189- ويسألك قوم عن الهلال{[14]} يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يكتمل ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس . فما وراء هذا التغير ، حتى صار في كل شهر هلال وصارت هناك أهلة ؟ . فقل لهم : إن لتكرار هذه الأهلة واختلاف نموها حِكَماً ومصالح دينية ودنيوية ، فهي أمارات تحدد أوقات المعاملات في معاشكم ، وتعيِّن أوقات الحج الذي هو من أركان دينكم ، ولو استقر الهلال على حاله كالشمس ما استقام لكم توقيت معاشكم وحجكم ، وليس جهلكم بحكمة اختلاف الهلال مدعاة للشك في حكمة الخالق ، وليس من البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ، متميزين بذلك عن الناس ، ولكن البر هو تقوى القلوب وإخلاصها وأن تأتوا البيوت من أبوابها كما يأتي كل الناس ، وأن تطلبوا الحق والدليل المستقيم ، فاطلبوا رضا الله ، واتقوا عذابه ، وارجوا بذلك فَلاَحَكُمْ وفوزكم ونجاتكم من عذاب النار .
قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } . نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة ابن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً ، ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ، ثم يعود دقيقاً كما بدأ ، ولا يكون على حاله ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة ) وهي جمع هلال ، مثل رداء وأردية سمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته ، من قولهم استهل الصبي ، إذا صرخ حين يولد ، وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية .
قوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } . جمع ميقات ، أي فعلنا ذلك فعلنا ذلك ليعلم ذلك ليعلم الناس أوقات الحج ، والعمرة ، والصوم ، والإفطار ، وآجال الديون ، وعدد النساء ، وغيرها ، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .
قوله تعالى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } . قال أهل التفسير : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج ، أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه . فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلماً فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً ، إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو مضر بن معاوية ، سموا حمساً لتشددهم في دينهم ، والحماسة الشدة والصلابة ، قالوا : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار ، فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم دخلت من الباب وأنت محرم : قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحمسي فقال الرجل : إن كنت أحمسياً فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ، وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت ، أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار ، من بني سلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم فعلت ذلك ؟ قال لأني رأيتك دخلت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أحمسي . فقال الأنصاري : وأنا أحمسي ، يقول وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) . قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر : والبيوت ، والغيوب ، والجيوب ، والعيون ، وشيوخاً ، بكسر أوائلهن لمكان الياء ، وقرأ الباقون ، بالضم على الأصل ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي جيوب بكسر الجيم ، وقرأ أبو بكر وحمزة " العيوب " بكسر العين .
قوله تعالى : { ولكن البر من اتقى } . أي : البر : بر من اتقى .
قوله تعالى : { وأتوا البيوت من أبوابها } . في حال الإحرام .
قوله تعالى : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } . أي في طاعة الله .
والأن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس بالتفصيل :
( يسألونك عن الأهلة . قل : هي مواقيت للناس والحج . وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، ولكن البر من اتقى . وأتوا البيوت من أبوابها ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ) . .
تقول بعض الروايات : إن النبي [ ص ] سئل ذلك السؤال الذي أسلفناه عن الأهلة : ظهورها ونموها وتناقصها . . ما بالها تصنع هذا ؟ وتقول بعض الروايات : إنهم قالوا : يا رسول الله لم خلقت الأهلة ؟ وقد يكون هذا السؤال في صيغته الأخيرة أقرب إلى طبيعة الجواب . فقال الله لنبيه [ ص ] : ( قل : هي مواقيت للناس والحج ) . .
دلالة عدول القرآن عن الإجابة العلمية إلى وظيفة الأهلة
مواقيت للناس في حلهم وإحرامهم ، وفي صومهم وفطرهم ، وفي نكاحهم وطلاقهم وعدتهم ، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم . . وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء .
وسواء كان هذا الجواب ردا على السؤال الأول أو على السؤال الثاني ، فهو في كلتا الحالتين اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري ؛ وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عنالدورة الفلكية للقمر وكيف تتم وهي داخلة في مدلول السؤال : ما بال القمر يبدو هلالا . . . إلخ . كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية . وهي داخلة في مضمون السؤال : لماذا خلق الله الأهلة ؟ فما هو الإيحاء الذي ينشئه هذا الاتجاه في الإجابة ؟
لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص ، ونظام خاص ، ومجتمع خاص . . كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض ، ذات دور خاص في قيادة البشرية ، لتنشىء نموذجا معينا من المجتمعات غير مسبوق ؛ ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة ؛ ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض ؛ وتقود إليها الناس .
والإجابة " العلمية " عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علما نظريا في الفلك ؛ إذا هم استطاعوا ، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين ، أن يستوعبوا هذا العلم ، ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك ، لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة ، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات .
من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية ، ولا تفيدها كثيرا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها . وليس مجالها على أية حال هو القرآن . إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية . ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي . . كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم ، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم !
إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله . إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية . وإن وظيفته أن ينشىء تصورا عاما للوجود وارتباطه بخالقه ، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه ؛ وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته . . ومن بينها طاقته العقلية ، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة ، وإطلاق المجال لها لتعمل - بالبحث العلمي - في الحدود المتاحة للإنسان - وبالتجريب والتطبيق ، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ، ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال .
إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته : تصوره واعتقاده ، ومشاعره ومفهوماته ، وسلوكه وأعماله ، وروابطه وعلاقاته . . أما العلوم المادية ، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه ، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته . بما أنها أساس خلافته في الأرض ، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه . . والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد ، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له ؛ ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه ، وتناسق تكوينه ، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه - وهو أي الإنسان أحد أجزائه - ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته . . ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي .
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن ، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها . . كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه !
إن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها . . لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها . . والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان . والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه . بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره . كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذييسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه . وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور ، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط ، يتركه القرآن يبحث ويجرب ، ويخطيء ويصيب ، في مجال العلم والبحث والتجريب . وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح .
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه ، وطبيعة التناسق بين أجزائه . . لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن ، بفروض العقل البشري ونظرياته ، ولا حتى بما يسميه " حقائق علمية " مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره .
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة . أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أيا كانت الأدوات المتاحة له - فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة ؛ وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها . . فمن الخطأ المنهجي - بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته - أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية . وهي كل ما يصل إليه العلم البشري !
هذا بالقياس إلى " الحقائق العلمية " . . والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى " علمية " . ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية ؛ وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره ؛ وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه . . وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها . . فهذه كلها ليست " حقائق علمية " حتى بالقياس الإنساني . وإنما هي نظريات وفروض . كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية . إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرا أكبر من الظواهر ، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق ! ومن ثم فهي قابلة دائما للتغيير والتعديل والنقص والإضافة ؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب ، بظهور أداة كشف جديدة ، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة !
وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة - أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا - تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي . كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم . .
الأولى : هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع . ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم . أو الاستدلال له من العلم . على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، ونهائي في حقائقه . والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس ، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق ، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته ، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة .
والثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته . وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق - بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية - مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي . حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله ؛ بل يصادقه ويعرف بعض أسراره ، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته . نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق ، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة !
والثالثة : هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر . وكل يوم يجد فيها جديد .
وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن ، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا . .
ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات - ومن حقائق - عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن . . كلا ! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان . ولقد قال الله سبحانه : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله . وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا .
فكيف ؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة ؟ هنا ينفع المثال :
يقول القرآن الكريم مثلا : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . . ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون . . الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد ، وبعد القمر عنها هذا البعد ، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها ، وبسرعة حركتها هذه ، وبميل محورها هذا ، وبتكوين سطحها هذا . . وبآلاف من الخصائص . . . هي التي تصلح للحياة وتوائمها . . فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة . . هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) وتعميقه في تصورنا . . فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه . . وهكذا . .
هذا جائز ومطلوب . . ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميا ، هذه الأمثلة الأخرى :
يقول القرآن الكريم : خلق الإنسان من سلالة من طين . . ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة ، وأن هذه الخلية نشأت في الماء ، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان . فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية . لنقول : هذا هو الذي عناه القرآن ! !
لا . . إن هذه النظرية أولا ليست نهائية . فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيا . وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ، ما يكاد يبطلها . وهي معرضة غدا للنقض والبطلان . . بينما الحقيقة القرآنية نهائية . وليس من الضروري أن يكون هذا معناها . فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة . وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية . . وكفى . . ولا زيادة . .
ويقول القرآن الكريم : ( والشمس تجري لمستقر لها ) . . فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري . . ويقول العلم : إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلا في الثانية . ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعا بسرعة 170 ميلا في الثانية . . ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية . إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان . . أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية - في أن الشمس تجري - وكفى . . فلا نعلق هذه بتلك أبدا .
ويقول القرآن الكريم : ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) ثم تظهر نظرية تقول : إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها . . فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية . ونقول : هذا ما تعنيه الآية القرآنية !
لا . . ليس هذا هو الذي تعنيه ! فهذه نظرية ليست نهائية . وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي ! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة . وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء . . كيف ؟ ما هي السماء التي فصلت عنها ؟ هذا ما لا تتعرض له الآية . . ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع : إنه المدلول النهائي المطابق للآية !
وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة ، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها ، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق . . وفرق بين هذا وذاك .
( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها . ولكن البر من اتقى ، وأتوا البيوت من أبوابها ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ) . .
والارتباط بين شطري الآية يبدو أنه هو المناسبة بين أن الأهلة هي مواقيت للناس والحج ، وبين عادة جاهلية خاصة بالحج هي التي يشير إليها شطر الآية الثاني . . في الصحيحين - بإسناده - عن البراء - رضي الله عنه - قال : " كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت ، فجاء رجل منهم فدخل من قبل بابه ، فكأنه عير بذلك . فنزلت : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ؛ ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) . .
ورواه أبو داود عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه . . فنزلت هذه الآية .
وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة ، أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق ، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر - أي الخير أو الإيمان - فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل ، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل ، ولا يؤدي إلى شيء . وجاء يصحح التصور الإيماني للبر . . فالبر هو التقوى . هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن . وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان . ولا تعني أكثر من عادة جاهلية .
كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها . وكرر الإشارة إلى التقوى ، بوصفها سبيل الفلاح :
( وأتوا البيوت من أبوابها ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ) . .
وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة - هي التقوى - وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة ؛ وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني ، ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج . . كل ذلك في آية واحدة قصيرة . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلََكِنّ الْبِرّ مَنِ اتّقَىَ وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }
ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها ، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابا لهم فيما سألوا عنه . ذكر الأخبار بذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسَ قال قتادة : سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك : لم جعلت هذه الأهلة ؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون : هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدّة نسائهم ومحلّ دَينهم في أشياء ، والله أعلم بما يصلح خلقه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أنهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله تعالى : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ }جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وحلّ ديونهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ قال : هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونسكهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الناس : لم خلقت الأهلة ؟ فنزلت : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } لصومهم وإفطارهم وحجهم ومناسكهم . قال : قال ابن عباس : ووقت حجهم ، وعدة نسائهم ، وحلّ دينهم .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعني حل دَينهم ، ووقت حجهم ، وعدّة نسائهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : سأل الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعلمون بها حل دينهم ، وعدّة نسائهم ، ووقت حجهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ أنه سئل عن قوله : { مَوَاقِيتُ للّناسِ } قال : هي مواقيت الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمّ عليكم فأتموا ثلاثين .
فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك : يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار ، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان ، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه ، مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم ، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم ، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه ، وتصرّم عدة نسائكم ، ووقت صومكم وإفطاركم ، فجعلها مواقيت للناس .
وأما قوله : وَالحَجّ فإنه يعني وللحج ، يقول : وجعلها أيضا ميقاتا لحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون } .
قيل : نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول : كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها . قال : فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له في ذلك ، فنزلت هذه الآية : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }
حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها ، ولم يأتوا من أبوابها ، فنزلت : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . . }الآية .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود ، عن قيس بن حبير : أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه ولا دارا من بابها أو بيتا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا . وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت ، فجاء فتسوّر الحائط ، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج من باب الدار أو قال من باب البيت خرج معه رفاعة ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حَمَلَكَ عَلى ذَلِكَ ؟ » قال : يا رسول الله رأيتك خرجت منه ، فخرجت منه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي رَجلٌ أحْمَسُ » ، فقال : إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . }
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها }يقول : ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كوّات في ظهور البيوت وأبواب في جنوبها تجعلها أهل الجاهلية . فنهوا أن يدخلوا منها وأمروا أن يدخلوا من أبوابها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان ناس من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها ، فنزلت : وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها } قال : كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نقب كوّة في ظهر بيته فجعل سلما فجعل يدخل منها . قال : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين ، قال : فأتى الباب ليدخل ، فدخل منه . قال : فانطلق الرجل ليدخل من الكوّة . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما شأنكَ ؟ » فقال : أني أحمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أحْمَسُ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء يتحرّجون من ذلك ، وكان الرجل يخرج مُهلاّ بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فُتخرج إليه من بيته . حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » .
قال الزهري : وكان الحمس لا يبالون ذلك . فقال الأنصاري : وأنا أحمس ، يقول : وأنا على دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ }الآية كلها . قال قتادة : كان هذا الحيّ من الأنصار في الجاهلية إذا أهلّ أحدهم بحجّ أو عمرة لا يدخل دارا من بابها إلا أن يتسوّر حائطا تسوّرا ، وأسلموا وهم كذلك . فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك ما تسمعون ، ونهاهم عن صنيعهم ذلك ، وأخبرهم أنه ليس من البرّ صنيعهم ذلك ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ، } فإن ناسا من العرب كانوا إذا حجوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا ينقبون في أدبارها ، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل قال : يا رسول الله إني أحمس يقول : إني محرم وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون الحُمْس . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أيْضا أحْمَسُ فادْخُلْ » فدخل الرجل ، فأنزل الله تعالى ذكره : وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . } وإن رجالاً من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوّه شيئا أحرم فأمن ، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نقبا من ظهر بيته . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجل محرم كذلك ، وإن أهل المدينة كانوا يسمون البستان : الحُشّ . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستانا ، فدخله من بابه ، ودخل معه ذلك المحرم ، فناداه رجل من ورائه : يا فلان إنك محرم وقد دخلت فقال : «أَنا أحْمَسُ » ، فقال : يا رسول الله إن كنتَ محرما فأنا محرم ، وإن كنتَ أحمس فأنا أحمس . فأنزل الله تعالى ذكره{ : وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } إلى آخر الآية . فأحلّ الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيّع قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها }قال : كان أهل المدينة وغيرهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها ، وذلك أن يتسوروها ، فكان إذا أحرم أحدهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قبل ظهره . وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار ، فدخل رجل على أثره ممن قد أحرم ، فأنكروا ذلك عليه ، وقالوا : هذا رجل فاجر فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لِمَ دَخَلْتَ مِنَ البابِ وَقَدْ أحْرَمْتَ ؟ » فقال : رأيتك يا رسول الله دخلت فدخلت على أثرك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » وقريش يومئذ تدعى الحمس فلما أن قال ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الأنصاريّ : إن ديني دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . } . الآية .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قلت لعطاء قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } قال : كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برّا ، فقال «البرّ » ، ثم نعت البرّ ، وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها .
قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : كانت هذه الآية في الأنصار يأتون البيوت من ظهورها يتبررون بذلك .
فتأويل الآية إذا : وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها ، ولكن البرّ من اتقى الله فخافه ، وتجنب محارمه ، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها ، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا برّ لله فيه ، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها ، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال ، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده ، لأنه مما لم أحرّمه عليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون . }
يعني تعالى ذكره بذلك : واتقوا الله أيها الناس فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم من فرائضه واجتناب ما نهاكم عنه لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه ، وتدركوا به البقاء في جناته والخلود في نعيمه . وقد بينا معنى الفلاح فيما مضى قبل بما يدلّ عليه .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( 189 )
وقوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } الآية ، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم : نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ؟ ، وجمع { الأهلّة } وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالاً في الآخر ، فإنما جمع أحواله( {[1763]} ) من الهلالية( {[1764]} ) ، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر( {[1765]} ) ، وقيل ثلاث .
وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق( {[1766]} ) ، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع .
وقوله : { مواقيت } معناه لمحل( {[1767]} ) الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد( {[1768]} ) ، ومواقيت الحج أيضاً يعرف بها وقته وأشهره ، و { مواقيت } لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع ، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحِج » بكسر الحاء في جميع القرآن ، وفي قوله «حج البيت » في آل عمران .
قال سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى ، وقيل : الفتح مصدر والكسر الاسم .
وقوله تعالى : { وليس البر } الآية( {[1769]} ) ، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة : سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات ، وقيل : كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فتوحاً يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب ، وقيل غير هذا مما يشبهه فاختصرته ، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك ، فنزلت الآية فيه( {[1770]} ) .
وقال إبراهيم : «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز » .
وقال السدي : ناس من العرب ، وهم الذين يسمون الحمس ، قال : فدخل النبي صلى الله عليه وسلم باباً ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل( {[1771]} ) وقال إني أحمس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحمس ، ونزلت الآية .
وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت ؟ ، قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إني أحمس ، أي من قوم لا يدينون بذلك ، فقال الرجل : وأنا ديني دينك ، فنزلت الآية .
قال أبو عبيدة( {[1772]} ) : الآية ضرب مثل ، المعنى : ليس البر أن تسألوا الجهَّال ولكن اتقوا واسألوا العلماء ، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه .
وقال غير أبي عبيدة : «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب »( {[1773]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يحتمل والأول أسدُّ( {[1774]} ) ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء( {[1775]} ) فبعيد مغير نمط الكلام ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البِيوت » بكسر الباء ، وقرأ بعض القراء «ولكنَّ البرَّ » بتشديد نون «لكنَّ » ونصب «البرَّ » ، وقد تقدم القول على { من } في قوله { من آمن بالله } [ البقرة : 177 ] { واتقوا } معناه اجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، و { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، والفلاح درك البغية .