إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا} (33)

{ وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِي مِمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون } جملةٌ مبتدأةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها ، ولكلَ مفعولٌ ثانٍ لجعلنا قُدّم عليه لتأكيد الشمولِ ودفعِ توهُّمِ تعلقِ الجعلِ بالبعض دون البعض كما في قوله تعالى : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } [ المائدة ، الآية 48 ] أي ولكل تركةٍ جعلنا ورثة متفاوتةً في الدرجة يلونها ويُحرِزون منها أنصباءَهم بحسب استحقاقِهم المنوطِ بما بينهم وبين المورِّثِ من العلاقة ، ومما ترك بيانٌ لكلٍّ قد فُصل بينهما بما عَمِل فيه كما فُصِل في قوله تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض } [ الأنعام ، الآية 14 ] بين لفظِ الجلالةِ وبين صفتِه بالعامل فيما أضيف إليه أعني غيرَ ، أو لكل قومٍ جعلناهم مواليَ أي وارثٍ نصيبٌ معينٌ مغايرٌ لنصيب قومٍ آخرين مما ترك الوالدان والأقربون ، على أن جعلنا مواليَ صفةٌ لكلَ ، والضميرُ الراجعُ إليه محذوفٌ والكلامُ مبتدأٌ وخبرٌ على طريقة قولك : لكلِّ مَنْ خلقه الله إنساناً من رزق الله أي حظٌّ منه . وأما ما قيل من أن المعنى لكل أحدٍ جعلنا موالي مما ترك أي وُرّاثاً منه -على أن مِنْ صلةُ موالي لأنه في معنى الوارثِ وفي ترَك ضميرٌ مستكنٌّ عائدٌ إلى كل ، وقولُه تعالى : { الوالدان والأقربون } استئنافٌ مفسرٌ للموالي كأنه قيل : مَنْ هم ؟ فقيل : الوالدانِ -ففيه تفكيكٌ للنظم الكريمِ لأن ببيان الموالي بما ذُكر يفوتُ الإبهامُ المصحِّحُ لاعتبار التفاوتِ بينهم وبه يتحقق الانتظامُ كما أشير إليه في تقرير الوجهين الأولَيْن مع ما فيه من خروج الأولادِ من الموالي ، إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين . { والذين عَقَدَتْ أيمانكم } هم موالي الموالاةِ ، كان الحليفُ يرِثُ السدسَ من مال حليفِه فنُسخ بقوله تعالى : { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال ، الآية 75 . وسورة الأحزاب ، الآية 6 ] وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا أسلم رجلٌ على يد رجلٍ وتعاقدا على أن يرثَه ويعقِلَ عنه صح وعليه عقْلُه وله إرثُه إن لم يكن له وارثٌ أصلاً ، وإسنادُ العقدِ إلى الأَيْمان لأن المعتادَ هو المماسحةُ بها عند العقدِ ، والمعنى عقَدَتْ أَيمانُكم عهودَهم فحُذف العهودُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ثم حُذف ، وقرئ عقّدتْ بالتشديد وعاقدَتْ بمعنى عاقدتْهم أيمانُكم وماسحتُموهم وهو مبتدأٌ متضمِّنٌ لمعنى الشرطِ ، ولذلك صُدِّر الخبرُ أعني قولَه تعالى : { فآتوهم نصيبهم } بالفاء ، أو منصوبٌ بمضمر يفسّره ما بعده كقولك : زيداً فاضرِبْه ، أو مرفوعٌ معطوفٌ على الوالدان والأقربون ، وقوله تعالى : { فَآتُوهُمْ } الخ ، جملةٌ مبيِّنةٌ للجملة قبلها ومؤكِّدةٌ لها والضميرُ للموالي { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيء } من الأشياء التي من جملتها الإيْتاءُ والمنعُ { شَهِيداً } ففيه وعدٌ ووعيد .