بها ؟ قال : " كفارات " . قال أبي : وإن قَلَّتْ ؟ قال : " وإن شوكة فما فوقها " قال : فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الْوَعْك حتى يموت ، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة ، ولا جهاد في سبيل الله ، ولا صلاة مكتوبة في جماعة ، فما مسه إنسان إلا وجد حره ، حتى مات ، رضي الله عنه . تفرد به أحمد{[8386]} .
حديث آخر : روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ؟ قال : " نعم ، ومن يعمل حسنة يُجزَ بها عشرا . فهلك من غلب واحدته{[8387]} عشرًا " {[8388]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال : الكافر ، ثم قرأ : { وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] .
وهكذا رُوي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير : أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا .
وقوله : { وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه . رواه ابن أبي حاتم .
والصحيح أن ذلك عامٌّ في جميع الأعمال ، لما تقدم من الأحاديث ، وهذا اختيار ابن جرير ، والله أعلم .
الأظهر أنّ قوله : { ليس بأمانيكم } استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال ، والتشويه بمساويها ، وأنّ في ( ليس ) ضميراً عائداً على الجزاء المفهوم من قوله : { يجز به } ، أي ليس الجزاء تابعاً لأماني الناس ومشتهاهم ، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديراً بحسب الأعمال ، وممّا يؤيّد أن يكون قوله : { ليس بأمانيكم } استئنافاً ابتدائياً أنّه وقع بعد تذييل مُشعر بالنهاية وهو قوله : { ومن أصْدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] . ومِمّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهاماً في الضمير ، ثم بياناً له بالحملة بعده ، وهي : { من يعمل سوءاً يجز به } ؛ وأنّ فيه تقديم جملة { ليس بأمانيكم } عن موقعها الذي يُترقّب في آخر الكلام ، فكان تقديمها إظهاراً للاهتمام بها ، وتهيئةً لإبهام الضمير . وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم . وجملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئناف بياني ناشىء عن جملة { ليس بأمانيكم } لأنّ السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل . ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسّرناه . وجعل صاحب « الكشاف » الضمير المستتر عائداً على وعد الله ، أي ليس وعدّ الله بأمانيّكم ؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالاً من { وعْدَ الله } [ النساء : 122 ] ، وتكون جملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئنافاً ابتدائياً محضاً .
روي الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى أبي صالح ، وروى ابن جرير بسنده إلى مسروق ، وقتادةَ ، والسدّي ، والضحاك ، وبعضُ الروايات يزيد على بعض ، أنّ سبب نزولها : أنّه وقع تحاجّ بين المسلمين وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، كلّ فريق يقول للآخرين : نحن خير منكم ، ويحتجّ لذلك ويقول : لن يدخل الجنة إلاّ من كان على ديننا . فأنزل الله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } الآيات مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله ، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى ، فبطل قول النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة ، فبطل قول المسلمين واليهود : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكماً فصلاً بين الفرق ، وتعليماً لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح ، وتوفّر العمل الصالح معه ، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } . ثم إنّ الله لَوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله : { وهو مؤمن } فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ ، فهو كالعدم ، فعقّب هذه الآية بقوله : { ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه الله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً }
[ النساء : 125 ] . والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين ، لا لأنّ أمانيّهم كذلك ، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم . وعن عكرمة : قالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان منّا . وقال المشركون : لا نُبْعث .
والباء في قوله : { بأمانيكم } للملابسة ، أي ليس الجزاء حاصلاً حصولاً على حسب أمانيّكم ، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية .
والأمانيّ جمع أمنية ، وهي اسم للتمنّي ، أي تقدير غير الواقع واقعاً . والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة . وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ } في سورة البقرة ( 78 ) . وكأنَّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد ، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به . وما وافقه هو الحقّ ، والمقصد المهمّ هو قوله : { ولا أمانيّ أهل الكتاب } على نحو : { وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] فإنّ اليهود كانوا في غرور ، يقولون : لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة . وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله : { وقالوا لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] { تلك أمانيّهم } [ البقرة : 111 ] . أمّا المسلمون فمُحاشون من اعتقاد مثل ذلك .
وقيل : الخطاب لكفار العرب ، أي ليس بأمانيّ المشركين ، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله ، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله ، وهو محمل للآية .
وقوله : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } زيادة تأكيد ، لردّ عقيدة من يتوهّم أنّ أحداً يغني عن عذاب الله .
والوليّ هو المولى ، أي المشارك في نسب القبيلة ، والمراد به المدافع عن قريبه ، والنصيرُ الذي إذا استنجدته نصرَك ، أو الحليف ، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب}، نزلت في المؤمنين واليهود والنصارى، قالت اليهود: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أهدى وأولى بالله منكم. وقالت النصارى: نبينا كلمة الله وروح الله وكلمته، وكان يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وفي كتابنا العفو، وليس فيه قصاص، فنحن أولى بالله منكم معشر اليهود ومعشر المسلمين. فقال المسلمون: كذبتم، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وآمنا بنبيكم وكتابكم، وكذبتم نبينا وكتابنا، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا، فنحن أهدى منكم وأولى بالله منكم، فأنزل عز وجل: {ليس بأمانيكم} معشر المؤمنين {ولا أماني أهل الكتاب} {من يعمل سوءا يجز به}، نزلت في المؤمنين مجازات الدنيا تصيبهم في النكبة بحجر، والضربة واختلاج عرق أو خدش عود، أو عثره قدم فيدميه أو غيره، فبذنب قدم، وما يعفو الله عنه أكبر، فذلك قوله سبحانه: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى: 30). ثم قال: {ولا يجد له من دون الله وليا}، يعني قريبا ينفعه، {ولا نصيرا} يعني ولا مانعا يمنعه من الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}؛ فقال بعضهم: عُني بقوله {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ}: أهل الإسلام. عن مسروق، قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم قال: فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.
عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبيّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فأنزل الله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}... إلى قوله: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا} فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
وقال آخرون: بل عنى الله بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}: أهل الشرك به من عبدة الأوثان. عن مجاهد، في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: قريش قالت: لن نُبعث ولن نُعذّب.
أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى آخر الآية، قال: جاء حيي بن أخطب إلى المشركين، فقالوا له: يا حُيَيّ إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: أنتم خير منه. فذلك قوله: {ألَمْ تَرَ إَلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}... إلى قوله: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيرا}. ثم قال للمشركين: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} فقرأ حتى بلغ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا}. قال: ووعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ولم يَعِد أولئك، وقرأ: {وَالّذِين آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أحْسَنَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقال آخرون: عُني به أهل الكتاب خاصة.
وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد من أنه عنى بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} وإنما جرى ذكر أمانيّ نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله: {وَلأُمَنّيَنّهُمْ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} وقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} فإلحاق معنى قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} بما قد جري ذكره قبل أحقّ وأولى من ادّعاء تأويل فيه لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذن: ليس الأمر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه التي يمنيكموها وليكم عدوّ الله من إنقاذكم ممن أرادكم بسوء، ونصرتكم عليه، وإظفاركم به، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاء عمله، من يعمل منكم سوء، أو من غيركم يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.
ومما يدلّ أيضا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركو العرب كما قال مجاهد: إن الله وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه، وأخبر بحال وعده، الصادق بقوله: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْ خِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدا وَعْدَ اللّهِ حَقّا} وقد ذكر جلّ ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه، وتمنيته إياهم الأماني بقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} كما ذكر وعد إياهم، فالذي هو أشبه أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عدّته إياهم به من الصفة. وإذ كان ذلك كذلك صحّ أن قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ...}، إنما هو خبر من الله عن أمانيّ أولياء الشيطان وما إليه صائرة أمانيهم مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمّ جلّ ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله: {وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ولآمُرْنّهُمْ}.
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: عنى بالسوء: كلّ معصية لله، وقالوا: معنى الآية: من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله، يجازه الله بها... عن الربيع بن زياد، قال: قلت لأبيّ بن كعب، قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا! قال: والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى! لا يصيب رجلاً خدش ولا عثرة إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة.
عن أبي المهلب، قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا.
وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءا من أهل الكفر يجز به... عن الضحاك: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} يعني بذلك: اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
وقال آخرون: معنى السوء في هذا الموضع: الشرك. قالوا: وتأويل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}: من يشرك بالله يجز بشركه ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.
وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية، التأويل الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب وعائشة، وهو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر، جوزي به. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لعموم الآية كل عامل سوء، من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد، فهي على عمومها إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره؟ قيل: إنه لم يعد بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} ترك المجازاة عليها، وإنما وَعَد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم، كما فضح أهل الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها ليوافوه ولا ذنب لهم، يستحقون المجازاة عليه، فإنما وفي لهم بما وعدهم بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: {والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنْدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ}.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو كريب، وسفيان بن وكيع ونصر بن عليّ وعبد الله بن أبي زياد القَطَواني، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} شقّت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكَوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قَاربوا وسَدّدُوا، ففي كل ما يُصَابُ به المسلم كَفّارَةٌ، حتّى النّكْبَة يُنْكَبُها، أو الشوكة يُشَاكّها».
حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي، قالا: حدثنا يزيد بن حيان، قالا: حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي، قال: حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر، قال: لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: يا رسول الله، كلّ ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال: «يا أبا بَكْرٍ ألَيْس يُصِيبُك كَذَا وكَذَا؟ فَهُوَ كَفّارتُهُ».
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا أبو عامر الخراز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت: إني لأعلم أيّ آية في كتاب الله أشدّ! فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيّ آية؟» فقلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: «إنّ المؤمِنَ ليُجَازَى بأَسْوَإ عَمَلِهِ في الدّنْيا»، ثم ذكر أشياء منهنّ المرض والنصب، فكان آخره أن ذكر النكبة، فقال: «كُلّ ذِي عمل يُجْزَى بِعَمَلِهِ يا عائِشَةُ، إنّهُ لَيْسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ يُعَذّبُ». فقلت: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابا يَسِيرا}؟ فقالَ: «ذَاكِ عِنْدَ العَرْض، إنّهُ مِنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذّبَ»، وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت.
{وَلا يَجِدِ} الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف ما أمره به، {مِنْ دُونِ اللّهِ}: من بعد الله وسواه، {وَلِيّا} يلي أمره، ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله، {وَلا نَصِيرا} يعني: ولا ناصرا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نكاله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} أخبر عز وجل أن الأمر ليس بالأماني، ولكن إلى الله عز وجل، فهو، والله أعلم، يحتمل أن يكون بالمنزلة والقدر عند الله...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في الكلام مضمر محذوف وتقديره ليس الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، أي لا يستحق بالأماني وإنما يستحق بالأعمال الصالحة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
في {لَّيْسَ} ضمير وعد الله، أي ليس ينال ما وعد الله من الثواب {بأمانيكم وَلا} ب {أَمَانِي أَهْلِ الكتاب} والخطاب للمسلمين لأِنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به، وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد الله. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا في الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظنّ بالله لأحسنوا العمل له...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
قوله: {ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} قال ابن عباس: يريد ولياً يمنعه ولا نصيراً ينصره فإن قلنا إن هذه الآية خاصة في حق الكفار فتأويلها ظاهر وإن قلنا إنها في حق كل عامل سوء من مسلم وكافر فإنه لا ولي لأحد من دون الله يوم القيامة ولا ناصر. فالمؤمنون لا ولي لهم غير الله وشفاعة الشافعين تكون بإذن الله فليس يمنع أحد أحداً عن الله...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
المعنى في هذه الآية: أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال:"إنه هو المُحق" سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} كقوله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
الأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، وهي ما يتشهَّاهُ المَرْءُ، ويُطَمِّعُ نفسه فيه،... قال جمهورُ النَّاس: لفظ الآية عَامٌّ، فالكافر، والمؤمنُ مُجَازًى، فأما مُجازاتُ الكافر، فالنَّار، وأما مُجَازاةُ المؤمِنِ، فبِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا، فَمَنْ بقي له سُوءٌ إلى الآخرة، فهو في المشيئة يغفر اللَّه لِمَنْ يشاء، ويجازِي مَنْ يشاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر تعالى عما أعد لهم ولمن أضلهم من العقاب وعما أعد للمؤمنين من الثواب، وكانوا يمنون أنفسهم الأماني الفارغة من أنه لا تبعة عليهم في التلاعب بالدين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويشجعهم على ذلك أهل الكتاب ويدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، لا يؤاخذهم بشيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى أو من شفعوا فيه، ونحو هذه التكاذيب... لما كان ذلك قال تعالى راداً على الفريقين: {ليس} أي ما وعده الله وأوعده {بأمانيكم} أي أيها العرب {ولا أماني أهل الكتاب} أي التي يمنيكم جميعاً بها الشيطان. ولما كانت أمانيهم أنهم لا يجازون بأعمالهم الخبيثة، أنتج ذلك لا محالة قوله: {ومن يعمل سوءاً يجز به} أي بالمصائب من الأمراض وغيرها، عاجلاً إن أريد به الخير، وآجلا إن أريد به الشر، وما أحسن إيلاؤها لتمنيه الشيطان المذكورة في قوله {يعدهم ويمنيهم} [النساء: 120] فيكون الكلام وافياً بكشف عوار شياطين الجن ثم الإنس في غرورهم لمن خف معهم مؤيساً لمن قبل منهم، وما أبدع ختامها بقوله: {ولا يجد له} ولما كان كل أحد قاصراً عن مولاه، عبر بقوله: {من دون الله} أي الذي حاز جميع العظمة {ولياً} أي قريباً يفعل معه ما يفعل القريب {ولا نصيراً *} أي ينصره في وقت ما! وما أشد التئامها بختام أول الآيات المحذرة منهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة} [النساء: 44] إلى قوله {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45] إشارة إلى أن مقصود المنافقين من مشايعة أهل الكتاب ومتابعتهم إنما هو الولاية والنصرة، وأنهم قد ضيعوا منيتهم فاستنصروا بمن لا نصرة له، وتركوا من ليست النصرة إلا له...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يقال في سبب النزول أنه اجتمع نفر من المسلمين واليهود والنصارى وتكلم كل في تفضيل دينه فنزل قوله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} الآية والمعنى بناء على ذلك: ليس شرف الدين وفضله ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم: إن ديني أفضل وأكمل، وأحق وأثبت، وإنما عليه إذا كان موقنا به أن يعمل بما يهديه إليه، فإن الجزاء إنما يكون على العمل لا على التمني والغرور، فلا أمر نجاتكم أيها المسلمون منوطا بأمانيكم في دينكم، ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بأمانيهم في دينهم، فإن الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء إليها والتمدح بها بلوك الألسنة والتشدق في الكلام، بل شرعت للعمل.
قال: والآية مرتبطة بما قبلها سواء صح ما روي في سبب نزولها أم لم يصح لأن قوله تعالى: {يعدهم ويمنيهم} في الآيات التي قبلها يدخل فيه الأماني التي كان يتمناها أهل الكتاب غرورا بدينهم إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص ويقولون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وغير ذلك مما يقولون ويدعون، وإنما سرى هذا الغرور إلى أهل الأديان من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء لذاتهم، فهم بكرامتهم يدخلون الجنة وينجون من العذاب لا بأعمالهم، فحذرنا الله أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى في سورة الحديد {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} [الحديد:16] الآية فهذا خطاب للذين كانوا ضعفاء الإيمان من المسلمين في العصر الأول ولأمثالهم في كل زمان، والله عليم بما كانوا عليه حين أنزل هذه الموعظة وبما آل وما يؤول إليه أمرهم بعد ذلك، ولو تدبروا قوله لما كان لأمثال هذه الأماني عليهم من سلطان فقد بين لهم طرق الغرور ومداخل الشيطان فيها. وقد روي حديث عن الحسن "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل "وقال الحسن: إن قوما غرتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
ثم ذكر الأستاذ الإمام بعد هذا حال مسلمي هذا العصر في غرورهم وأمانيهم ومدح دينهم وتركهم العمل به وبين أصنافهم في ذلك. ومما قاله:
إن كثيرا من الناس يقولون تبعا لمن قبلهم في أزمنة مضت: إن الإسلام أفضل الأديان، أي دين أصلح إصلاحه؟ أي دين أرشد إرشاده؟ أي شرع كشرعه في كماله؟ ولو سئل الواحد منهم: ماذا فعل الإسلام؟ وبماذا يمتاز على غيره من الأديان؟ لا يحير جوابا. وإذا عرضت عليه شبهة على الإسلام وسئل كشفها حاص حيصة الحمر وقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله. والضال يبقى على ضلاله، والطاعن في الدين يتمادى في طعنه، والمغرور يسترسل في غروره، فالكلام كثير ولا علم ولا عمل يرفع شأن الإسلام والمسلمين. اه ما قاله الأستاذ الإمام بإيضاح لبعض الجمل واختصار في بيان ضروب الغرور وأصناف المغترين.
{من يعمل سوءا يجز به} هذا بيان من الله لحقيقة الأمر في المسألة فإنه لما نفى أن يكون الأمر منوطا بالأماني والتشهيات وغرور الناس بدينهم كان من يسمع هذا النفي جديرا بأن يتشوف إلى استبانة الحق والوقوف على حكم الله فيه، ويجعله موضوع السؤال، فبينه عز وجل بصيغة العموم، والمعنى أن كل من يعمل سوءا يلق جزاءه لأن الجزاء بحسب سنة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف في أتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأماني والظنون فعلى الصادق في دينه المخلص لربه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله ويجعله معيار سعادته لا كون ذلك الكتاب أكمل، وذلك الرسول أفضل فإن من كان دينه أكمل تكون الحجة عليه في التقصير أقوى، وقد روي في التفسير المأثور أن هذه الكلية العامة: "من يعمل سوءا يجز به" راعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأخافته فسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عنها وقال: من ينج مع هذا يا رسول الله؟ فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) (أما تحزن أما تمرض أما يصيبك البلاء؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: (هو ذاك).
وأورد السيوطي في الدر المنثور أحاديث في الجزاء الدنيوي على الأعمال وجعلها تفسيرا للآية. وبعض ما ورد في ذلك مطلق عام ويؤخذ من بعضه أنه خاص بالمؤمنين أو كمَلَتِهم كأبي بكر، وهذا هو الذي مال إليه الأستاذ في الدرس. وإذا طبقنا المسألة على سنة الله التي لا تبديل لها ولا تحويل علمنا أن مصائب الدنيا تكون جزاء على ما يقصر فيه الناس من السير على سنن الفطرة وطلب الأشياء من أسبابها، واتقاء المضرات باجتناب عللها {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى:30] ومن ذلك التقصير ما هو معصية شرعية كشرب الخمر الذي هو علة أمراض كثيرة ومنها ما ليس كذلك. ولما كان عمل السوء يدسي النفس ويدنس الروح كان سببا طبيعيا للجزاء في الآخرة كما تكون الخمر سببا للجزاء في الدنيا بتأثيرها في الكبد والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي بل والمجموع العصبي. فهل يكون المرض الناشئ عن شرب الخمر كفارة للجزاء على شربها في الآخرة ويكون ذلك داخلا في معنى كون مصائب الدنيا كفارات للذنوب وأن من لم يصب بمرض ولا مصيبة بسبب ذنبه يعاقب عليه في الآخرة ويحرم من مثل هذه الكفارة كما إذا شرب الخمر مرة أو مرات لم تؤثر في بدنه تأثيرا شديدا؟ أم المصائب تكون كفارات للذنوب التي هي مسببة عنها ولغيرها مطلقا؟ وكيف ينطبق هذا التكفير على سنة الله في الجزاء الأخروي؟.
الحق في المسألة أنه لا يشذ شيء عن سنن الله تعالى، وأن المصيبة في الدنيا إنما تكون كفارة في الآخرة إذا أثرت في تزكية النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا لقوة الإيمان أو ترك السوء والتوبة منه لظهور ضرره في الدين أو الدنيا، أو الرغبة في عمل صالح بما تحدثه من العبرة، ومن شأن المؤمن المهتدي بكتاب الله تعالى أن يستفيد من المصائب والنوائب فتكون مربية لعقله ونفسه كما بيناه في التفسير وغير التفسير مرارا. ولا يعقل أن تكون كل مصيبة كفارة لذنب أو لعدة ذنوب بل ربما كانت المصيبة سببا لمضاعفة الذنوب واستحقاق أشد العذاب، كالمصائب التي تحمل أهل الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان دع الكفر على ذنوب لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة. والكلام في الآية على جزاء الآخرة بالذات كما يدل عليه مقابله في الآية الأخرى.
أما قوله تعالى: {ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} فمعناه أن من يعمل السوء ويستحق الجزاء عليه بحسب سنن الله تعالى في تأثير عمل السوء تأثيرا تكون عاقبته شرا منه كما قال في سورة أخرى: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء} [الروم:10] لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره، ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحل به، لا من الأنبياء الذين تفاخر ويتفاخر أصحاب الأماني بالانتساب إليهم، ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا، لا على معنى أنها هي الخالقة بل على معنى أنها شافعة وواسطة، فكل تلك الأماني في الشفعاء كأضغاث الأحلام، برق خلب وسحاب جهام، وإنما المدار في النجاة على الإيمان والأعمال، كما صرح به فقال: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا}
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إن مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ} وهذا شامل لجميع العاملين، لأن السوء شامل لأي ذنب كان. من صغائر الذنوب وكبائرها، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير، دنيوي أو أخروي...
وقوله: {وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ}... فليس له ولي يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء.. إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني. إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي. قانون تستوي أمامه الأمم -فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر- وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون.. إن صاحب السوء مجزى بالسوء؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة. ولا محاباة في هذا ولا مماراة:
(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. من يعمل سوءا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا.. ومن يعمل من الصالحات -من ذكر أو أنثى وهو مؤمن- فأولئك يدخلون الجنة، ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله -وهو محسن- واتبع ملة إبراهيم حنيفا، واتخذ الله إبراهيم خليلاً).
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون: (نحن أبناء الله وأحباؤه).. وكانوا يقولون: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة).. وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار!
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس. وأن الله متجاوز عما يقع منهم.. بما أنهم المسلمون..
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:
(ومن يعمل سوء ا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا)..
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا. مهما صلحت، ومهما عملت من حسنات.
كانوا يعرفون النفس البشرية -كما هي في حقيقتها- وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم.. لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه. ومن ثم ارتجفت نفوسهم، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به. ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها، وهذه كانت ميزتهم. أن يحسوا الآخرة على هذا النحو، ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها. لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد!
قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، قال:"أخبرت أن أبا بكر -رضي الله عنه- قال:" يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجز به).. فكل سوء عملناه جزينا به.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر. ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ "قال بلى! قال: "فهو مما تجزون به".. [ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل.]...
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء. ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى. ولقد هزت هذه الآية كيانهم، ورجفت لها نفوسهم، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا. ويعرفون صدق وعد الله حقا. ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم وضح كتاب الله مبدأ من المبادئ الأساسية في العقيدة الإسلامية، وهي أن الجزاء من جنس العمل، والجزاء الحسن مرتبط بالعمل الصالح، وأن مجرد الأماني دون سعي ولا عمل ولا اكتساب للخير لا ينفع المسلمين كما لا ينفع أهل الكتاب، سواء بسواء، ولذلك فإن من يعمل سوءا يجز به ومن يعمل صالحا يجز به، في الدنيا أولا، وفي الآخرة أخيرا، سواء كان العامل ذكرا أو كان أنثى، وذلك قوله تعالى في خطابه للمؤمنين: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123)، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}...
وروى علي بن أبي طالب عن ابن عباس تعقيبا على قوله تعالى: {ولاَ يَجِد لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِياًّ وَلا َنَصِيراً}: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه...
وقوله تعالى (نقيرا) المراد بالنقير النقرة التي في ظهر نواة التمرة، ومما يتصل به لفظ (القطمير)، والمراد به اللفافة التي على نواة التمرة، ولفظ (الفتيل)، والمراد به الخيط الذي في شق النواة، وهذه الألفاظ الثلاثة كلها وردت في القرآن الكريم...
فكلمة "النقير "وردت في القرآن مرتين إحداهما في هذا الربع {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} والثانية في الربع الثاني من الحزب التاسع من هذه السورة {أَم لَهُم نَصِيبٌ مِنَ المُلكِ فَإِذاً لاَّ يُوتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} وكلمة "الفتيل" وردت في القرآن ثلاث مرات، مرتين في هذه السورة سورة النساء، وذلك في قوله تعالى: {بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظلَمُونَ فَتِيلاً} وفي قوله تعالى {قُل مَتَاعُ الدُنيَّا قَلِيلٌ، والآخرة خَيرٌ لِمَن اتَّقَى، ولا َتُظلَمُونَ فَتِيلاُ}. وكلمة "القطمير" وردت في القرآن مرة واحدة في سورة فاطر {والذينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ}...
والأمنية كما عرفنا هي أن يطمح الإنسان إلى شيء ممتع مسعد بدون رصيد من عمل، إن الحق سبحانه وتعالى حينما استخلف الإنسان في الأرض طلب منه أن يستقبل كل شيء صالح في الوجود استقبال المحافظ عليه، فلا يفسد الصالح بالفعل وإن أراد الإنسان طموحا إلى ما يسعد، فعليه أن يزيد الصالح صلاحا. فكم من أناس يعبرون الدنيا وتنقضي حياتهم فيها ولا يصنعون حسنة، فإذا قيل لهم: ولماذا تعيشون الحياة بلا عمل؟ يقولون: أحسنا الظن بالله. ونسمع الحسن البصري يقول لهؤلاء: ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل له. وسبحانه يقول لهؤلاء:"ليس بأمانيكم" أما إن كان الخطاب موجها لغير المؤمنين فالحق لم يمنع عطاء الدنيا لمن أخذ بالأسباب حتى ولو لم يؤمن، أما جزاء الآخرة فهو وعد منه سبحانه للمؤمنين الذين عملوا صالحا وهو الوعد الحق هذا الوعد الحق ليس بالأماني بل إن الوصول إلى هذا الوعد يكون بالعمل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
يوحي لكل أتباع الأديان أن لا يستسلموا للأماني الذاتية بأن انتسابهم إليه يحقق لهم النتائج الجيدة على مستوى النعيم والفوز بالجنة في الآخرة، بعيداً عن العمل في هذا الاتجاه، فالله يريد للحياة أن تتحرك في الخطوط التي خططها في رسالاته، ويريد للإنسان أن يكون خليفته في الأرض من خلال ما يقوم به من بناء الحياة في نفسه وفي نفوس الآخرين وفي كل ما يتعلق بمسؤوليته الفردية والاجتماعية؛ فإذا لم يتحقق ذلك، كان هذا دليلاً على فقدانه للصدق في الإيمان، وبالتالي على خسرانه لكل نتائجه الإيجابية على مستوى المصير. ويتفرع عن ذلك، أن الإنسان المؤمن لا يخضع في تقييمه للعلاقات الإيمانية لمجرد الانتماء إلى الدين، بل يحاول أن يرتكز على العمل كأساس للتقييم، لأن المبدأ الذي تتحدث عنه الآية ليس مجرد مبدأ يتصل بتعامل الله مع الإنسان، بل يتصل بالصفة الحقيقية للانتماء؛ وفي ضوء ذلك يمكن أن تكون الآية واردة في الإشارة إلى قصة المسلم الذي سرق وأراد قومه تبرئته وإلصاق التهمة باليهودي، على أساس أن انتماءه للإسلام يبرّر ذلك؛ فجاءت الآيات هنا لتقول لهم: إن قيمة الانتماء إلى الإسلام تتحدد بمقدار الإخلاص العملي له، وذلك بالالتزام بالأمانة، وعدم الدفاع عن الخائنين، وعدم اتهام الناس بدون حق، أيّاً كان دينهم وعقيدتهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد بيّنت هذه الآية واحداً من أهم أعمدة أو أركان الإِسلام، هو أنّ القيمة الوجودية لأي إنسان وما يناله من ثواب أو عقاب، لا تمت بصلة إِلى دعاوى وأُمنيات هذا الإِنسان مطلقاً، بل أن تلك القيمة ترتبط بشكل وثيق بعمل الإِنسان وإِيمانه وأنّ هذا مبدأ ثابت، وسنّة غير قابلة للتغيير، وقانون تتساوى الأُمم جميعها أمامه، ولذلك تقول الآية في بدايتها: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...) وتستطرد فتقول: (من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً)...