قوله تعالى : { بديع السماوات والأرض } . مبدعها ومنشئها من غير مثال سبق .
قوله تعالى : { وإذا قضى أمراً } . أي قدره ، وقيل : أحكمه وأتقنه ، وأصل القضاء : الفراغ ، ومنه قيل لمن مات : قضي عليه لفراغه من الدنيا ، ومنه قضاء الله وقدره لأنه فرغ منه تقديراً وتدبيراً .
قوله تعالى : { فإنما يقول له كن فيكون } . قرأ ابن عامر كن فيكون بنصب النون في جميع المواضع إلا في آل عمران :{ كن فيكون الحق من ربك } ، وفي سورة الأنعام :{ كن فيكون قوله الحق } وإنما نصبها لأن جواب الأمر بالفاء يكون منصوباً . وقرأ الآخرون بالرفع ، على معنى فهو يكون ، فإن قيل كيف قال :{ فإنما يقول له كن }والمعدوم لا يخاطب ؟ قيل قال ابن الأنباري : معناه فإنما يقول له أي لأجل تكوينه ، فعلى هذا ذهب معنى الخطاب ، وقيل : هو وإن كان معدوماً ولكنه لما قدر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فصح الخطاب .
{ بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
يعني جل ثناؤه بقوله : بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ مبدعها . وإنما هو «مُفْعل » صرّف إلى «فَعِيل » ، كما صرّف المؤلم إلى أليم ، والمسمع إلى سميع . ومعنى المبدع : المنشىء والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا ، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره . وكذلك كل محدث فعلاً أو قولاً لم يتقدّمه فيه متقدّم ، فإن العرب تسميه مبتدعا . ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة في مدح هوذة بن عليّ الحنفي :
يَرْعَى إلى قَوْلِ سادَاتِ الرّجالِ إذَا *** أبْدَوْا لَهُ الحَزْمَ أوْ ما شَاءَهُ ابْتَدَعا
أي يحدث ما شاء . ومنه قول رؤبة بن العجّاج :
فأيّها الغاشِي القِذَافَ ألا تْيَعا *** إنْ كُنْتَ لِلّهِ التّقِيّ أَلا طْوَعا
***فَلَيْسَ وَجْهُ الحَقّ أنْ تَبَدّعا***
يعني : أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه .
فمعنى الكلام : سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض ، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقرّ له بالطاعة وهو بارئها وخالقها ، وموجدها من غير أصل ، ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده ، أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوّته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يقول : ابتدع خلقها ، ولم يشركه في خلقها أحد .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يقول : ابتدعها فخلقها ، ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَإِذَا قَضَى أمْرا وإذا أحكم أمرا وحَتَمه . وأَصْلُ كل قضاء أمرٍ الإحكامُ والفراغ منه ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس : القاضي بينهم ، لفصله القضاء بين الخصوم ، وقَطْعه الحكم بينهم وفراغه منه . ومنه قيل للميت : قد قَضَى ، يراد به قد فرغ من الدنيا ، وفصل منها . ومنه قيل : ما ينقضي عجبي من فلان ، يراد : ما ينقطع . ومنه قيل : تَقَضّى النهارُ : إذا انصرم . ومنه قول الله عز وجل : { وَقَضَى رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيَاهُ } أي فصل الحكم فيه بين عباده بأمره إياهم بذلك ، وكذلك قوله :
{ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتابِ } أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به ، ففرغنا إليهم منه . ومنه قول أبي ذؤيب :
وَعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُما دَاوُدُ أوْ صَنَعَ السّوَابِغِ تُبّعُ
ويُروى : «وتَعاوَرَا مَسْرُودَتينِ قَضَاهُما » .
ويعني بقوله : { قضاهما } : أحكمهما . ومنه قول الاَخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قَضَيْتُ أُمُورا ثُمّ غَادَرْتَ بَعْدَها بِوَائِقَ في أكْمَامِها لَمْ تَفَتُقِ
وأما قوله : ف{ َإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فإنه يعني بذلك : وإذا أحكم أمرا فحتمه ، فإنما يقول لذلك الأمر «كُنْ » ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ؟ وفي أيّ حال يقول للأمر الذي يقضيه كُنْ ؟ أفي حال عدمه ، وتلك حال لا يجوز فيها أمره ، إذ كان محالاً أن يأمر إلا المأمور ، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر وكما محال الأمر من غير آمر ، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور . أم يقول له ذلك في حال وجوده ، وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث ، لأنه حادث موجود ، ولا يقال للموجود : كن موجودا إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه ؟ قيل : قد تنازع المتأوّلون في معنى ذلك ونحن مخبرون بما قالوا فيه ، والعلل التي اعتلّ بها كل فريق منهم لقوله في ذلك :
قال بعضهم : ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه ، ومضى فيه أمره ، نظير أَمْرِهِ من أَمَرَ من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين ، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك ، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم ، وكالذي خسف به وبداره الأرض ، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه . فوجه قائلو هذا القول قوله : وَإِذَا قَضَى أمْرا فَانّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إلى الخصوص دون العموم .
وقال آخرون : بل الآية عام ظاهرها ، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها ، وقال : إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه . فلما كان ذلك كذلك كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها ، نظائر التي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : «كوني » ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصوّر جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم .
وقال آخرون : بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم ، فتأويلها الخصوص لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور على ما وصفت قبل .
قالوا : وإذا كان ذلك كذلك ، فالآية تأويلها : وإذا قضى أمرا من إحياء ميت ، أو إماتة حيّ ، ونحو ذلك ، فإنما يقول لحيّ كُنْ ميتا ، أو لميت كُنْ حيا ، وما أشبه ذلك من الأمر .
وقال آخرون : بل ذلك من الله عزّ وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكوّنه أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه كان ووُجِدَ . ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة إلا وجود المخلوق ، وحدوث المقضي وقالوا : إنما قول الله عزّ وجل : { وَإِذَا قَضَى أَمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } نظير قول القائل : قال فلان برأسه ، وقال بيده إذا حرّك رأسه أو أومأ بيده ولم يقل شيئا . وكما قال أبو النجم :
وقَالَتِ الأنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقِ قِدْما فآضَتْ كالفَنِيقِ المُحْنِقِ
ولا قول هنالك ، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن . وكما قال عمرو بن حُممة الدوسي :
فأصْبَحْتُ مِثْلَ النّسْرِ طارَتْ فِرَاخُهُ إذَا رَامَ تَطْيارا يُقال لَهُ قَعِ
ولا قول هناك ، وإنما معناه : إذا رام طيرانا ووقع ، وكما قال الاَخر :
امْتَلأ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي سَيْلاً رُوَيْدا قَدْ مَلأتُ بَطْنِي
وأولى الأقوال بالصواب في قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أن يقال : هو عامّ في كل ما قضاه الله وبرأه ، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم ، وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا : «كتاب البيان عن أصول الأحكام » . وإذْ كان ذلك كذلك ، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله : كُنْ في حال إرادته إياه مكوّنا ، لا يتقدّم وجودَ الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه ، ولا أمره بالكون والوجود ، ولا يتأخر عنه . فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود ، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك . ونظير قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السمّاءُ والأرْض بأمْرِهِ ثُمّ إذَا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله ، ولا يتأخر عنه .
ويسأل من زعم أن قوله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } خاصّ في التأويل اعتلالاً بأن أمر غير الموجود غير جائز ، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم ، أم بعده ؟ أم هي في خاصّ من الخلق ؟ فلن يقول في ذلك قولاً إلا أُلزم في الاَخر مثله .
ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه : { فَإنّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } نظير قول القائل : قال فلان برأسه أو بيده ، إذا حرّكه وأومأ ، ونظير قول الشاعر :
تَقُولُ إذَا دَرأتُ لَهَا وَضِينِي أهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِينِي
وما أشبه ذلك ؟ فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ولا كتاب الله ، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا . فيقال لقائلي ذلك : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له : «كُنْ » ، أفتنكرون أن يكون قائلاً ذلك ؟ فإن أنكروه كذّبوا بالقرآن ، وخرجوا من الملة ، وإن قالوا : بل نقرّ به ، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل : قال الحائط فمال ولا قول هنالك ، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط . قيل لهم : أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول : إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل ؟
فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب ، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها . وإن قالوا : ذلك غير جائز ، قيل لهم : إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كُنْ فيكون ، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء وَوَصَفَه ووَكّده . وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل : قال الحائط فمال . فكيف لم يعلموا بذلك فَرْقَ ما بين معنى قول الله : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ } وقول القائل : قال الحائط فمال ؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله .
وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه : { وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود ، فتبين بذلك أن الذي هو أولى بقوله : فَيَكُونُ رفع على العطف على قوله : يقول لأن القول والكون حالهما واحد . وهو نظير قول القائل : تاب فلان فاهتدى ، واهتدى فلان فتاب لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد ، ولا مهتديا إلا وهو تائب . فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود ، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود ولذلك استجاز من استجاز نَصْبَ «فَيَكُونَ » مَنْ قَرأ : { إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أرَدْنَاهُ أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ } بالمعنى الذي وصفنا على معنى : أن نقول فيكون .
وأما رَفْعُ من رَفَعَ ذلك ، فإنه رأى أن الخبر قد تمّ عند قوله : { إِذَا أَرَدْنَاهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ }إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا ، ثم ابتدأ بقوله : «فيكون ، كما قال جل ثناؤه : { لِنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ } ، وكما قال ابن أحمر :
يُعالِجُ عاقِرا أعْيَتْ عَلَيْهِ لِيُلْقِحَها فَيَنْتِجُها حُوَارَا
يريد : فإذا هو ينتجها حُوَارا .
فمعنى الآية إذا : وقالوا اتخذ الله ولدا ، سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما ، كل ذلك مقرّ له بالعبودية بدلالته على وحدانيته . وأنّى يكون له ولد ، وهو الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل ، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته وسلطانه ، الذي لا يتعذّر عليه به شيء أراده ، بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه : «كُنْ » ، فيكون موجودا كما أراده وشاءه . فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه إذْ أراد خلقه من غير والد .
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }( 117 )
و { بديع } مصروف( {[1172]} ) من مبدع كبصير من مبصر ، ومثله قول عمرو بن معديكرب : [ الوافر ] :
أَمِنْ ريحانة الداعي السميعِ( {[1173]} ) *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد المسمع ، والمبدع المخترع المنشيء ، ومنه أصحاب البدع( {[1174]} ) ، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة رمضان : «نعمت البدعة هذه » .
وخص { السماوات والأرض } بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا ، و { قضى } ، معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى أمضى ، ويتجه في هذه الآية المعنيان ، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد .
والأمر واحد الأمور ، وليس هنا بمصدر أمر يأمر ، ويكون رفع على الاستئناف ، قال سيبويه : «معناه فهو يكون » ، قال غيره : «يكون » عطف على «يقول » ، واختاره الطبري وقرره( {[1175]} ) ، وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود( {[1176]} ) ، وتكلم أبو علي الفارسي في هذه المسألة بما هو فاسد من جملة الاعتزال لا من جهة العربية .
وقرأ ابن عامر «فيكونَ » بالنصب ، وضعفه أبو علي ، ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ( {[1177]} ) ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر : «هذا لحن »( {[1178]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيها معنى الشرط ، تقول أكرم زيداً فيكرمك ، والمعنى إن تكرم زيداً يكرمك ، وفي هذه الآية لا يتجه هذا ، لأنه يجيء تقديره : إن تكن يكن ، ولا معنى لهذا( {[1179]} ) ، والذي يطرد فيه معنى الشرط هو أن يختلف الفاعلان أو الفعلان( {[1180]} ) فالأول أكرم زيداً فيكرمك والثاني أكرم زيداً فتسود .
وتلخيص المعتقد في هذه الآية ، أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات ، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل ، ومن جعل من المفسرين { قضى } بمعنى أمضى عند الخلق والإيجاد ، فكأن إظهار المخترعات في أوقاتها المؤجلة قول لها { كن }( {[1181]} ) ، إذ التأمل يقتضي ذلك ، على نحو قول الشاعر [ أبو النجم العجلي ] : [ الرجز ]
وقالتِ الأقرابُ للبطن الحق( {[1182]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يجري مع قول المعتزلة ، والمعنى الذي تقتضيه عبارة { كن } هو قديم قائم بالذات( {[1183]} ) ، والوضوح التام في هذه المسألة يحتاج أكثر من هذا البسط .
هو بالرفع خبر لمحذوف على طريقة حذف المسند إليه لاتباع الاستعمال كما تقدم في قوله تعالى : { صم بكم } [ البقرة : 18 ] وذلك من جنس ما يسمونه بالنعت المقطوع .
والبديع مشتق من الإبداع وهو الإنشاء على غير مثال فهو عبارة عن إنشاء المنشآت على غير مثال سابق وذلك هو خلق أصول الأنواع وما يتولد من متولِّداتها ، فخلق السماوات إبداع وخلق الأرض إبداع وخلق آدم إبداع وخلق نظام التناسل إبداع . وهو فعيل بمعنى فاعل فقيل هو مشتق من بَدَع المجرد مثل قدرَ إذا صح وورد بدَع بمعنى قدر بقلة أو هو مشتق من أَبدع ومجيء فعيل من أَفْعَل قليل ، ومنه قول عمرو بن معديكرب :
أَمِنْ ريحانَة الداعي السميع *** يؤرقني وأصحابي هجوع{[159]}
يريد المسمع ، ومنه أيضاً قول كعب بن زهير :
سقاك بها المأمون كأساً رَوِيَّةً *** فانْهَلَك المأمونُ منها وعلَّك
أي كأساً مروية . فيكون هنا مما جاء قليلاً وقد قدمنا الكلام عليه في قوله تعالى : { إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] ويأتي في قوله : { بشيراً ونذيراً } [ البقرة : 119 ] . وقد قيل في البيت تأويلات متكلفة والحق أنه استعمال قليل حفظ في ألفاظ من الفصيح غير قليلة مثل النذير والبشير إلا أن قلته لا تخرجه عن الفصاحة لأن شهرته تمنع من جعله غريباً . وأما كونه مخالفاً للقياس فلا يمنع من استعماله إلا بالنسبة إلى المولَّد إذا أراد أن يقيس عليه في مادة أخرى .
وذهب صاحب « الكشاف » إلى أن بديع هنا صفة مشبهة مأخوذ من بدُع بضم الدال أي كانت البداعة صفة ذاتية له بتأويل بداعة السماوات والأرض التي هي من مخلوقاته فأضيفت إلى فاعلها الحقيقي على جعله مشبهاً بالمفعول به وأجريت الصفة على اسم الجلالة ليكون ضميره فاعلا لها لفظاً على نحو زيد حسن الوجه كما يقال فلان بديع الشعر ، أي بديعة سماواته .
وأما بيت عمرو فإنما عينوه للتنظير ولم يجوزوا فيه احتمال أن يكون السميع بمعنى المسموع لوجوه أحدها أنه لم يرد سميع بمعنى مسموع مع أن فعيلاً بمعنى مفعول غير مطرد . الثاني أن سميع وقع وصفاً للذات وهو الداعي وحكم سمع إذا دخلت على ما لا يسمع أن تصير من أخوات ظن فيلزم مجيء مفعول ثان بعد النائب المستتر وهو مفقود الثالث أن المعنى ليس على وصف الداعي بأنه مسموع بل على وصفه بأنه مسمع أي الداعي القاصد للإسماع المعلن لصوته وذلك مؤذن بأنه داع في أمر مهم .
ووصف الله تعالى ببديع السماوات والأرض مراد به أنه بديع ما في السماوات والأرض من المخلوقات وفي هذا الوصف استدلال على نفي بنوة من جعلوه ابناً لله تعالى لأنه تعالى لما كان خالق السماوات والأرض وما فيهما ، فلا شيء من تلك الموجودات أهل لأن يكون ولداً له بل جميع ما بينهما عبيد لله تعالى كما تقدم في قوله :
{ بل له ما في السماوات والأرض } [ البقرة : 116 ] ولهذا رُتب نفي الولد على كونه بديع السموات والأرض في سورة الأنعام ( 10 ) بقوله : { بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة خلق كل شيء } .
وقوله : { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } إلخ كشف لشبهة النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولداً بل يكوِّن الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له { كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى .
و { كان } في الآية تامة لا تطلب خبراً أي يقول له : إيجد فيوجد . والظاهر أن القول والمقول والمسبب هنا تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن التقريب بها في الأمور التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب « الكشاف » ونظره بقول أبي النجم :
إذ قالتِ الأنساعُ للبطن أَلحق . . . قُدْما فآضت كالفَنيق المُحْنَق{[160]}
والذي يعين كون هذا تمثيلاً أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجوداً فليس هذا التقرير الصادر من الزمخشري مبنياً على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافاً لما يوهمه كلام ابن عطية .