" جعلنا " فيه سِتَّةُ أوْجُهٍ ، وذلك يَسْتَدْعِي مقدِّمَةً قبله ، وَهُوَ أنّ " كُلّ " لا بدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تُضَافُ إليْهِ .
قال القُرْطُبِيُّ{[7686]} : " كُلّ " في كلام العربِ مَعْناهَا : الإحَاطَةُ والعموم ، فإذا جَاءَتْ مُفْرَدَة ، فلا بدَّ وأن يكُونَ في الكَلاَمِ حَذْفٌ عند جميع النحويين " .
واختلفوا في تقديرهِ : فقيل تقدِيرُهُ : ولكلِّ إنسان .
وقيل : لِكُلِّ مال ، وقيل : لِكُلِّ قوم ، فإنْ كانَ التَّقْديرُ : لكل إنسان ، ففيه ثلاثة أوجه :
أحدُهَا : وَلِكُلِّ إنسانٍ موروثٍ{[7687]} جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً مِمَّا تَرَكَ ، ففي " تَرَكَ " ضميرٌ عائد على " كُلّ " ، وهنا تمّ الكلام .
وقيل : تَقْدِيرُهُ : ويتعلق " مِمَّا تَرَك " ب " مَوَالي " لما فيه من معنى الوراثة ، و " موالي " : مَفْعُولٌ أوَّ ل " جَعَلَ " ، و " جَعَلَ " بمعنى : " صَيَّر " ، و " لِكُلّ " جار ومجرور هو المفعول الثَّاني ، قُدِّم على عامِلِهِ ، ويرتفع " الوِلْدَان " على خبر مبتدأ محذوف ، أو بفعل مقدّر ، أي : يرثون مما [ ترك ]{[7688]} ، كأنه قيل : ومَنْ الوارثُ ؟ فقيل : هم الوَالِدَان والأقْرَبُون ، والأصل : " وجعلنا لكل ميت وراثاً يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون " .
والثَّانِي : أنَّ التَّقديرَ : ولكلِّ إنْسَانٍ موروث ، جعلنا وراثاً مما ترك ذلك الإنسان . ثُمَّ بين الإنْسَان المضاف إليه " كُلّ " بقوله : { الْوَالِدَانِ } ، كأنه قيل : ومن هو هَذَا الإنسان الموروث ؟ فقيل{[7689]} : الوالدان والأقربُونَ ، والإعراب كما تقدَّمَ في الوَجْهِ قَبْلَهُ ، إنَّمَا الفرقُ بينهما أنَّ الوالِدَيْنِ في الأوَّلِ وارثون ، وفي الثانِي مورثون ، وعلى هذيْنِ الوجْهَيْنِ فالكلامُ جُمْلَتَانِ ، ولا ضميرَ ، محذُوف في " جعلنا " ، و " موالي " مفعول أول ، و " لكل " مفعول ثان .
الثَّالِثُ : أن يكُونَ التَّقدِيرُ : ولكل إنسان وارِث ممَّن{[7690]} تركُ الولِدَانِ والأقْرَبُون جعلنا موالي ، أي : موروثين ، فَيُراد بالمَولى : الموْرُوثُ ، ويرتفع " الوالدان " ب : " ترك " ، وتكون " مَا " بمعنى " مَنْ " ، والجارّ ، والمجرورُ صِفَةٌ للمضاف إليه " كُلّ " ، والكلامُ على هذا جُمْلَةٌ واحِدَةٌ ، وفي هذا بُعْدٌ كبير .
الرَّابعُ : إذا كان التَّقديرُ وَلِكُلِّ قوْمٍ ، فالمعنى : ولكل قوم جعلناهم مَوَالي نصيبٌ مِمَّا تَرَكَهُ والدُهم{[7691]} وأقربوهم ، ف " لكل " خبر مقدّم ، و " نَصِيب " مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ ، و " جعلناهم " صفة لقوم ، والضَّمِيرُ العَائِدُ عليهم مفعولُ : " جعل " ، و " موالي " : إما ثانٍ وإمّا حالٌ ، على أنَّهَا بمعنى " خلقنا " ، و " مما ترك " صفةٌ للمبتدأ ، ثم حُذف المُبْتَدَأ ، وبقيت صفته ، [ وحُذِفَ المُضَافُ إليه " كُلّ " وبقيت صفته أيضاً ]{[7692]} ، وحُذف العَائِدُ على المَوْصُوفِ .
ونظيره : لِكُلِّ خَلَقَهُ اللَّه إنْسَاناً مِنْ رِزْقِ اللَّه ، أي : لِكُلِّ أحدٍ خلقه اللَّه إنْسَاناً نَصِيبٌ من رزقِ اللَّهِ .
الخَامِسُ : إنْ كَانَ التَّقدِيرُ : ولكلِّ مالٍ ، فقالوا : يكون المعنى : ولكلِّ مال مِمَّا تركه الوالدانِ والأقربون جعلنا موالي ، أي : وُرَّاثاً يلونه ، ويحوزونه ، وجعلوا " لِكُلّ " متعلقة : ب " جَعَلَ " ، و " مِمَّا ترك " صفة ل " كُلّ " ، والوالدان فَاعِلٌ ب " تَرَكَ " ، فيكونُ الكلامُ على هذا ، وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً ، وهذا وإنْ كَانَ حَسَناً ، إلاّ أنَّ فيه الفَصْلَ بين الصِّفَةِ والموْصُوفِ بجملةٍ عامِلَةٍ في الموْصُوفِ .
قاتل أبُو حَيَّان{[7693]} : " وهو نظير قولك : بكُلِّ رَجُلٍ مَرَرْتُ تميميٍّ وفي جواز ذلك نَظَرٌ " .
قال شهَابُ الدِّينِ{[7694]} : " ولا يحتَاجُ إلى نَظَرٍ ؛ لأنَّهُ قد وُجِدَ الفصلُ بَيْنَ الموْصُوفِ والصِّفَةِ بالجملةِ العَامِلَةِ في المُضَافِ إلى المَوصُوفِ ، كقوله تعالى :
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] ف { فَاطِرِ } صفة ل { اللَّه } ، وقد فُصِلَ [ بينهما ]{[7695]} ب { أَتَّخِذُ } العامل في { أَغَيْرَ } فهذا أولى " .
السَّادسُ : أنْ يكُونَ لكلِّ [ مال ]{[7696]} مفعولاً ثانياً ل " جعَلَ " على أنَّها تصييرية{[7697]} ، و " مَوَالي " مفعول أوَّل ، والإعرابُ على ما تقدَّمَ .
" المَولى " لفظ مُشْتَرَكٌ بيْنَ مَعَانٍ :
أحدها : المعتِقُ ؛ لأنَّهُ ولي نعمة من أعتقه ، ولذلك سمي مولى النعمة . ثانيها : الْعَبْدُ المُعْتَقُ لاتِّصَالِ ولايَةِ مَوْلاَهُ به في إنْعَامِه عليه ، وهذا كما سُمِّيَ الطَّالِبُ غرِيماً ؛ لأنَّ له اللُّزُوم والمطالبة بحقِّه ، ويسمَّى المطلوب غريماً ، لِكونِ الدِّينِ لازِماً له .
وثالثها : الحليفُ ؛ لأنَّ المحالف يلي أمْرَهُ بِعَقْدِ اليَمينِ .
ورابعُهَا : ابْنُ العَمِّ ؛ لأنَّهُ يليه بالنُّصْرَةِ .
وخامسها : المولى{[7698]} لأنَّ يليه بالنُّصْرَةِ ، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] .
سادسُهَا : العَصَبَةُ ، وهو المُرادُ بهذه الآية ؛ لقوله عليه السلامُ : " أنا أوْلَى بالمؤمنينَ ، مَنْ مَات وتَرَكَ مالاً ، فَمَالُهُ لمَوَالِي الْعَصَبَةِ ، ومَنْ ترك ديناً ؛ فأنَا وَلِيُّه " {[7699]} .
وقال عليه السلامُ : " ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فللأوْلَى عصبَةٍ ذكر " {[7700]} .
قوله { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ } في محلّهِ أربعة أوجهٍ :
أحدُهَا : أنَّهُ مُبْتدأ والخبر قوله : " فآتوهم " [ ودخلت الفاء في الحيز لتضمن الذي معنى الشرط ]{[7701]} .
الثَّاني : أنَّهُ منصوبٌ على الاشْتِغالِ بإضمار فعلٍ ، وهذا أرجحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْدَهُ طلباً .
والثَّالِثُ : أنَّهُ مرفوعٌ عطفاً على { الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } ، فإن أريدَ بالوالدين أنَّهُم موروثون ، عادَ الضَّميرُ من " فآتوهم " على " موالي " وإن أُريد أنَّهُم وَارِثُون جازَ عودُه على " موالي " وعلى الوالدَيْنِ وما عُطِفَ عليهم .
الرَّابِعُ : أنَّهُ منصوب عطفاً على " موالي " .
قال أبُو البَقَاءِ{[7702]} : [ أي : ]{[7703]} " وجعلنا الذين عاقدتْ وُرّاثاً ؛ وكان ذلك ونسخ " ، وردّ عليه أبُو حَيَّان{[7704]} بِفَسَادِ العطْفِ ، قال : فإن جُعِل من عطْفِ الجُمَل ، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أيْ : جعلنا وُرَّاثاً لكلِّ شَيْءٍ من المال ، أو لِكُلِّ إنسان ، وجَعلنَا الذِينَ عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً وفيه بعد ذلِكَ تَكَلُّفٌ .
وقرأ عاصمٌ وحمْزَةُ والكسَائِيُّ{[7705]} : " عقدت " والباقون : " عاقدت " بألف وروي عن حمزة التَّشديد في " عقدت " ، والمفاعلة هنا ظَاهِرَةٌ ؛ لأنَّ المَرَادَ المخالفة .
والمفعولُ محذوفٌ على كُلٍّ من القِرَاءاتِ ، أي : عاقدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم ، ونسبة المُعاقَدَةِ ، أو العَقْدِ إلى الأيمان مجاز ، سوَاءٌ أُريد بالأيْمَانِ الجَارِحَة ، أم القَسمُ .
وقيل : ثمَّ مُضافٌ محذوفٌ ، أي : عقدت ذَوُو أيْمَانِكُم .
فصل في : " معنى المعاقدة والأيمان "
المُعَاقَدَةُ المُحالَفَةُ ، والأيْمَانُ جمع يَمينٍ من اليد والقسَمِ ، وذلك أنَّهُم كانُوا عند المُحالَفَةُ يأخذُ بعضهُمُ يدَ بَعْضٍ ، على الوفَاءِ [ والتمسك ]{[7706]} بالعهد .
قال بعضهم : إنَّ هذه الآية مَنْسُوخَةٌ ، واسْتدلُّوا على ذلك{[7707]} بوجوه :
أحدها{[7708]} : أنَّ الرَّجُلَ كان في الجاهلِيَّةِ يُعَاقِدُ غيْرَهُ ، فيقُولُ : " دَميَ دمُكَ وسِلْمِي سِلْمُك ، وَحَرْبِي حَرْبُكَ ، وترثُنِي{[7709]} وَأرِثُك ، وَتَعْقِلُ عَنِّي ، وأعْقِلُ عنك " ، فيَكُونُ لهذا الحليف السّدس [ من ]{[7710]} الميراثِ ، فذلك قوله : " فآتوهم نصيبهم " ، فنُسِخ ذلك بقوله :
{ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ الأنفال : 75 ] ، وبقوله :
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] .
وثانيها : أنَّ الرَّجُلَ كانَ يتَّخِذُ أجنبياً فيجعله{[7711]} ابْناً له ، وَهُمُ المُسَمُّوْنَ بالأدْعِيَاء في قوله تعالى : { أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } ، وكانوا يتوارثون بذلك ، ثم نُسِخَ .
وثالِثُهَا : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُثْبِتُ المؤاخاة بيْنَ الرَّجلين مِنْ أصحابِهِ ، وكان ذلك سَبَباً للِتَّوَارُثِ ، ثم نسخ .
وقال آخرُونَ : الآيةُ غير مَنْسُوخَةٍ .
وقال إبْراهيمُ ومُجاهِدٌ : أرادَ : " فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث " {[7712]} .
وقال الجبَّائِيُّ{[7713]} : تقدير الآية : " ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون " ، { والذين عاقدت أيمانكم } معطوف على قوله : { الوالدان والأقربون } ، وسمى اللَّهُ تعالى الوارث مولى ، والمعنى : لا تَدفعُوا المالَ إلى الحليفِ ، بل للمولى ، والْوَارِثِ .
وقال آخرون{[7714]} : المُرادُ ب { الذين عاقدت أيمانكم } الزَّوْجُ ، والزَّوْجَةُ ، فأراد عقد النِّكاح قال تعالى { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } [ البقرة : 235 ] وهو قول أبِي مُسْلِم الأصفهانيَّ قال : ونظيره آية المواريث ، لما بَيَّنَ آية ميراث الوالدَيْنِ ، ذكر معهم ميراثَ الزَّوْجِ ، والزَّوْجَةِ .
وقيل : أراد بقوله : { الذين عاقدت أيمانكم } : الميراث بِسَبَبِ [ الوَلاَء ]{[7715]} وقيل : " نزَلَتِ الآيةُ في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق ، وابنه عبد الرَّحْمن ، أمره اللَّه أن يؤتيه نَصِيبَهُ " {[7716]} .
وقال الأصمُّ{[7717]} : المُرادُ بهذا النَّصِيب على سبيل الهِبَةِ ، والهديَّة بالشيءِ القَلِيلِ كأمره تعالى لمن{[7718]} حَضَرَ القِسمَةَ أن يجعل لَهُ نصيباً كما تقدّم .
فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى
قال جمهور الفُقَهَاءِ{[7719]} : " لا يَرثُ المَولى الأسْفَل من الأعلى " .
وحكى الطَّحَاوِيُّ عن الحسن{[7720]} بنِ زيادٍ أنَّهُ قال : " يَرِثُ " ، لما روى ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّ رجُلاً أعتق عبداً له ؛ فَمَاتَ المُعْتِق ، ولم يترك إلا المُعتَق{[7721]} ، فجعل رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق ولأنَّهُ داخلٌ{[7722]} في عموم قوله : { والذين عاقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم } .
وأجيب بأنه لَعَلّ{[7723]} ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغُلامِ لحاجته ، وفقره ؛ لأنه كانَ مالاً لا وارث لَهُ ، فَسَبيلُهُ أن يُصرف إلى الفُقَرَاءِ .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] ثم قال ]{[7724]} { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } ، وهذه كلمة وعد للمطيعين ، ووعيد لِلْعُصَاةِ ، والشَّهِيدُ الشَّاهد ، والمرادُ إمّا{[7725]} علمه تعالى بجميع المَعْلُومَاتِ ، فيكونُ المُرَادُ بالشَّهيدِ العالم ، وإمّا شهادته على الخلق يَوْمَ القِيامَةِ ، فالمُرَادُ بالشَّهيدِ المخبر .