33- ولكلٍّ من الرجال والنساء جعلنا مستحقين لتركتهم يكونون خلفاء لهم ، وهم الوالدان والأقربون والذين عقد المتوفى لهم عقداً مقتضاه أن يرثوه إذا مات من غير قرابة ، وينصروه إذا احتاج إلى نصرتهم في مقابل ذلك ، فآتوا كل ذي حق حقه ولا تنقصوه شيئاً ، إن الله كان رقيباً على كل شيء ، حاضراً معكم ، يشهد ما تتصرفون به .
قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي } . أي : ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا موالي ، أي : عصبة يعطون .
قوله تعالى : { مما ترك الوالدان والأقربون } ، الوالدان والأقربون هم المورثون ، وقيل : معناه ( ولكل جعلنا موالي ) . أي : ورثة ، ( مما ترك ) . أي : من الذين تركوهم ، ويكون " ما " بمعنى " من " ثم فسر الموالي فقال : ( الوالدان والأقربون ) . أي هم الوالدان والأقربون ، فعلى هذا القول : { الوالدان والأقربون } هم الوارثون .
قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم } ، قرأ أهل الكوفة { عقدت } بلا ألف ، أي : عقدت لهم أيمانكم ، وقرأ الآخرون : { عقدت أيمانكم } . والمعاقدة : المحالفة ، والمعاهدة ، والأيمان جمع يمين ، من اليد والقسم ، وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد . ومحالفتهم أن الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من مال الحليف ، وكان ذلك في ابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى : { فآتوهم نصيبهم } أي : أعطوهم حظهم من الميراث ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأحزاب :6 ] . وقال إبراهيم ومجاهد : أراد ( فآتوهم نصيبهم ) من النصر والرفد ، ولا ميراث لهم ، وعلى هذا تكون هذه الآية غير منسوخة لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } [ المائدة :1 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم فتح مكة : { لا تحدثوا حلفاً في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا فيه فإنه لم يزيده الإسلام إلا شدة } . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون الرحم فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ، ثم قال : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصر ، والرفادة ، والنصيحة . وقد ذهب الميراث فيوصي له . وقال سعيد بن المسيب : كانوا يتوارثون التبني وهذه الآية فيه ثم نسخ . { إن الله كان على كل شيء شهيداً }
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة ؛ وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث . هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة . بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه :
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
بعد أن ذكر أن للرجال نصيبًا مما اكتسبوا ، وللنساء نصيبًا مما اكتسبن . . وبين - فيما سلف - أنصبة الذكور والإناث في الميراث . . ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه . يرثونه مما آل اليه من الوالدين والأقربين . . فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلا بعد جيل . يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون ؛ ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين . . وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي ؛ وأنها لا تقف عند جيل ؛ ولا تتركز في بيت ولا فرد . . إنما هو التوارث المستمر ، والتداول المستمر ، وحركة التوزيع الدائبة ؛ وما يتبعها من تعديل في المالكين ، وتعديل في المقادير ، بين الحين والحين . .
ثم عطف على العقود ، التي أقرتها الشريعة الإسلامية والتي تجعل الإرث يذهب أحيانًا إلى غير الأقرباء وهي عقود الموالاة . . وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعًا من هذه العقود :
الأول عقد ولاء العتق ، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق - بعد عتقه - بمنزلة العضو في أسرة مولاه [ مولى العتق ] فيدفع عنه المولى الدية ، إذا ارتكب جناية توجب الدية - كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب - ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة . .
والثاني عقد الموالاة . وهو النظام الذي يبيح لغير العربي - إذا لم يكن له وارث من أقاربه - أن يرتبط بعقد مع عربي هو [ مولى الموالاة ] . فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه . يدفع عنه المولى الدية - إذا ارتكب جناية توجب الدية - ويرثه إذا مات .
والنوع الثالث ، هو الذي عقده النبي [ ص ] أول العهد بالمدينة ، بين المهاجرين والأنصار . فكان المهاجر يرث الأنصاري ، مع أهله - كواحد منهم - أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة . .
والنوع الرابع . . كان في الجاهلية ، يعاقد الرجل الرجل ، ويقول : " وترثني وأرثك " . .
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود ؛ وبخاصة النوعين الثالث والرابع . بتقرير أن الميراث سببه القرابة . والقرابة وحدها . ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها . فأمضاها على ألا يجدد سواها . وقال الله سبحانه :
( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) .
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه :
إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
" لا حلف في الإسلام . وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " [ رواه أحمد ومسلم ] .
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية ، في علاجه لها - بدون أثر رجعي - فهكذا صنع في الربا حين أبطله . أبطله منذ نزول النص ، وترك لهم ما سلف منه ؛ ولم يأمر برد الفوائد الربوية . وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص ، ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد . فأما هنا فقد احترم تلك العقود ؛ على ألا ينشأ منها جديد . لما يتعلق بها - فوق الجانب المالي - من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة . فترك هذه العقود القائمة تنفذ ؛ وشدد في الوفاء بها ؛ وقطع الطريق على الجديد منها ؛ قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج !
وفي هذا التصرف يبدو التيسير ، كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول ، في علاج الأمور في المجتمع . حيث كان الإسلام يصوغ ملامح المجتمع المسلم يومًا بعد يوم ؛ ويمحو ويلغي ملامح الجاهلية في كل توجيه وكل تشريع .
روي ( أن أم سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث ليتنا كنا رجالا ) فنزلت .
{ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } أي ولكل تركة جعلنا وراثا يلونها ويحرزونها ، ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل . أو لكل ميت جعلنا وراثا مما ترك على أن من صلة موالي . لأنه في معنى الوارث . وفي ترك ضمير كل والوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالي ، وفيه خروج الأولاد فإن الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين ، أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون ، على إن جعلنا موالي صفة كل والراجع إليه محذوف على هذا فالجملة من مبتدأ وخبر . { والذين عقدت أيمانكم } موالى الموالاة ، كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقد على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث . أو الأزواج على أن العقد عقد النكاح وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط وخبره . { فآتوهم نصيبهم } أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك : زيدا فاضربه ، أو معطوف على الوالدان ، وقوله فآتوهم جملة مسببة عن الجملة المتقدمة مؤكدة لها ، والضمير للموالي . وقرأ الكوفيون { عقدت } بمعنى عقدت عهودهم إيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ثم حذف كما حذف في القراءة الأخرى . { إن الله كان على كل شيء شهيدا } تهديد على منع نصيبهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولكل جعلنا موالي}: العصبة بني العم والقربى، {مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم}، كان الرجل يرغب في الرجل، فيحالفه ويعاقده على أن يكون معه وله من ميراثه كبعض ولده، فلما نزلت هذه الآية آية المواريث ولم يذكر أهل العقد، فأنزل الله عز وجل: {والذين عقدت أيمانكم} {فآتوهم نصيبهم}، يقول: أعطوهم الذي سميتم لهم من الميراث. {إن الله كان على كل شيء}، من أعمالكم {شهيدا} إن أعطيتم نصيبهم أو لم تعطوهم، فلم يأخذ هذا الرجل شيئا حتى نزلت: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} (الأحزاب: 6)، فنسخت هذه الآية: {والذين عقدت أيمانكم}...
{ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 33].
- المهدوي: قال مالك: كل من هلك من العرب، فلا يخلو أن يكون له وارث بهذه الآية، وإن لم تعرف عينه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ}: ولكلكم أيها الناس جعلنا موالي، يقول: ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم. والعرب تسمي ابن العمّ المولى. {مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ}: مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث.
فتأويل الكلام: ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون به مما ترك والده وأقرباؤه من ميراثهم.
{عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ}: وصلت وشدّتْ ووكّدت أيمانكم، يعني: مواثيقكم التي واثق بعضهم بعضا، "فآتوهم نصيبهم".
ثم اختلف أهل التأويل في معنى النصيب الذي أمر الله أهل الحلف أن يؤتي بعضهم بعضا في الإسلام؛
فقال بعضهم: هو نصيبه من الميراث لأنهم في الجاهلية كانوا يتوارثون، فأوجب الله في الإسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف، وبمثله في الإسلام من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية، ثم نسخ ذلك بما فرض من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات... عن ابن عباس، قوله: «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الاَخر، فأنزل الله: {وأُلُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ في كِتَابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُهَاجِرِينَ إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُم مَعْرُوفا} يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز ن ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فكان بعضهم يرث بعضا بتلك المؤاخاة ثم نسخ الله ذلك بالفرائض، وبقوله: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِىَ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ}. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في أهل العقد بالحلف، ولكنهم أمروا أن يؤتي بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك دون الميراث. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية، فأمروا بالإسلام أن يوصوا لهم عند الموت وصية.
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيَمانُكُمْ} قول من قال: والذين عقدت أيمانكم على المحالفة، وهم الحلفاء، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها أن عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق، على نحو ما قد ذكرنا من الرواية في ذلك. فإذ كان الله جلّ ثناؤه إنما وصف الذين عقدت أيمانهم ما عقدوه بها بينهم دون من لم يعقد عقد ما بينهم أيمانهم، وكانت مؤاخاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بين من آخى بينه وبينه من المهاجرين والأنصار، لم تكن بينهم بأيمانهم، وكذلك التبني، كان معلوما أن الصواب من القول في ذلك قول من قال: هو الحلف دون غيره لما وصفنا من العلة.
وأما قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فإن أولى التأويلين به، ما عليه الجميع مجمعون من حكمه الثابت، وذلك إيتاء أهل الحلف الذي كان في الجاهلية دون الإسلام بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة والرأي دون الميراث، وذلك لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجَاهِلِيّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً».
فإذ كان ما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا، وكانت الآية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ، غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ مع اختلاف المختلفين فيه، ولوجوب حكمها ونفي النسخ عنه وجه صحيح إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في غير موضع من كتبنا الدلالة على صحة القول بذلك، فالواجب أن يكون الصحيح من القول في تأويل قوله: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ} هو ما ذكرنا من التأويل، وهو أن قوله: {عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ} مِن الحلف، وقوله: {فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ} من النصرة والمعونة والنصيحة والرأي على ما أمره به من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي ذكرناه عنه، دون قول من قال: معنى قوله: {فآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ} من الميراث، وإن ذلك كان حكما، ثم نسخ بقوله: {وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتاب اللّهِ} دون ما سوى القول الذي قلناه في تأويل ذلك. وإذا صحّ ما قلنا في ذلك وجب أن تكون الآية محكمة لا منسوخة.
{إنّ اللّهَ كانَ عَلى كُلّ شَيّءٍ شَهِيدا}: فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرأي، فإن الله شاهد على ما تفعلون من ذلك وعلى غيره من أفعالكم، مراع لكل ذلك حافظ، حتى يجازي جميعكم على جميع ذلك جزاءه، أما المحسن منكم المتبع أمري وطاعتي فبالحسنى، وأما المسيء منكم المخالف أمري ونهى فبالسوأى. {شَهِيدا}: ذو شهادة على ذلك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جعل المعاقدة في ابتداء الإسلام نظيرةَ النَّسَبِ في ثبوت الميراث بها فَنَسَخَ حكم الميراث وبقي حكم الاحترام، فإذا كانت المعاقدة بين الناس بهذه المثابة فما ظنُّك بالمعاهدة مع الله؟ قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَوْلَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَعَانٍ، قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ "الْأَمَدِ "وَغَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَلِيِّ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَتَخْتَلِفُ دَرَجَاتُ الْقُرْبِ وَأَسْبَابِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ... وَقَدْ أَحْكَمَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ بَيَانًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْهَانًا، قَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ: «وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ» قَالَ: وَرَثَةٌ، {وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} فَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ. ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوَصَّى لَهُ، وَهَذَا غَايَةٌ لَيْسَ لَهَا مَطْلَبٌ.
اعلم أنه يمكن تفسير الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون وراثا، ويمكن أيضا بحيث يكونان موروثا عنهما. أما الأول: فهو أن قوله: {ولكل جعلنا موالى مما ترك} أي: ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته، ثم كأنه قيل: ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون، وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله: {مما ترك}.
وأما الثاني: ففيه وجهان: الأول: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي: ورثة و {جعلنا} في هذين الوجهين لا يتعدى إلى مفعولين، لأن معنى {جعلنا} خلقنا.
الثاني: أن يكون التقدير: ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، فقوله: {موالى} على هذا القول يكون صفة، والموصوف يكون محذوفا، والراجع إلى قوله: {ولكل} محذوفا، والخبر وهو قوله: {نصيب} محذوف أيضا، وعلى هذا التقدير يكون {جعلنا} معتديا إلى مفعولين، والوجهان الأولان أولى، لكثرة الإضمار في هذا الوجه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ظاهر جدا على القول بأن سبب نزول الآية السابقة هو ما تقدم من حديث تفضيل الرجال على النساء في الإرث، وكذا على القول بعموم التمني في تلك الآية فإن أكثر التحاسد وتمني ما عند الغير يكون في المال وقلما يتمنى الناس ما فضلهم به غيرهم من الجاه إلا من حيث إن ذلك الجاه يستتبع المال في الغالب فالعالم الزاهد في الدنيا المعرض عنها لا يكاد يحسده على علمه أحد إلا أن يكون لعلة غير العلم كأن يكون علمه مظهرا لجهل الأدعياء وينقص من رزقهم واحترامهم. الأستاذ الإمام:
الظاهر أن الكلام في الأموال فإنه نهى عن أكلها بالباطل ثم نهى عن تمني أحد ما فضله به من المال لأن التمني يسوق إلى التعدي وإنما أورد النهي عاما لزيادة الفائدة والسياق يفيد أن المال هو المقصود أولا وبالذات لأن أكثر التمني يتعلق به، وذكر القاعدة العامة في الثروة وهي الكسب. ثم انتقل من ذكر الغالب وهو الكسب إلى غير الغالب وهو الإرث فقال {ولكل جعلنا موالي مما ترك} فالموالي من لهم الولاية على التركة، و "من "في قوله {مما ترك} ابتدائية والجملة تتم بقوله {ترك} والمعنى: ولكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا والنساء اللواتي لهن نصيب مما اكتسبن موالي لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم، وهؤلاء الموالي هم {الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم} أي جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج كما تقدم التفصيل في أول السورة، فالمراد هنا بالذين عقدت أيمانكم الأزواج فإن كل واحد من الزوجين يصير زوجا له حق الإرث بالعقد، والمتعارف عند الناس في العقد أن يكون بالمصافحة باليدين {فآتوهم نصيبهم} أي فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم لهم ولا تنقصوهم منه شيئا...
ولما كان الميراث موضعا لطمع بعض الوارثين أي ولا سيما من يكون في أيديهم المال لإقامة المورث معهم قال تعالى بعد الأمر بإعطاء كل ذي حق حقه {إن الله كان على كل شيء شهيدا} أي إنه تعالى رقيب عليكم حاضر يشهد تصرفكم في التركة وغيرها فلا يحملنكم الطمع وحسد بعضكم لبعض الوارثين على أن يأكل من نصيبه شيئا سواء كان ذكرا أم أنثى كبيرا أم صغيرا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة؛ وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث. هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة. بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. إن الله كان على كل شيء شهيدًا.. بعد أن ذكر أن للرجال نصيبًا مما اكتسبوا، وللنساء نصيبًا مما اكتسبن.. وبين -فيما سلف- أنصبة الذكور والإناث في الميراث.. ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه. يرثونه مما آل اليه من الوالدين والأقربين.. فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلا بعد جيل. يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون؛ ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين.. وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي؛ وأنها لا تقف عند جيل؛ ولا تتركز في بيت ولا فرد.. إنما هو التوارث المستمر، والتداول المستمر، وحركة التوزيع الدائبة؛ وما يتبعها من تعديل في المالكين، وتعديل في المقادير، بين الحين والحين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيداً}، وفي هذه الكلمة تعميقٌ لإحساس الإنسان بالمسؤولية، على أساس الإحساس بأن الله شهيد عليه في خفايا الأمور وظواهرها، لأنه شهيدٌ على كل شيء، فلا يغيب عنه شيء مهما كان صغيراً. وهذا الإحساس ضروري للمؤمن في حياته الإيمانية، في جميع ما فرض الله عليه من حقوق وواجبات، لأنه إذا تعمق في نفسه، كان ذلك أساساً له من أجل تركيز أفكاره على الخط المستقيم؛ أما إذا ضعف ذلك في نفسه وفكره، فإنه يؤدي إلى فقدان حالة الانضباط. ولهذا كان الأسلوب القرآني يؤكد على إثارة هذا الجانب، في أكثر الآيات التي تتحدث عن الأحكام الشرعية أو المفاهيم الأساسية العامة، وهذا هو الأسلوب الذي ينبغي للعاملين في حقل التربية الإسلامية أن يثيروه في مجالات الدعوة والتبليغ، لأن ذلك هو الذي يركز القاعدة الأساسية التي ينطلق منها الشعور العميق بالمسؤولية، مما يجعل من التشريع حالةً ذاتية حيّة، بينما يكون الاكتفاء بالحديث عنه بشكلٍ تجريديّ، سبباً في تحوّله إلى حالةٍ تقليديةٍ لا توحي بالحركة والحياة، وتحوّل الدين بالتالي إلى شيٍء جامد لا يحرّك الإنسان إلا بطريقةٍ جامدةٍ، لا تلبث أن تموت وتتلاشى أمام الحالات الطارئة المتصلة بحياته الخاصة الحسية؛ كالذي نشاهده في كثير من المظاهر التقليدية للدين في حياة الكثيرين من الناس...