فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا} (33)

{ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهن نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ( 33 ) }

{ ولكل } من الرجال والنساء مفعول ثان قدم لتأكيد الشمول { جعلنا موالي } يلون ميراثهم وهو جمع مولى يطلق على المعتق والمعتق والناصر وابن العم والجار ، والمراد هنا العصبة أي ولكل أحد جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض ، فلا حق للحليف فيها وهم يرثون { مما ترك الوالدان والأقربون } من ميراثهم وهم الموروثون وقيل هم الوارثون ، والأول أولى لأنه مروي عن ابن عباس وغيره .

وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي ليتبع كل واحد ما قسم الله له من الميراث ولا يتمنى ما فضل الله به غيره عليه ، وقد قيل إن هذه الآية منسوخة لقوله تعالى { والذين عقدت أيمانكم } وقيل العكس كما روى ذلك ابن جرير ، وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله تعالى { والذين عقدت أيمانكم } قوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } .

{ والذين عقدت أيمانكم } أي الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصر والإرث فالمراد به موالي الموالاة فقد كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل أي يحالفه فيستحق منه ميراثه نصيبا ، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية ثم نسخ بقوله { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } وهذا أحد قولين في معنى الآية .

والآخر ما أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس ولكل جعلنا موالي ورثة والذين عقدت أيمانكم ، قال المهاجرون : لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ثم قال { والذين عقدت أيمانكم } {[463]} .

{ فآتوهم نصيبهم } من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ويوصي له ، وفي الباب أحاديث بطرق وألفاظ ، وفي الجلالين نصيبهم حظوظهم من الميراث وهو السدس وهو منسوخ كما تقدم ، وقرئ عقدت بتشديد القاف على التكثير أي والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف أو عقدت عهودهم أيمانكم والتقدير على قراءة الجمهور والذين عاقدت لهن أيمانكم ، والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد به القسم أو اليد أو هما جميعا ، ونسبة المعاقدة أو العقد إلى الأيمان مجاز ، وقيل التقدير ذوو أيمانكم والمعاقدة المحالفة والمعاهدة{[464]} .

{ إن الله كان على كل شيء شهيدا } قال عطاء : يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ ، فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء ، وقيل الشهيد هو الشاهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه ، فعلى هذا الشاهد بمعنى المخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين .


[463]:أخرجه البخاري8/186 وأبو داود، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس وتمام الحديث: "فلما نزلت: ولكل جعلنا موالي" نسخت ثم قال: "والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم" من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
[464]:وروى مسلم في صحيحه4/1961، والإمام أحمد في المسند4/83، وأبو داود وابن جرير، والنسائي، عن جبير ابن مطعم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا حلف في الإسلام" وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" قال القرطبي في المفهوم معنى: لا حلف، لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية، كانوا يتحالفون، وذلك أن المتحالفين كانا يتناصران في كل شيء فيمنع الرجل حليفه وإن كان ظالما، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن حتى يمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف من الظالم، وأنه يؤخذ ما عليه من الحق لا يمنعه أحد من ذلك، وحد الحدود، وبين الأحكام، أبطل ما كانت الجاهلية عليه من ذلك.