المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

173- وليس المحرم ما زعمه المشركون وما زعمه اليهود ، وإنما المحرم عليكم - أيها المؤمنون - الميتة التي لم تذبح من الحيوان ، ومن الدم المسفوح ، ومثله في التحريم لحم الخنزير ، وما ذكر على ذبحه اسم غير الله من الوثن ونحوه ، على أن من اضطر{[10]} إلى تناول شيء من هذه المحظورات لجوعٍ لا يجد ما يدفعه غيرها أو لإكراه على أكله فلا بأس عليه ، وليتجنب سبيل الجاهلية من طلب هذه المحرمات والرغبة فيها ولا يتجاوز ما يسد الجوع .


[10]:حال الاضطرار تسوغ ما يحرم لأن الموت المؤكد أشد من الضرر المحتمل، ولأن الجائع تتنبه أجهزة هضمه فيتغلب على المواد الضارة، ولذا لا يصح للمضطر أن يتجاوز حالة الضرورة.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة } . قرأ أبو جعفر الميتة في كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض . والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح .

قوله تعالى : { والدم } . أراد بالدم الجاري يدل عليه قوله تعالى ( أو دماً مسفوحاً ) . واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ، ومن الدم الكبد والطحال فأحلها .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا ميتتان ودمان ، الميتتان الحوت والجراد ، والدمان ، أحسبه قال : الكبد والطحال " .

قوله تعالى : { ولحم الخنزير } . أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه .

قوله تعالى : { وما أهل به لغير الله } . أي ما ذبح للأصنام والطواغيت ، وأصل الإهلال رفع الصوت . وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح . وإن لم يجهر بالتسمية مهل . وقال الربيع بن أنس وغيره وما أهل به لغير الله قال ما ذكر عليه اسم غير الله .

قوله تعالى : { فمن اضطر } . بكسر النون وأخواته قرأ عاصم وحمزة ، ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) " ويعقوب " إلا في الواو ، ووافق ابن عامر في التنوين ، والباقون كلهم بالضم ، فمن كسر قال : لأن الجزم يحرك إلى الكسر ، ومن ضم فضمه أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها ، وأبو جعفر بكسر الطاء ، ومعناه فمن اضطر إلى أكل ميتة أي أحوج وألجئ إليه .

قوله تعالى : { غير } . نصب على الحال ، وقيل على الاستثناء وإذا رأيت غير ، لا يصلح في موضعها " إلا " فهي حال ، وإذا صلح في موضعها " إلا " فهي استثناء .

قوله تعالى : { باغ ولا عاد } . أصل البغي قصد الفساد ، يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترامى إلى الفساد ، وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال عدا عليه عدواً وعدواناً إذا ظلم . واختلفوا في معنى قوله غير باغ ولا عاد فقال بعضهم : غير باغ أي : خارج على السلطان ، ولا عاد : متعد عاص بسفره ، بأن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض . وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير . وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص المسافر حتى يتوب ، وبه قال الشافعي : لأن إباحته له إعانة له على فساده ، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل واختلفوا في تفصيله . فقال الحسن وقتادة : غير باغ بأكله من غير اضطرار . ولا عاد أي لا يعدو لشبعه . وقيل غير باغ أي غير طالبها وهو يجد غيرها ولا عاد أي غير متعد ما حد له فما يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منها قوتاً مقدار ما يمسك رمقه . وقال مقاتل بن حيان : غير باغ أي مستحل لها . ولا عاد أي متزود منها . وقيل غير باغ أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له ، ولا عاد أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه ، قال مسروق : من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار .

واختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميتة ، فقال بعضهم : مقدار ما يسد رمقه . وهو قول أبو حنيفة رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي . والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه الله تعالى . وقال سهل بن عبد الله : غير باغ مفارق للجماعة ، ولا عاد : مبتدع مخالف للسنة ، ولم يرخص للمبتدع في تناوله المحرم عند الضرورة .

قوله تعالى : { فلا إثم عليه } . فلا حرج عليه في أكلها .

قوله تعالى : { إن الله غفور } . لمن أكل في حال الاضطرار .

قوله تعالى : { رحيم } . حيث رخص للعباد في ذلك .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

ولما امتن تعالى عليهم برزقه ، وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة ، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية ، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو مُتَردِّية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع .

وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [ المائدة : 96 ] على ما سيأتي ، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله ، عليه السلام ، في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا : " أحل لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال " وسيأتي تقرير ذلك في سورة المائدة{[3058]} .

ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره ؛ لأنه جزء منها . وقال مالك في رواية : هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة ، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة ، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس ، فقال القرطبي في تفسيره هاهنا : يخالط اللبن منها يسير ، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع . وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال : " الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " {[3059]} .

وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذُكِّي أو مات حَتْف أنفه ، ويدخُلُ شَحْمه في حكم لحمه{[3060]} إما تغليبًا أو أن اللحم يشمل ذلك ، أو بطريق القياس على رأي . و[ كذلك ]{[3061]} حَرَّم عليهم ما أهِلَّ به لغير الله ، وهو ما ذبح على غير اسمه{[3062]} تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ، ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له . [ وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري : أنه سئل عن امرأة عملت عرسًا للعبها فنحرت فيه جزورًا فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم ، وأورد القرطبي عن عائشة أنها سئلت عما يذبحه العجم في أعيادهم فيهدون منه للمسلمين ، فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم ]{[3063]} . ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها ، عند فقد غيرها من الأطعمة ، فقال : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : في غير بغي ولا عدوان ، وهو مجاوزة الحد { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : في أكل ذلك { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

وقال مجاهد : فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، قاطعًا للسبيل ، أو مفارقًا للأئمة ، أو خارجًا في معصية الله ، فله الرخصة ، ومن خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية الله فلا رخصة له ، وإن اضطر إليه ، وكذا روي عن سعيد بن جبير .

وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان : غير باغ : يعني غير مستحله . وقال السدي : غير باغ يبتغي فيه شهوته ، وقال عطاء الخراساني في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ } [ قال ]{[3064]} لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ، ولا يأكل إلا العُلْقَة ، ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه [ وهو قوله : { وَلا عَادٍ } يقول : لا يعدو به الحلال ]{[3065]} .

وعن ابن عباس : لا يشبع منها . وفسره السدي بالعدوان . وعن ابن عباس { غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } قال : { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة { وَلا عَادٍ } في أكله . وقال قتادة : فمن اضطر غير باغ ولا عاد في{[3066]} أكله : أن يتعدى حلالا إلى حرام ، وهو يجد عنه مندوحة .

وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : أكره على ذلك بغير اختياره .

مسألة : ذكر القرطبي إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى ، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بلا خلاف - كذا قال - ثم قال : وإذا أكله ، والحالة هذه ، هل يضمنه أم لا ؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ، ثم أورد من سنن ابن ماجه من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية : سمعت عباد بن العنزي{[3067]} قال : أصابتنا عامًا مخمصة ، فأتيت المدينة{[3068]} . فأتيت حائطا ، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته ، وجعلت منه في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساعيا ، ولا علمته إذ كان جاهلا " {[3069]} . فأمره فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة : من ذلك حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق ، فقال : " من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة{[3070]} فلا شيء عليه " {[3071]} الحديث .

وقال مقاتل بن حيان في قوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار ، وبلغنا - والله أعلم - أنه لا يزاد{[3072]} على ثلاث لقم .

وقال سعيد بن جبير : غفور لما أكل من الحرام . رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار .

وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : من{[3073]} اضطُرَّ فلم يأكل ولم يشرب ، ثم مات دخل النار .

[ وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة . قال أبو الحسن الطبري - المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا ؛ كالإفطار للمريض في رمضان ونحو ذلك ]{[3074]} .


[3058]:وسيأتي تخريج الحديثين عند تفسير أول سورة المائدة.
[3059]:سنن ابن ماجة برقم (3367) ورواه الترمذي في السنن برقم (1726) من طريق سيف بن هارون به وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه". وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان، عن سلمان موقوفا، قال البخاري: "وسيف بن هارون مقارب الحديث، وسيف بن محمد، عن عاصم ذاهب الحديث".
[3060]:في جـ: "ويدخل لحمه في حكم شحمه".
[3061]:زيادة من جـ، أ، و.
[3062]:في جـ: "غير اسم الله".
[3063]:زيادة من جـ، أ.
[3064]:زيادة من جـ.
[3065]:زيادة من و.
[3066]:في جـ: "ولا عاد أي".
[3067]:في أ: "شرحيل الفتوى" وفي ط: "بشر العنزي" والصواب ما أثبتناه.
[3068]:في أ: "فأتيت الحتفية".
[3069]:سنن ابن ماجة برقم (2298).
[3070]:في أ: "غير منحن جيبه".
[3071]:رواه الترمذي في السنن برقم (1289) وقال: "هذا حديث حسن".
[3072]:في أ: "أنه لا يزيد".
[3073]:في جـ: "فمن".
[3074]:زيادة من جـ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }

يعني تعالى ذكره بذلك : لا تحرّموا على أنفسكم ما لم أحرّمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك ، بل كلوا ذلك فإني لم أحرّم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغيري .

ومعنى قوله : إنمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الَميْتَةَ : ما حرم عليكم إلا الميتة : «وإنما » : حرف واحد ، ولذلك نصبت الميتة والدم ، وغير جائز في الميتة إذا جعلت «إنما » حرفا واحدا إلا النصب ، ولو كانت «إنما » حرفين وكانت منفصلة من «إنّ » لكانت الميتة مرفوعة وما بعدها ، وكان تأويل الكلام حينئذٍ : إن الذي حرّم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدم ولحم الخنزير لا غير ذلك .

وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك على هذا التأويل . ولست للقراءة به مستجيزا ، وإن كان له في التأويل والعربية وجه مفهوم ، لاتفاق الحجة من القراء على خلافه ، فغير جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه ، ولو قرىء في «حرّم » بضم الحاء من «حرم » لكان في الميتة وجهان من الرفع : أحدهما من أن الفاعل غير مسمى ، و«إنما » حرف واحد . والاَخر «إن » و«ما » في معنى حرفين ، و«حرم » من صلة «ما » ، والميتة خبر «الذي » مرفوع على الخبر ، ولست وإن كان لذلك أيضا وجه مستجيزا للقراءة به لما ذكرت .

وأما الميتة فإن القراء مختلفة في قراءتها ، فقرأها بعضهم بالتخفيف ومعناه فيها التشديد ، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون : هو هيْن لّين الهيْن الليْن ، كما قال الشاعر :

ليسَ مَنْ ماتَ فاسْترَاحَ بمَيْتٍ إنّمَا المَيْتُ مَيّتُ الأحْياء

فجمع بين اللغتين في بيت واحد في معنى واحد . وقرأها بعضهم بالتشديد وحملوها على الأصل ، وقالوا : إنما هو «مَيْوت » ، فيعل من الموت ، ولكن الياء الساكنة والواو المتحركة لما اجتمعتا والياء مع سكونها متقدمة قلبت الواو ياء وشددت فصارتا ياء مشددة ، كما فعلوا ذلك في سيد وجيد . قالوا : ومن خففها فإنما طلب الخفة . والقراءة بها على أصلها الذي هو أصلها أولى .

والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في ياء الميتة لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب ، فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب لأنه لا اختلاف في معنييهما .

وأما قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فإنه يعني به : وما ذبح للاَلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام . وإنما قيل : وَما أُهِلّ بِهِ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لاَلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم ، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك حتى قيل لكل ذابح يسمي أو لم يسم جهر بالتسمية أو لم يجهر : «مهلٌ » ، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالى فقال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهلّ ، لرفعه صوته بالتلبية ومنه استهلال الصبيّ : إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه ، واستهلال المطر : وهو صوت وقوعه على الأرض ، كما قال عمرو بن قميئة :

ظَلَم البِطاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفا النّطافُ لهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ

واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : يعني بقوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله مما لم يسمّ عليه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : وَما أُهِلّ بِه لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يعني ما أهلّ للطواغيت كلها ، يعني ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير اليهود والنصارى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء في قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : هو ما ذبح لغير الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما ذكر عليه غير اسم الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يقول : ما ذكر عليه غير اسم الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما يذبح لاَلهتهم الأنصاب التي يعبدونها ، أو يسمون أسماءها عليها . قال : يقولون باسم فلان ، كما تقول أنت باسم الله . قال : فذلك قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حيوة ، عن عقبة بن مسلم التجيبي ، وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا : أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس ، وما أهدي لها من خبز أو لحم ، فإنما هو طعام أهل الكتاب . قال حيوة : قلت : أرأيت قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغْيِر اللّهِ ؟ قال : إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَيْهِ .

يعني تعالى ذكره : فَمَنِ اضْطُرّ فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، وهو بالصفة التي وصفنا ، فلا إثم عليه في أكله إن أكله . وقوله : فَمَنِ اضْطرّ افتعل من الضرورة ، «وغير باغ » نصب على الحال من «مَن » ، فكأنه قيل : فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فأكله ، فهو له حلال .

وقد قيل : إن معنى قوله : فَمَنِ اضْطُرّ فمن أكره على أكله فأكله ، فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : الرجل يأخذه العدوّ فيدعونه إلى معصية الله .

وأما قوله : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون ، فقال بعضهم : يعني بقوله : غَيْرَ باغٍ غير خارج على الأئمة بسيفه باغيا عليهم بغير جور ، ولا عاديا عليهم بحرب وعدوان فمفسد عليهم السبيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع سبيل ، ولا مفارق جماعة ، ولا خارج في معصية الله ، فله الرخصة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عاد يقول : لا قاطعا للسبيل ، ولا مفارقا للأئمة ، ولا خارجا في معصية الله ، فله الرخصة . ومن خرج باغيا أو عاديا في معصية الله ، فلا رخصة له وإن اضطرّ إليه .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : هو الذي يقطع الطريق ، فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة وإذا عطش أن يشرب الخمر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم : يعني الأفطس ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال الباغي العادي : الذي يقطع الطريق فلا رخصة له ولا كرامة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : إذا خرج في سبيل من سبل الله فاضطرّ إلى شرب الخمر شرب ، وإن اضطرّ إلى الميتة أكل ، وإذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، قال : غَيْرَ باغٍ على الأئمة وَلا عادٍ قال : قاطع السبيل .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطُر غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع السبيل ، ولا مفارق الأئمة ، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ على الأئمة ، ولا عاد على ابن السبيل .

وقال آخرون في تأويل قوله غَيْرَ باغٍ وَلا عاد : غير باغ الحرام في أكله ، ولا معتد الذي أبيح له منه . ذكر من قال ذلك .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ في أكله ، ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادً قال : غير باغ فيها ولا معتد فيها بأكلها وهو غنيّ عنها .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن يقول ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ غير باغ يبتغيه ، ولا عاد يتعدى على ما يمسك نفسه .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ يقول : من غير أن يبتغي حراما ويتعداه ، ألا ترى أنه يقول : فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العادُون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : أن يأكل ذلك بغيا وتعديا عن الحلال إلى الحرام ، ويترك الحلال وهو عنده ، ويتعدى بأكل هذا الحرام هذا التعدي ، ينكر أن يكونا مختلفين ، ويقول هذا وهذا واحد .

وقال آخرون : تأويل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ في أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنِ اضْطُرَ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أما باغ فيبتغي فيه شهوته ، وأما العادي : فيتعدى في أكله ، يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته .

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ باغٍ بأكله ما حرم عليه من أكله وَلا عاد في أكله ، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى ، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال ، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرّم الله عليهما من خروج هذا على من خرج عليه وسعي هذا بالإفساد في الأرض ، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما ، بل ذلك من فعلهما وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريما فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما ، فإن كان ذلك كذلك ، فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة ، الأوبةُ إلى طاعة الله ، والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه ، والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إلى إثمهما إثما ، وإلى خلافهما أمر الله خلافا .

وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه غير باغ في أكله شهوة ، فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك مما قد دخل فيما حرّمه الله عليه ، فهو بمعنى ما قلنا في تأويله ، وإن كان للفظه مخالفا .

فأما توجيه تأويل قوله : وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يمسك به نفسه فإن ذلك بعض معاني الاعتداء في أكله ، ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى فيقال عنى به بعض معانيه . فإذا كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة .

وأما تأويل قوله : فَلا إثْمَ عَلَيْهِ يقول : من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حرج .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

يعني بقوله تعالى ذكره : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إن الله غفور إن أطعتم الله في إسلامكم فاجتنبتم أكل ما حرّم عليكم وتركتم اتباع الشيطان فيما كنتم تحرّمونه في جاهليتكم ، طاعة منكم للشيطان واقتفاء منكم خطواته ، مما لم أحرّمه عليكم لما سلف منكم في كفركم وقبل إسلامكم في ذلك من خطأ وذنب ومعصية ، فصافح عنكم ، وتارك عقوبتكم عليه ، رحيم بكم إن أطعتموه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

{ إنما حرم عليكم الميتة } أكلها ، أو الانتفاع بها . وهي التي ماتت من غير ذكاة . والحديث ألحق بها ما أبين من حي . والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها ، أو استثناه الشرع . والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرمة التصرف فيها مطلقا إلا ما خصه الدليل ، كالتصرف في المدبوغ . { والدم ولحم الخنزير } إنما خص اللحم بالذكر ، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له . { وما أهل به لغير الله } أي رفع به الصوت عند ذبحه للصنم . والإهلال أصله رؤية الهلال ، يقال أهل الهلال وأهللته . لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا ، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره . { فمن اضطر غير باغ } بالاستيثار على مضطر آخر . وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون . { ولا عاد } سد الرمق ، أو الجوعة . وقيل ؛ غير باغ على الوالي . ولا عاد بقطع الطريق . فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى . { فلا إثم عليه } في تناوله . { إن الله غفور } لما فعل { رحيم } بالرخصة فيه . فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر . قلت : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )

وقوله تعالى : { إنما حرم عليكم } { إنما } هنا حاصرة ، و { الميتة } نصب بحرم ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميتة » بالتشديد ، وقال الطبري وجماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف من «ميّت » و «ميْت » لغتان ، وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه «ميْت » بالتخفيف .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر( {[1554]} ) : [ الخفيف ]

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيتٍ . . . إنَّمَا المْيتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

استراح : من الراحة ، وقيل : من الرائحة ، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير { وما هو بميت }( {[1555]} ) [ إبراهيم : 17 ] ، والمشهور عنه التثقيل ، وأما قول الشاعر( {[1556]} ) : [ الوافر ]

إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ . . . فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فِجِىءْ بِزَادِ

فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر ، وقرأ قوم «الميتةُ » بالرفع على أن تكون { ما } بمعنى الذي و { إن } عاملة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «حُرِّمَ » على ما لم يسمَّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه ، فإن كانت { ما } كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله ، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر .

ولفظ { الميتة } عموم والمعنى مخصص( {[1557]} ) لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم( {[1558]} ) ، و { الميتة } : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة ، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون ، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف ، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم ، وقال ابن وهب : إن ضم في غرائر فضمه ذكاته ، وقال ابن القاسم : لا ، حتى يصنع به شيء يموت منه( {[1559]} ) كقطع الرؤوس والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء ، وقال سحنون : لا يطرح في ماء بارد ، وقال أشهب( {[1560]} ) : إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل .

و { الدم } يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع ، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف ، روي عن القابسي( {[1561]} ) أنه طاهر ، ويلزم من طهارته أنه غير محرم ، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها( {[1562]} ) ، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه( {[1563]} ) ، وفي خنزير الماء كراهية أبي مالك أن يجيب فيه ، وقال أنتم تقولون خنزيراً .

وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية ، وحكى ابن سيده( {[1564]} ) عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر ، فاللفظة على هذا ثلاثية .

و { ما أُهِلّ به لغير الله } ، قال ابن عباس وغيره : المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان ، و { أهل } معناه صيح ، ومنه استهلال المولود ، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة ، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم( {[1565]} ) ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق ، فقال إنها مما أُهلَّ به لغير الله فتركها الناس( {[1566]} ) ، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها( {[1567]} ) عرساً فذبحت جزوراً ، فقال الحسن : لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم ، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة ، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة .

واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع( {[1568]} ) ، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم ، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال ، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم ، وقوله تعالى { فمن اضطر } الآية ، ضمت النون للالتقاء إتباعاً للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور ، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال { فمن اضطِر } بكسر الطاء ، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء الطاء ، وقرأ ابن محيصن ، «فمن اطّر » بإدغام الضاد في الطاء ، وكذلك حيث ما وقع في القرآن ، ومعنى { اضطر } : ضمه عدم وغرث( {[1569]} ) ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء ، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات ، و { غير باغ } في موضع نصب على الحال ، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها ، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم( {[1570]} ) ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة ، وقال السدي { غير باغ } أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته ، فيجيء أكله شهوة ، { ولا عاد } أي متزود( {[1571]} ) ، وقال مالك رحمه الله : «يأكل المضطر شبعه » ، وفي الموطأ - وهو لكثير من العلماء : أنه يتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وقيل : في { عاد } أن معناه عايد( {[1572]} ) ، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ ، استثقلت الكسر على الياء فسكنت ، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها .

ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم ، ويطلق التحريم على العين تجوزاً ، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل .

ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم ، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار ، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه ، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه( {[1573]} ) .


[1554]:- هو عدي بن رعلاء الغساني، كما في معالم الاهتداء، شرح شواهد قطر الندى.
[1555]:- [يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت] من الآية (17) من سورة إبراهيم.
[1556]:- هو يزيد بن الصعق الكلابي – أو أبو المهوس الأسدي يهجو بني تميم بحب الطعام. وبعد البيت: بِخُبْـز أو بتَمْـر أوْ بِسَمْــنٍ أو الشّيءِ المُلَفَّــفِ فـي البِجَــادِ تَرَاهُ يُطَوِّفُ الآفَـاقَ حِرصـاً لِيَأكُـلَ رأْسَ لُقمـانَ بـنَ عَــــادِ
[1557]:- هذا رأي ابن عطية، وقد ناقشه فيه (ح) ويخصص عموم الآية حديث الإمام أحمد، وابن ماجة، والدارقطني، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال) – وعليه فالمراد بالميتة في الآية ميتة البر.
[1558]:- بحسب الإرادة لأن المخصص دل على أنه لم يرد دخوله في اللفظ العام، وإن كان اللفظ يشمله بحسب الدلالة.
[1559]:- قال الشيخ خليل رحمه الله في مختصر المالكية: وافتقر لما يموت به نحو الجراد.
[1560]:- ابن نافع هو: أبو عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع. وابن عبد الحكم هو: أبو محمد عبد الله بن الحكم وابن وهب هو: أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم. وسحنون هو: أبو سعيد عبد السلام بن سعيد، وأشهب هو: أبو عمرو أشهب بن عبد العزيز – وكلهم من فقهاء المالكية المصريين الذين عرفوا بالإمامة في الفقه.
[1561]:- هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف، من أئمة الحديث. توفي سنة 403 هـ.
[1562]:- كل من اللحم والشحم والغضروف اسم خاص إذا أُطلق لا يدخل فيه الآخر ولا يدل عليه، فتخصيص اللحم بالذكر تخصيص له بالحكم، إلا أننا نقول: إن الشحم تابع للحم ومن هنا يشمله، بخلاف اللحم فإنه غير تابع للشحم، ولهذا كان ذكر اللحم ينوب عن ذكر الشحم، قال الإمام مالك رحمه الله: من حلف لا يأكل لحما فأكل شحما يحنث، ومن حلف لا يأكل شحما فأكل لحما لا يحنث، وقد حرم الله على بني إسرائيل الشحوم فلم يدخل في تحريمها عليهم اللحوم. وقال بعض المحققين في قوله تعالى: [قل لا أجد فيما أوحي إلى محرّما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس] الضمير في قوله: [فإنه] عائد على [خنزير] ليفيد تحريم سائر أجزائه، وقد اعترض بأن الكلام إذا كان فيه مضاف ومضاف إليه عاد الضمير إلى المضاف دون المضاف إليه لأنه هو المُحَدَّث عنه – إلا أننا نقول: إعادته على المضاف إليه هنا أولى من حيث المعنى، لأن تحريم اللحم استفيد من قوله أو لحم خنزير، فلو عاد الضمير عليه كان الكلام خاليا من فائدة التأسيس، ونظير ذلك في عود الضمير على المضاف إليه قوله تعالى: [واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون] وقوله تعالى: [كمثل الحمار يحمل أسفارا] وعليه فالقاعدة المذكورة أغلبية.
[1563]:- يخالف داود الظاهري في هذا، اللهم إلا إذا كان خلافه غير معتد به عند ابن عطية تبعا لإمام الحرمين انظر (ح).
[1564]:- هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة: صاحب كتاب المخصص في اللغة توفي سنة 458 هـ.
[1565]:- يعني أن العبرة بالقصد سواء وجد الإهلال والصياح أم لا – فأبو الفرزدق لما كان قصده بالنحر التباهي والتفاخر نهى علي رضي الله عنه عن أكلها.
[1566]:- والذي يُروى في هذه القصة أن (غالبا أبا الفرزدق) فاخر (سُحَيْم بن وَثيل الرياحي) في الطعام، فنحر مائة ناقة، ونحر سحيم ثلاثمائة ناقة وقال للناس: شأنكم بها، فقال علي بن أبي طالب: إنها مما أهل به لغير الله، فتركها الناس حتى أكلتها الوحوش والطيور. ومثل ذلك في الحكم ما يقع للمعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله.
[1567]:- اللّعبة كالتمثال والدمية. والحاصل أن ذبيحة الأصنام والأوثان لا تؤكل، ويدخل في ذلك ما ذكره المؤلف عن الحسن بن أبي الحسن، وما يذبح على القبور والأموات عن قصد لأن ذلك بمثابة الأصنام ولا سيما التي يصاح عليها بأنها ذبيحة فلان. والمعوّل عليه هو النية والقصد.
[1568]:- قال في المدونة: وما ذبحه اليهود فأصابوه فاسدا عندهم لحال الرئة وشبهها التي يحرمونها في دينهم – فمرة أجاز مالك أكلها ثم كرهه وقال: لا تؤكل انتهى. قال ابن ناجي في شرحها: اختلف في المسألة على ثلاثة أقوال: الجواز – والكراهة – وكلاهما لمالك فيها، والتحريم لظاهر قول ابن القاسم كما هو ظاهر العتبي عن ابن كنانة. وقد اعتمد بعضهم الحرمة لما ذكره الشيخ عبد الحق الإسلامي الذي له مزيد اطلاع على كتب اليهود – من عوامل التحريم.
[1569]:- أي أخذه وألجأه فقر وجوع والعبارة مجاز، ويعني أن الصحيح في تفسير الاضطرار هو إلجاء الفقر والجوع إلى هذه المحرمات، والقول بأن معنى الاضطرار هو الإكراه على أكل هذه المحرمات غير صحيح ولا قوي – والحقّ أن بناء الفعل للمفعول يدل على مطلق الضرورة سواء كان بجوع أو إكراه، في حضر أو سفر.
[1570]:- هذا هو الظاهر، ونحو الآية قوله تعالى: [فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم] وأما آية الأنعام ففيها إحالة على هاتين الآيتين لأن تفصيل المحرم فيهما، وبهذا تكون آيات إباحة هذه المحرمات للمضطر كلها مقيدة بعدم ارتكاب الإثم.
[1571]:- أي من الميتة، وقال مالك رحمه الله: يأكل المضطر حتى يشبع، ويتزود منها إن اقتضته الضرورة، وهذا هو الأصح.
[1572]:- عاد اسم فاعل من عدا، وليس اسم فاعل من عاد فيكون مقلوبا أو محذوفا من باب شاك ولاث – لأن القلب لا يصار إليه إلا لموجب، ولا موجب هنا لادعاء القلب قاله (ح) رحمه الله.
[1573]:- كون الأكل من الميتة رخصة هو الصحيح، ومن الناس من رأى ذلك عزيمة، واستدل بقول مسروق: إن ترك المضطر الأكل من الميتة حتى مات دخل النار لأنه كمن قتل نفسه، والله يقول [ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما] الآية.