16- قل لهم - يا أيها الرسول - : لو شاء الله ألا ينزل علىَّ قرآناً من عنده ، وألا أبلغكم به ما أنزله ، وما تلوته عليكم ، ولا أعلمكم الله به . لكنه نزل ، وأرسلني به ، وتلوته عليكم كما أمرني ، وقد مكثت بينكم زمناً طويلا قبل البعث لم أدّع فيه الرسالة ، ولم أتل عليكم شيئاً ، وأنتم تشهدون لي بالصدق والأمانة ، ولكن جاء الوحي به فأمرت بتلاوته ، ألا فاعقلوا الأمور وأدركوها ، واربطوا بين الماضي والحاضر .
قوله تعالى : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم } ، يعني : لو شاء الله ما أنزل القرآن علي . { ولا أدراكم به } ، أي : ولا أعلمكم الله . قرأ البزي عن ابن كثير : { ولا أدراكم به } بالقصر به على الإيجاب ، يريد : ولا علمكم به من غير قراءتي عليكم . وقرأ ابن عباس : { لأنذركم به } من الإنذار . { فقد لبثت فيكم عمرا } ، حينا وهو أربعون سنة ، { من قبله } ، من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء . { أفلا تعقلون } ، أنه ليس من قبلي ، ولبث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قبل الوحي أربعين سنة ثم أوحى الله إليه فأقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة . وروى أنس : أنه أقام بمكة بعد الوحي عشر سنين وبالمدينة عشر سنين ، وتوفي وهو ابن ستين سنة . والأول أشهر وأظهر .
ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به : { قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } أي : هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته{[14101]} أنكم عاجزون عن معارضته ، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل ، لا تنتقدون علي شيئا تَغمصوني به ؛ ولهذا قال : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا{[14102]} سفيان ومن معه ، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : هل{[14103]} كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا - وقد كان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف{[14104]} بالحق :
وَالفَضْلُ ما شَهدَتْ به الأعداءُ . . .
فقال له هرقل : فقد أعرف{[14105]} أنه لم يكن ليدَعَ الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله{[14106]} . !
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه ، عليه السلام ، بين أظهرنا{[14107]} قبل النبوة أربعين سنة . وعن سعيد بن المسيب : ثلاثا وأربعين سنة . والصحيح المشهور الأول .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّوْ شَآءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه معرّفه الحجة على هؤلاء المشركين الذين قالوا له ائت بقرآن غير هذا أو بدّله : قل لهم يا محمد لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أي ما تلوت هذا القرآن عليكم أيها الناس بأن كان لا ينزل عليّ فيأمرني بتلاوته عليكم ، وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول : ولا أعلمكم به ، فَقَدْ لَبِثْتُ فيكُمْ عُمُرا مِنْ قَبْلِهِ يقول : فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوه عليكم ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي ، أفَلا تَعْقِلُونَ أني لو كنت منتحلاً ما ليس لي من القول كنت قد انتحلته في أيام شبابي وحداثتي وقبل الوقت الذي تلوته عليكم ؟ فقد كان لي اليوم لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم مندوحة عن معاداتكم ومتسع في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إليّ وأومر بتلاوته عليكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا أدرَاكُمْ بِهِ : ولا أعلمكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ولَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول : لو شاء الله لم يعلمكموه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ يقول : ما حذّرتكم به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إذَا تُتْلَى عَليْهِم آياتُنا بَيّناتِ قالَ الّذِين لا يَرْجُونَ لِقَاءَنا ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا أوْ بَدّلْه ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرا مِنْ قَبْلِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ لبث أربعين سنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْارَاكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، أنه كان يقرأ : «وَلا أدْرَأتُكُمْ بِهِ » يقول : ما أعلمتكم به .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا أدْارَاكُمْ بِهِ يقول : ولا أشعركم الله به .
وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن عند أهل العربية غلط ، وكان الفراء يقول في ذلك قد ذكر عن الحسن أنه قال : «ولا أدْرأتكم به » ، قال : فإن يكن فيها لغة سوى «دريت » و «أدريت » ، فلعلّ الحسن ذهب إليها ، وأما أن يصلح من «دريت » أو «أدريت » فلا ، لأن الياء والوا إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف مثل قضيت ودعوت ، ولعلّ الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها ، لأنها تضارع «درأت الحدّ » وشبهه . وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز ، فيهمزون غير المهموز . وسمعت امرأة من طيّ تقول : رثأت زوجي بأبيات ، ويقولون : لبأت بالحجّ وحلأت السويق يتغلطون ، لأن «حلأت » قد يقال في دفع العطاش من الإبل ، و «لبأت » : ذهبت به إلى اللبأ ، لبأ الشاة ، و«رثأت زوجي » : ذهبت به إلى رثأت اللبن إذا أنت حلبت الحليب على الرائب ، فتلك الرثيئة . وكان بعض البصريين يقول : لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من «أدريت » مثل «أعطيت » ، إلا أن لغة بني عقيل «أعطأت » يريدون «أعطيت » ، تحوّل الياء ألفا ، قال الشاعر :
لَقَدْ آذَنَتْ أهْلَ اليَمامَةِ طَيىّءٌ *** بحَرْبٍ كنَاصَاةَ الأغَرّ المُشَهّرِ
يريد كناصية حكي ذلك عن المفضل . وقال زيد الخيل :
لَعْمُركَ ما أخْشَى التّصَعْلُكَ ما بَقَا *** على الأرْضِ قَيْسيّ يَسُوقُ الأباعِرا
لَزَجَرْتُ قلبا لا يَرِيعُ لِزَاجِرٍ *** إنّ الغَوِيّ إذا نُهَا لَمْ يُعْتِب
يريد «نُهِي » . قال : وهذا كله على قراءة الحسن ، وهي مرغوب عنها ، قال : وطيّىء تصير كل ياء انكسر ما قبلها ألفا ، يقولون : هذه جاراة ، وفي الترقوة : ترقاة ، والعرقوة : عرقاة ، قال : وقال بعض طيىء : قد لقت فزارة ، حذف الياء من لقيت لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفا لسكون التاء فيلتقي ساكنان . وقال : زعم يونس أن نسا ورضا لغة معروفة ، قال الشاعر :
وأبْنَيْتُ بالأَعْراضِ ذا البَطْنِ خالِدا *** نَسا أوْ تَناسَى أن يَعُدّ المَوَاليا
ورُوى عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضا رواية أخرى ، وهي ما :
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا المعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد بن حنظلة ، عن شهر بن حوشب ، عن ان عباس أنه كان يقرأ : «قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أنْذَرْتُكُمْ بِهِ » .
والقراءة التي لا أستجيز أن تعدوها هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار : لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أدْرَاكُمْ بِهِ بمعنى : ولا أعلمكم به ، ولا أشعركم به .