فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (176)

{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرأ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ( 176 ) }

{ يستفتونك } ختم السورة بذكر الأموال كما أنه افتتحها بذلك لتحصل المشاكلة بين المبدأ والختام ، وجملة ما في هذه السورة من آيات المواريث ثلاثة

الأولى : في بيان إرث الأصول والفروع .

والثانية : في بيان إرث الزوجين والأخوة والأخوات من الأم .

والثالثة : وهي هذه في إرث الأخوة والأخوات الأشقاء أو لأب ، وأما أولو الأرحام فمذكورون في آخر الأنفال ، والمستفتي عن الكلالة هو جابر كما سيأتي ، وعن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية .

{ قل الله يفتيكم في الكلالة } قد تقدم الكلام في الكلالة في أول هذه السورة واسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث ، فإن وقع على الأول فهم من سوى الوالد والولد ، وإن وقع على الثاني فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد .

قد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا الكلالة فكيف الميراث فنزلت آية الفرائض ، وعنه عند ابن سعد وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت في قل الله يفتيكم في الكلالة .

وعن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تورث الكلالة فأنزل الله هذه الآية ، وأخرج مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال : ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : ما يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء .

وأخرج البخاري وغيرهما عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهم عهدا ننتهي إليه : الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا ، وقد أوضحنا الكلام لغة وخلافا واستدلالا وترجيحا في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده .

{ إن امرؤ هلك } أي إن هلك امرؤ ، هلك كما تقدم في قوله : { وإن امرأة خافت } والمعنى مات وسمي الموت هلاكا في الحقيقة { ليس له ولد } إما صفة لامرؤ أو حال كما قاله صاحب الكشاف ، ولا وجه للمنع من كونه حالا والأول رجحه الكرخي .

والولد يطلق على الذكر والأنثى ، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالا على ظهور ذلك ، قيل والمراد هنا الابن وهو أحد معنيي المشترك لأن البنت لا تسقط الأخت .

{ وله أخت } المراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم فإن فرضها السدس كما ذكر سابقا { فلها } أي لأخت الميت { نصف ما ترك } .

وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهن أخ ، وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات ، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة ، وقالوا إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت ، واحتجوا بظاهر هذه الآية فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيدا في ميراث الأخت .

وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت ، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذا قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وأخت فجعل للبنت النصف ، وللأخت النصف ، وكذا صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي ، فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت .

{ وهو } أي الأخ { يرثها } أي كذلك يرث الأخت جميع ما تركت { إن لم يكن لها ولد } ذكر ، إن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع ما تركته ، وإن كان المراد ثبوت ميراثه لها فالجملة أعم من يكون كلا أو بعضا صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى ، فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها ، ولو كانت الأخت أو الأخ من أم ففرضه السدس كما تقدم في أول السورة .

واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر لأن المراد بيان سقوط الأخ مع الولد فقط هنا ، وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر ، والأب أولى من الأخ{[578]} .

{ فإن كانتا } أي فإن كان من يرث بالأخوة { اثنتين } أي أختين فصاعدا لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات سبع أو تسع والعطف على الشرطية والتأنيث والتثنية وكذلك الجمع في قوله وإن كانوا أخوة باعتبار الخبر { فلها الثلثان مما ترك } الأخ إن لم يكن له ولد كما سلف ، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى .

{ وإن كانوا } أي من يرث بالإخوة { إخوة } أي وأخوات فغلب الذكور على الإناث أو فيه اكتفاء بدليل { رجالا ونساء } أي مختلطين ذكورا وإناثا { فللذكر } منهم { مثل حظ الأنثيين } تعصيبا { يبين الله لكم } حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة { أن تضلوا } هكذا حكاه القرطبي عن البصريين وبه قال الكشاف وتبعه القاضي ورجحه .

وقال الكسائي : المعنى لئلا تضلوا ، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين قال أبو عبيد : رويت للكسائي حديث ابن عمر لا يدعوا أحدكم على ولده أن يوافق من الله ساعة إجابة فاستحسنه أي لئلا يوافق { والله بكل شيء } من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها { عليم } أي كثير العلم يعلم مصالح العباد ، في المبدأ والمعاد ، وفيها كلفهم من الأحكام .

وهذه السورة اشتمل أولها على كمال تنزه الله وسعة قدرته ، وآخرها اشتمل على بيان كمال العلم وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والألوهية والجلال والعزة ، وبهما يجب أن يكون العبد منقادا للتكاليف ، قاله أبو حيان .

روى الشيخان عن البراء أنهال آخر آية نزلت من الفرائض ، وروي عن ابن عباس : آخر آية نزلت آية الربا ، وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت سورة النصر عاش عاما ونزلت بعدها براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة ، فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر ، ثم نزلت في طريق حجة الوداع { يستفتونك } الآية فسميت آية الصيف لأنها نزلت في الصيف ، ثم نزلت وهو واقف بعرفة { اليوم أكملت لكم دينكم } فعاش بعدها واحدا وثمانين يوما ثم نزلت آية الربا ثم نزلت { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما .


[578]:مسلم/1615 والبخاري/2496.