قوله تعالى : { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون* ألا يسجدوا } قرأ أبو جعفر والكسائي : ألا يسجدوا بالتخفيف ، وإذا وقفوا يقولون : ألا يا ، ثم يبتدئون : اسجدوا على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، وجعلوه أمراً من عند الله مستأنفاً ، وحذفوا هؤلاء اكتفاءً بدلالة يا عليها ، وذكر بعضهم سماعاً من العرب : ألا يا ارحمونا ، يريدون ألا يا قوم ، وقال الأخطل : ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر *** وإن كان حيانا عداً آخر الدهر
يريد : ألا يا هند اسلمي وعلى هذا يكون قوله ( إلا ) كلاماً معترضاً من غير القصة ، إما من الهدهد ، وإما من سليمان . قال أبو عبيدة : هذا أمر من الله مستأنف يعني : ألا يا أيها الناس اسجدوا . وقرأ الآخرون : ألا يسجدوا بالتشديد ، بمعنى : وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا ، { لله الذي يخرج الخبء } أي : الخفي المخبأ ، { في السموات والأرض } أي : ما خبأت . قال أكثر المفسرين : خبء السماء : المطر ، وخبء الأرض : النبات . وفي قراءة عبد الله : يخرج الخبء من السموات والأرض ، ومن وفي يتعاقبان ، تقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد : منكم . وقيل : معنى الخبء الغيب ، يريد : يعلم غيب السموات والأرض . { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } قرأ الكسائي ، وحفص ، عن عاصم : بالتاء فيهما ، لأن أول الآية خطاب على قراءة الكسائي بتخفيف ألا ، وقرأ الآخرون بالياء .
وقوله : { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ } [ معناه : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ } ] {[22021]} أي : لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من شيء من الكواكب وغيرها ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] .
وقرأ بعض القراء : " ألا يا اسجدوا لله " جعلها " ألا " الاستفتاحية ، و " يا " للنداء ، وحذف المنادى ، تقديره عنده : " ألا يا قوم ، اسجدوا لله " .
وقوله : { الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغير واحد .
وقال سعيد بن المسيب : الخَبْء : الماء . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : خبء السموات والأرض : ما جعل فيها من الأرزاق : المطر من السماء ، والنبات من الأرض .
وهذا مناسب من كلام الهدهد ، الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره ، من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض ودواخلها .
وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي : يعلم ما يخفيه العباد ، وما يعلنونه من الأقوال والأفعال . وهذا كقوله تعالى : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ الرعد : 10 ] .
وقوله { ألا يسجدوا } إلى قوله { العظيم } ظاهره أنه من قول الهدهد ، وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ويعترض بأنه غير مخاطب ، فكيف يتكلم في معنى شرع ، [ ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم ]{[9007]} ، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضاً بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل ، وقراءة التشديد في «ألاَّ » تعطي أن الكلام للهدهد ، وقراءة التخفيف تمنعه وتقوي الآخر حسبما يتأمل إن شاء الله ، وقرأ جمهور القراء «ألا يسجدوا » ف «أن » في موضع نصب على البدل من { أعمالهم } وفي موضع خفض على البدل من { السبيل } أو يكون التقدير لأن لا يسجدوا ف «أن » متعلقة إما ب «زين » وإما ب «صدهم » ، واللام الداخلة على «أن » داخلة على مفعول له{[9008]} ، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري وأبو عبد الرحمن والحسن والكسائي وحميد : «ألا » على جهة الاستفتاح ووقف الكسائي من هذه الفرقة على يا ، ثم يبتدىء «اسجدوا »{[9009]} ، واحتج الكسائي لقراءته هذه بأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه موضع سجدة .
قال القاضي أبو محمد : وهذه القراءة مقدر فيها النداء والمنادى محذوف تقديره إن جعلناه اعتراضاً يا هؤلاء ويجيء موضع سجدة ، وإن جعلناه من كلام الهدهد يا قوم أو يا عقلاء ونحو هذا ومنه قول الشاعر :
«ألا يا سلمي » يا دار ميَّ على البلا *** ولا زال منهلا بجرعائك القطر{[9010]}
ونحو قول الآخر وهو الأخطل : [ الطويل ]
ألا يا أسلمي يا هند هند بني بدر . . . وإن كان حيانا عدًى آخر الدهر{[9011]}
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطة . . . فقلت سمعنا فاسمعي واصمتي{[9012]}
ويحتمل قراءة من شدد : «ألاَّ » أن يجعلها بمعنى التخصيص ، ويقدر هذا النداء بعدها ويجيء في الكلام إضمار كثير ولكنه متوجه ، وسقطت الألف كما كتبت في يا عيسى ويا قوم ، وقرأ الأعمش «هل لا يسجدون » ، وفي حرف عبد الله بن معسود «ألا هل تسجدون » بالتاء ، وفي قراءة أبيّ : «ألا هل تسجدوا » بالتاء أيضاً ، و { الخبء } الخفي من الأمور وهو من خبأت الشيء ، و «خبء » السماء مطرها ، و «خبء » الأرض كنوزها ونباتها ، واللفظة بعد هذا تعم كل خفيّ من الأمور وبه فسر ابن عباس ، وقرأ جمهور الناس «الخبْء » بسكون الباء والهمز{[9013]} ، وقرأ أبي بن كعب «الخبَ ، بفتح الباء وترك الهمز ، وقرأ عكرمة » الخبا «بألف مقصورة ، وحكى سيبويه أن بعض العرب يقلب الهمزة إذا كانت في مثل هذا مفتوحة وقبلها ساكن يقلبها ألفاً ، وإذا كانت مضمومة وقبلها ساكن قلبها واواً ، وإذا كانت مكسورة قلبها ياء ومثل سيبويه ذلك بالوثا والوثو والوثي{[9014]} ، وكذلك يجيء { الخبء } في حال النصب وتقول اطلعت على الخبي وراقني الخبو وقرأ جمهور القراء » يخفون «و » يعلنون «بياء الغائب .
قال القاضي أبو محمد : وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص «تخفون وما تعلنون » بتاء الخطاب ، وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف أبي بن كعب «ألا يسجدوا والله الذي يخرج الخبء من السماوات والأرض ويعلم سركم وما تعلنون » .