( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ان الله كان على كل شيء شهيدا33 ) .
( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ) أي : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا ورثة وعصبة يلونه ويحرزونه . وهم يرثونه . دون سائر الناس . كما ثبت في ( الصحيحين ) {[1669]} عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألحقوا الفرائض بأهلها . فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " . أي اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض . فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة . ف ( مما ) تبيين ل ( كل ) .
قال ابن جرير : والعرب تسمى ابن العم مولى . كما قال الفضل بن العباس{[1670]} :
مهلا بني عمنا مهلا موالينا*** لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
وفي ( القاموس ) و ( شرحه تاج العروس ) : والمولى : القريب كابن العم ونحوه . قال ابن الأعرابي : ابن العم مولى . وابن الأخت مولى . وقول الشاعر{[1671]} :
هم المولى وان جنفوا علينا*** وإنا من للقائهم لزور
قال أبو عبيدة : يعني الموالي ، أي بني العم ، وقال اللهبي يخاطب بني أمية :
مهلا بني عمنا ، مهلا موالينا *** امشوا رويدا كما كنتم تكونونا
وقوله تعالى : ( والذين عقدت أيمانكم ) مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله : ( فآتوهم نصيبهم ) ويقرأ ( عاقدت ) بالألف . والمفعول محذوف أي عاقدتهم . ويقرأ بغير ألف والمفعول محذوف أيضا هو والعائد . تقديره عقدت حلفهم أيمانكم . والعقد الشد والربط والتوكيد والتغليظ . ومنه : عقد العهد يعقده : شده . والأيمان جمع يمين اما بمعنى اليد اليمنى لوضعهم الأيدي في العهود ، أو بمعنى القسم وهو الأظهر ، لأن العقد خلاف النقض . وقد جاء مقرونا بالحلف في قوله تعالى : ( ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها ) {[1672]} . / وفي قوله : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) {[1673]} . وفي هذه الآية محامل كثيرة ووجوه للسلف والخلف . أظهرها لسلف المفسرين رضوان الله عليهم . وهو أن المعني بالموصول ، الحلفاء . وهو المروي عن ابن عباس في البخاري كما سيأتي : قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان ، أنهم قالوا : " هم الحلفاء " . انتهى .
ويزاد أيضا : علي ابن أبي طلحة .
وكان الحلفاء يرثون السدس من محالفيهم . وروى الطبري{[1674]} من طريق قتادة : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول : دمي دمك . وترثني وأرثك . وتطلب بي وأطلب بك . فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس . فأمروا بأن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس . ثم نسخ ذلك بالميراث . فقال : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) .
ولذا قال سعيد بن جبير : فآتوهم نصيبهم من الميراث . قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه .
قال الزمخشري : والمراد . ب ( الذين عاقدت أيمانكم ) موالي الموالاة . كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك . وهدمي هدمك . وثأري ثأرك . وحربي حربك . وسلمي سلمك . وترثني وأرثك . وتطلب بي وأطلب بك . وتعقل عني وأعقل عنك . فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف . انتهى .
وعلى هذا ، فمعنى الآية : والذين عاقدتموهم على المؤاخاة والموالاة ، وتحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم على النصر والإرث ، قبل نزول هذه الآية ، فآتوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود . إذا وعدتموهم ذلك في الإيمان المغلظة .
وروى ابن أبي حاتم : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول . وترثني وأرثك . وكان الأحياء يتحالفون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل حلف في الجاهلية ، أو عقد أدركه الإسلام ، فلا يزيده الإسلام الا شدة . ولا عقد ولا حلف في الإسلام " .
وروى الإمام أحمد ومسلم{[1675]} والنسائي عن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام الا شدة . وروى الإمام أحمد{[1676]} عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ؟ قال فقال : ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به . ولا حلف في الاسلام " . ورواه أيضا{[1677]} عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح ، قام خطيبا في الناس ، فقال : يا أيها الناس ! ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام الا شدة . ولا حلف في الإسلام " .
قال ابن الأثير : الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق . فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الاسلام بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا حلف في الاسلام " . وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه ، فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام الا شدة " . يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق . وبذلك يجتمع الحديثان . وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الاسلام . والممنوع منه ما خالف حكم الاسلام . انتهى .
قال الحافظ ابن كثير : كان هذا ، أي التوارث بالحلف ، في ابتداء الإسلام . ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشؤوا بعد هذه الآية معاقدة .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس " في قوله تعالى : ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ويقول : وترثني وأرثك . كان الأحياء يتحالفون فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل حلف في الجاهلية أو عقد أدركه الاسلام ، فلا يزيده الا شدة . ولا عقد ولا حلف في الإسلام " . فنسختها هذه الآية : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) {[1678]} " .
وروى أبو داود{[1679]} عن ابن عباس في هذه الآية ، " كان الرجل يحالف الرجل وليس بينهما نسب . فيرث أحدهما الآخر . فنسخ ذلك في الأنفال فقال : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ، الآية " .
وروى ابن جرير{[1680]} عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : " كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر . فأنزل الله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين الا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) . يقول : الا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوا ، وصية . فهو لهم جائز من ثلث مال الميت . وذلك هو المعروف " .
وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقوله : ( وأولوا الأرحام ) ، الآية .
أقول : على ما ذكر ، تكون الآية محكمة في صدر الإسلام ، منسوخة بعده : وثمت وجه آخر فيها . وهو أنها ناسخة لميراث الحليف بتأويل آخر . وهو ما رواه البخاري{[1681]} عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ( ولكل جعلنا موالي ) ورثة ( والذين عقدت أيمانكم ) . كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه ، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم . فلما نزلت : ( ولكل جعلنا موالي ) نسخت : ثم قال : ( والذين عقدت أيمانكم ) . من النصر والرفادة والنصيحة . وقد ذهب الميراث ويوصى له " .
وقد فهم بعضهم من هذه الأثر أن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل ، وحكم الحلف الماضي أيضا . وأنه لا توارث به . والصحيح ما أسلفناه من ثبوت التوارث بالحلف السابق على نزول الآية في ابتداء الإسلام ، كما حكاه غير واحد من السلف . وكما قال ابن عباس : " كان المهاجري يرث الأنصاري دون ذوي رحمه حتى نسخ ذلك " .
وقد حاول الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) {[1682]} الجمع بين الروايات المتقدمة ورواية / البخاري باحتمال أن يكون النسخ وقع مرتين :
الأولى : حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة ، فنزلت : ( ولكل جعلنا ) . فصاروا جميعا يرثون . ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والارفاد ونحوهما . والله أعلم .
هذا وثمة روايات أخر في سبب نزولها . منها ما روى أبو داود{[1683]} وابن أبي حاتم عن داود بن الحصين . قال : " كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع . وكانت في حجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقرأت : ( والذين عاقدت أيمانكم ) . فقالت : لا تقرأ هكذا ولكن : ( والذين عقدت أيمانكم . انما أنزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن رضي الله عنهما حين أبى الاسلام . فحلف أبو بكر لا يورثه . فلما أسلم أمره الله تعالى أن يورثه نصيبه " .
ومنها ما روى ابن جرير {[1684]}عن الزهري عن ابن المسيب قال : " نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم يورثونهم . فأنزل الله فيهم . فجعل لهم نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة . وأبى الله أن يكون للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم . ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية " .
واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية ، كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها : ولا تنافي بينها . لما أسلفناه في مقدمة التفسير . فراجعها ولا تغفل عنها .
هذا ولأبي علي الجبائي تأويل آخر في الآية . قال : تقدير الآية : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ، ورثة فآتوهم نصيبهم . أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم . فقوله : ( والذين عاقدت أيمانكم ) . معطوف على قوله : ( والوالدان والأقربون ) . والمعنى : ان ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به . وسمى الله تعالى الوارث مولى . والمعنى : لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : المراد ب ( الذين عاقدت أيمانكم ) الزوج والزوجة . والنكاح يسمى عقدا . قال تعالى : ( ولا تعزموا عقدة النكاح ) {[1685]} . فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة . ونظيره آية المواريث ، في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ، ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة .
أقول : هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير . ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك . ذهابا إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية ، من خبر أو اجماع ، فلا حجة في المروي منه آحادا ، مرفوعا أو موقوفا ، وان صح . وهذه الطريقة سبيل طائفة قصرت في علم السمع وأقلت البحث عنه . فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض .
ومذهبنا أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة رضي الله عنهم . لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة . ولأن القرآن أنزل على لغتهم . فالغلط أبعد عنهم من غيرهم . لا سيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما . فمتى صح الاسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير ، مقدما على كثير من الأئمة الجماهير . لوجوه متعددة : منها أنه رضي الله عنه ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي . روي عنه أنه قال : " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " وفي رواية ( بغير علم ) رواه أبو داود في العلم ، والنسائي والترمذي{[1686]} . فاذا جزم رضي الله عنه بأمر كان دليلا على رفعه . كما أسلفنا في المقدمة . ( ان / الله على كل شيء ) من الأشياء التي من جملتها الايتاء والمنع ( شهيدا ) أي عالما . ففيه الوعد والوعيد .