176- يسألونك - أيها النبي - عن ميراث من مات ولا ولد له ولا والد ، فحكم الله فيه هو : أنه إذا كان للمُتَوَفى أخت ، فلها نصف تركته ، وأيضاً إذا كان للمتوفاة التي لا زوج لها ولا ولد أخ فله تركتها ، وإن كان للمُوَرِّث أختان فلهما ثلثا تركته{[46]} وإن كانوا إخوة من ذكور وإناث فنصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين . يبين الله لكم هذا البيان حتى لا تضلوا في تقسيم الأنصباء ، والله عالم علماً كاملاً بكل شيء من أعمالكم ، ومجازيكم عليها .
قوله تعالى : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } . نزلت في جابر ابن عبد الله رضي الله عنه ، قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل ، وتوضأ وصب عليّ من وضوئه ، فعقلت ، فقلت : يا رسول الله لمن الميراث ؟ إنما يرثني الكلالة ، فنزلت : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وقد ذكر معنى الكلالة ، وحكم الآية في أول السورة ، وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم ، أو للأب .
قوله : { يستفتونك } أي : يستخبرونك ، ويسألونك ، { قل الله يفتيكم في الكلالة } .
قوله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها } ، يعني إذا ماتت الأخت فجميع ميراثها للأخ .
قوله تعالى : { وإن لم يكن لها ولد } . فإن كان لها ابن فلا شيء للأخ ، وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنات .
قوله تعالى : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } ، أراد اثنتين فصاعداً ، وهو إن من مات وله أخوات فلهن الثلثان .
قوله تعالى : { وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا } ، قال الفراء رحمة الله عليه ، وأبو عبيدة : معناه أن لا تضلوا ، وقيل معناه : يبين الله لكم كراهة أن تضلوا .
قوله تعالى : { والله بكل شيء عليم } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن رجاء ، أنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنهم قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن آخر آية نزلت آية الربا ، وآخر سورة نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } .
وروي عنه أن آخر آية نزلت قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] . وروي بعدما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عاماً ، ونزلت بعدها سورة براءة ، وهي آخر سورة نزلت كاملةً ، فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر ، ثم نزلت في طريق حجة الوداع { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } فسميت آية الصيف ، ثم نزلت وهو واقف بعرفة : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة :3 ] فعاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ، ثم نزلت آيات الربا ، ثم نزلت { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً .
وهكذا تختم السورة التي بدأت بعلاقات الأسرة ، وتكافلها الاجتماعي ؛ وتضمنت الكثير من التنظيمات الاجتماعية في ثناياها . . تختم بتكملة أحكام الكلالة - وهي على قول أبى بكر رضي الله عنه وهو قول الجماعة : ما ليس فيها ولد ولا والد .
وقد ورد شطر هذه الأحكام في أول السورة . وهو الشطر المتعلق بوراثة الكلالة من جهة الرحم حين لا توجد عصبة . وقد كان نصه هناك : ( وإن كان رجل يورث كلالة - أو امرأة - وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس . فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث - من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار - وصية من الله ، والله عليم حليم ) . .
فالآن يستكمل الشطر الآخر في وراثة الكلالة . . فإن كانت للمتوفى ، الذي لا ولد له ولا والد ، أخت شقيقة أو لأب ، فلها نصف ما ترك أخوها . وهو يرث تركتها - بعد أصحاب الفروض - إن لم يكن لها ولد ولا والد كذلك . فإن كانتا أختين شقيقتين أو لأب فلهما الثلثان مما ترك . وإن تعدد الإخوة والأخوات فللذكر مثل حظ الأنثيين - حسب القاعدة العامة في الميراث - والإخوة والأخوات الأشقاء يحجبون الإخوة والأخوات لأب حين يجتمعون .
وتختم آية الميراث ، وتختم معها السورة ، بذلك التعقيب القرآني الذي يرد الأمور كلها لله ، ويربط تنظيم الحقوق والواجبات ، والأموال وغير الأموال بشريعة الله :
( يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ) . .
صيغة جامعة شاملة ( بكل شيء ) من الميراث وغير الميراث . من علاقات الأسر وعلاقات الجماعات . من الأحكام والتشريعات . . فإما اتباع بيان الله في كل شيء ، وإما الضلال . . طريقان اثنان لحياة الناس لا ثالث لهما : طريق بيان الله فهو الهدى . وطريق من عداه فهو الضلال .
قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء قال : آخر سورة نزلت : " براءة " ، وآخر آية نزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ }{[8786]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : دخل عَلَيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا مريض لا أَعْقِل ، قال : فتوضأ ، ثم صَبَّ عَلَيّ - أو قال صبوا عليه - فَعَقَلْتُ فَقُلت : إنه لا يرثني إلا كلالة ، فكيف الميراث ؟ قال : فنزلت آية الفرائض .
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة{[8787]} ، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عُيَيْنة ، عن محمد بن المُنْكَدر ، عن جابر ، به{[8788]} . وفي بعض الألفاظ : فنزلت آية الميراث : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان وقال ابن الزبير قال - يعني جابرا - : نزلت في : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } .
وكأن معنى الكلام - والله أعلم - { يَسْتَفْتُونَكَ } : عن الكلالة قل : الله يفتيكم فيها ، فدل المذكور على المتروك .
وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها ، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ؛ ولهذا فسرها أكثر العلماء : بمن يموت وليس له ولد ولا والد ، ومن الناس من يقول : الكلالة من لا ولد له ، كما دلت عليه هذه الآية : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } [ أي مات ]{[8789]} { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } .
وقد أُشْكِل حُكْم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ثلاث وَدِدْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قَتَادة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة قال : قال عمر بن الخطاب : ما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بأُصْبُعِه في صدري وقال : " يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " .
هكذا رواه مختصرًا وقد أخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا{[8790]} .
طريق أخرى : قال [ الإمام ]{[8791]} أحمد : حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا مالك - يعني ابن مِغْل - سمعت الفضل بن عمرو ، عن إبراهيم ، عن عمر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف " . فقال : لأن أكون سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها أحبَّ إليّ من أن يكونَ لي حُمْر النَّعم . وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعًا بين إبراهيم وبين عُمَر ، فإنه لم يدركه{[8792]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي إسحاق ، عن البَراءِ بن عازبٍ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف " . وهذا إسناد جيد ، رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عيَّاش ، به{[8793]} . وكأن المراد بآية الصيف : أنها نزلت في فصل الصيف ، والله أعلم .
ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها - فإن فيها كفاية - نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها ؛ ولهذا قال : فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إليّ من أن يكون لي حُمْر النَّعَم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا جرير عن{[8794]} الشيباني ، عن عمرو بن مُرة ، عن سعيد بن المسيَّب قال : سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : " أليس قد بين الله ذلك ؟ " فنزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ ]{[8795]} } الآية . وقال قتادة : ذُكر{[8796]} لنا أن أبا بكر الصديق [ رضي الله عنه ]{[8797]} قال في خطبته : ألا إن الآية التي أنزلت{[8798]} في أول " سورة النساء " في شأن الفرائض ، أنزلها الله في الولد والوالد . والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم . والآية التي ختم بها " سورة النساء " أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها " سورة الأنفال " أنزلها في أولي الأرحام ، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، مما جَرّت الرحم من العَصَبة . رواه ابن جرير{[8799]} .
ذكر الكلام على معناها وبالله المستعان ، وعليه التكلان :
قوله تعالى : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } أي : مات ، قال الله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] كل شيء يفنى ولا يبقى إلا{[8800]} الله ، عز وجل ، كما قال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [ الرحمن : 26 ، 27 ] .
وقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد{[8801]} ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد ، وهو رواية عن عمر بن الخطاب ، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه . ولكن الذي رجع{[8802]} إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق : أنه مَنْ لا ولد له ولا والد ، ويدل على ذلك قوله : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } ولو كان معها أب لم ترث شيئًا ؛ لأنه يحجبها بالإجماع ، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ، ولا والد بالنص عند التأمل أيضًا ؛ لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد ، بل ليس لها ميراث بالكلية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ، عن مَكْحُول وعطية وحمزة وراشد ، عن زيد بن ثابت : أنه سئلَ عن زوج وأخت لأب وأم ، فأعطى الزوجَ النصفَ والأخت النصفَ . فكُلِّم في ذلك ، فقال : حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك .
تفرد به أحمد من هذا الوجه{[8803]} ، وقد نقل ابن جرير{[8804]} وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتًا وأختًا : إنه لا شيء للأخت لقوله : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } قال : فإذا ترك بنتًا فقد ترك ولدًا{[8805]} ، فلا شيء للأخت ، وخالفهما الجمهور ، فقالوا في هذه المسألة : للبنت النصف بالفرض ، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب ، بدليل غير هذه الآية وهذه نَصب{[8806]} أن يفرض لها في هذه الصورة ، وأما وراثتها بالتعصيب ؛ فلما رواه البخاري من طريق سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : النصف للابنة ، والنصف للأخت . ثم قال سليمان : قضى فينا ولم يذكر : على عهد رسول الله{[8807]} صلى الله عليه وسلم{[8808]} . وفي صحيح البخاري أيضًا عن هُزيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت ، فقال : للابنة{[8809]} النصف ، وللأخت النصف ، وأت ابن مسعود فسيتابعني . فسئل ابنُ مسعود - وأخبر بقول أبي موسى - فقال : لقد ضَلَلْتُ إذًا وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس ، تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم{[8810]} .
وقوله : { وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } أي : والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة ، وليس لها ولد ، أي : ولا والد ؛ لأنه لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئًا ، فإن فرض أن معه من له فرض ، صرف إليه فرضه ؛ كزوج ، أو أخ من أم ، وصرف الباقي إلى الأخ ؛ لما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أَلْحِقُوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فَلأوْلَى رجلٍ ذَكَر " {[8811]} .
وقوله : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } أي : فإن كان لمن يموت كلالة ، أختان ، فرض لهما الثلثان ، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات ، في قوله : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } .
وقوله : { وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } . هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم ، أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين .
وقوله : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ } أي : يفرض لكم فرائضه ، ويحدّ لكم حدوده ، ويوضح لكم شرائعه .
وقوله : { أَنْ تَضِلُّوا } أي : لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان . { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده ، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى .
وقد قال أبو جعفر ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن عُلَيَّة ، أنبأنا ابن عَوْن ، عن محمد بن سيرين قال : كانوا في مسير ، ورأس راحلة حذيفة عند رِدْف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة . قال : ونزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } فلقَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ، فلقاها حذيفة عُمَر ، فلما كان بعد ذلك سأل عُمَرُ عنها حذيفة فقال : والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقَّانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتكها كما لقانيها{[8812]} ، والله لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا . قال : فكان عمر [ رضي الله عنه ]{[8813]} يقول : اللهم إن{[8814]} كنت بينتها له فإنها لم تُبَين لي .
كذا{[8815]} رواه ابن جرير . ورواه أيضًا عن الحسن بن يحيى{[8816]} ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين كذلك بنحوه . وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة{[8817]} ، وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزَّار في مسنده : حدثنا يوسف بن حماد المَعْنيُّ ، ومحمد بن مرزوق قالا : أخبرنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، حدثنا هشام بن حسَّان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي عبيدة بن حذيفة ، عن أبيه : " نزلت الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو بحذيفة ، وإذا رأس ناقة حذيفة عند مُؤتَزَر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقَّاها إياه ، فنظر حذيفة فإذا عمر ، رضي الله عنه ، فلقاها إياه ، فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة ، فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة : لقد لقَّانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَقَّيتُك كما لقاني ، والله{[8818]} إني لصادق ، ووالله لا أزيد على ذلك شيئًا أبدًا .
ثم قال البزار : وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه إلا حذيفة ، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق ، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى . وكذا رواه ابن مَردُوَيه من حديث عبد الأعلى{[8819]} .
وقال عثمان بن أبي شَيْبَة : حدثنا جرير ، عن الشَّيباني ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد - [ هو ]{[8820]} ابن المسيَّب - أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُوَرّث الكلالة ؟ قال : فأنزل الله { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ]{[8821]} } الآية{[8822]} ، قال : فكأن عمر لم يفهم . فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نَفْس فسليه عنها ، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها{[8823]} ، فقال : " أبوك ذكر لك هذا ؟ ماأرى أباك يعلمها " . قال : وكان{[8824]} عمر يقول : ما أراني أعلمها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال .
رواه ابن مَرْدُوَيه{[8825]} ، ثم رواه من طريق ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس : أن عمر أمر حَفْصَة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فأملاها عليها في كَتَفٍ ، فقال : " من أمرك بهذا ؟ أعمر ؟ ما أراه يقيمها ، أوما تكفيه{[8826]} آية الصيف ؟ " قال سفيان : وآية الصيف التي في النساء : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ } ، فلما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية التي هي خاتمة النساء ، فألقى عمر الكتف . كذا قال في هذا الحديث ، وهو مرسل{[8827]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرِيْبٍ ، حدثنا عَثَّام ، عن الأعمش ، عن قيس بن مُسْلِم ، عن طارق بن شهاب قال : " أخذ عمر كَتفًا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لأقضينَّ في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن . فخرجت حينئذ حَيّة من البيت ، فتفرقوا ، فقال : لو أراد الله ، عز وجل ، أن يتم هذا الأمر لأتمه . وهذا إسناد صحيح{[8828]} .
وقال الحاكم أبو عبد الله النَّيْسَابُورِي : حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشَّيْبَاني بالكوفة ، حدثنا الهيثمُ بن خالد ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانَة يحدث عن عمر بن الخطاب قال : لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحبُّ إليّ من حُمْر النَّعَم : مَن الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا : نُقرُّ في الزكاة من أموالنا ولا نؤديها إليك ، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[8829]} . ثم روي بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن مُرة ، عن عمر قال : ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَهُنّ لنا أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها : الخلافة ، والكلالة ، والربا . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[8830]} .
وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال : سمعتُ سليمان الأحولَ يحدث ، عن طاوس قال : سمعت ابن عباس قال : كنتُ آخر الناس عهدا بعمر ، فسمعته يقول : القولُ ما قلتُ : قلتُ : وما قلتَ ؟ قال : قلتُ : الكلالة ، من لا ولد له . ثم قال : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه .
وهكذا رواه ابن مَرْدُوَيه من طريق زَمْعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار وسليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كنتُ آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، قال : اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة ، والقولُ ما قلتُ . قال : وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأب وللأم{[8831]} ، وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا ، وخالفه أبو بكر ، رضي الله عنهما{[8832]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا محمد بن حُمَيْد الْمَعْمَرِي{[8833]} ، عن مَعْمَر عن الزُّهْرِي ، عن سعيد بن المسيَّب : أن عمر كتب في الجَدِّ والكلالةِ كتابًا ، فمكث يستخير الله فيه يقول : اللهم إن علمت فيه خيرًا فأمضه ، حتى إذا طَعِن دعا بكتاب فمحى ، ولم يدرِ أحدٌ ما كتب فيه . فقال : إني كنت كتبت في الجَدِّ والكلالة كتابًا ، وكنت استخرت الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه{[8834]} .
قال ابن جرير : وقد رُوِي عن عمر ، رضي الله عنه ، أنه قال : إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر . وكأن أبو بكر ، رضي الله عنه ، يقول : هو ما عدا الولد والوالد{[8835]} .
وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة ، في قديم الزمان وحديثه ، وهو مذهب الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة . وقول علماء الأمصار قاطبة ، وهو الذي يدل عليه القرآن ، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه{[8836]} في قوله{[8837]} : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
تقدم القول في تفسير { الكلالة } في صدر السورة ، وان المترجح أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب لا عال ولا سافل ، وبقي فيها من يتكلل ، أي : يحيط من الجوانب كما يحيط الإكليل ، وكان أَمر الكلالة عند عمر بن الخطاب مشكلاً فقال : ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة ، ولوددت أن رسول الله لم يمت حتى يبينها وقال على المنبر : ثلاث لو بينها رسول الله كان أحب إليَّ من الدنيا : الجد والكلالة ، والخلافة ، وأبواب من الربا{[4392]} ، وروي عنه رضي الله عنه أنه كتب فيها كتاباً فمكث يستخير الله فيه ويقول : اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه ، فلما طعن دعا بالكتابة فمحي ، فلم يدر أحد ما كان فيه{[4393]} ، وروى الأعمش عن إبراهيم وسائر شيوخه قال : ذكروا أن عمر رضي الله عنه قال : لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليَّ من جزية قصور الشام{[4394]} . وقال طارق بن شهاب : أخذ عمر بن الخطاب كتفاً وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت فتفرقوا ، فقال عمر : لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه{[4395]} ، وقال معدان بن أبي طلحة : خطب عمر بالناس يوم الجمعة فقال : إني والله ما أدع بعدي شيئاً هو أهم إليَّ من أمر الكلالة وقد سألت عنها رسول الله ، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن في نحري وقال : تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف معها اثنان ممن يقرأ القرآن{[4396]} . وسئل عقبة بن عامر عن الكلالة فقال : ألا تعجبون لهذا يسألني عن الكلالة ؟ وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة{[4397]} .
قال القاضي أبو محمد : فظاهر كلام عمر رضي الله عنه أن آية الصيف هي هذه ، وروى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكلالة فقال : ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف { وإن كان رجل يورث كلالة }إلى آخر الآية{[4398]} .
قال القاضي رحمه الله : هذا هو الظاهر ، لأن البراء بن عازب قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وقال كثير من الصحابة : هي من آخر ما نزل{[4399]} ، وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسببي ، عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت يا رسول الله : كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ، ولم يكن لي والد ولا ولد ؟ فنزلت الآية{[4400]} .
قال القاضي أبو محمد : وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تكفيك منها آية الصيف ، بيان فيه كفاية وجلاء ، ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه ؟ إلا أن تكون دلالة اللفظ ولذلك قال بعضهم : { الكلالة } الميت نفسه{[4401]} ، وقال آخرون { الكلالة } المال ، إلى غير ذلك من الخلاف ، وإذا لم يكن في الفريضة والد ولا ولد وترك الميت أختاً ، فلها النصف فرضاً مسمى بهذه الآية ، فإن ترك الميت بنتاً وأختاً ، فللبنت النصف ، وللأخت النصف بالتعصيب لا بالفرض المسمى ، ولعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس في هذه المسألة خلاف للناس ، وذكر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته : ألا إن آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال ، أنزلها الله في أولي الأرحام{[4402]} .
وقرأ ابن أبي عبلة «فإن للذكر مثل حظ » وقوله تعالى { أن تضلوا } معناه : كراهية أن تضلوا ، وحذر أن تضلوا فالتقدير . لئلا تضلوا ، ومنه قول القطامي في صفة ناقة : [ الوافُر ]
رَأَيْنا مَا يَرَى البُصَرَاءُ مِنْهَا *** فآلينا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعا{[4403]}
وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ { يبين الله لكم أن تضلوا } قال : اللهم من بَّينت له الكلالة فلم تتبّين لي{[4404]} .