المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

114- إن الذين يخفون أحاديث يحدثون بها أنفسهم أو يتحدثون بها فيما بينهم ، لا خير في هذه الأحاديث في الكثير ، لأن الشر يفرخ في الخفاء ، لكن إذا كان التحدث للأمر بصدقة يعطونها ، أو للعزم على القيام بعمل غير مستنكر ، أو تدبير إصلاح بين الناس ، فإن ذلك خير ، ومن يفعله طلباً لرضا اللَّه - سبحانه - فإن اللَّه - تعالى - يعطيه جزاءً كبيراً على عمله في الدنيا والآخرة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } ، يعني : قوم طعمة ، وقال مجاهد : الآية عامة في حق جميع الناس ، والنجوى : هي الإسرار في التدبير ، وقيل : النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سراً كان أو جهراً ، فمعنى الآية : لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم .

قوله تعالى : { إلا من أمر بصدقة } أي : إلا في نجوى من أمر بصدقة ، فالنجوى يكون متصلا ، وقيل : هاهنا : الرجال المتناجون ، كما قال تعالى { وإذ هم نجوى } [ الإسراء :47 ] { إلا من أمر بصدقة } وقيل هذا استثناء منقطع ، يعني لكن من أمر بصدقة أي : حث عليها .

قوله تعالى : { أو معروف } ، أي : بطاعة الله ، وما يعرفه الشرع ، وأعمال البر كلها معروف ، لأن العقول تعرفها .

قوله تعالى : { أو إصلاح بين الناس } .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم هو ابن أبي الجعد عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟ قال : قلنا بلى ، قال : إصلاح ذات البين ، وإن إفساد ذات البين هي الحالقة ) .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أمه أم مكتوم بنت عقبة ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس الكذاب من أصلح بين الناس فقال خيراً ، أو نمى خيراً ) .

قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي : هذه الأشياء التي ذكرها .

قوله تعالى : { ابتغاء مرضاة الله } ، أي : طلب رضاه .

قوله تعالى : { فسوف نؤتيه } ، في الآخرة .

قوله تعالى : { أجراً عظيماً } ، قرأ أبو عمرو وحمزة { يؤتيه } بالياء ، يعني : يؤتيه الله ، وقرأ الآخرون بالنون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ }

أي : لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون ، وإذا لم يكن فيه خير ، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح ، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه .

ثم استثنى تعالى فقال : { إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ } من مال أو علم أو أي نفع كان ، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة " الحديث .

{ أَوْ مَعْرُوفٍ ْ } وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه ، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر ، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف ، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر . وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور ، والمنكر بترك المنهي .

{ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ } والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين ، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره ، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض ، بل وفي الأديان كما قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ } وقال تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ } الآية .

وقال تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ } والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة ، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله .

كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ } . فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير ، كما دل على ذلك الاستثناء .

ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص ، ولهذا قال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ } فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير ، ليحصل له بذلك الأجر العظيم ، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين ، وليتم له الأجر ، سواء تم مقصوده أم لا ، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

يقول تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } يعني : كلام الناس { إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } أي : إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مَرْدُويه :

حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيس{[8306]} قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده - وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتني{[8307]} به عن أم صالح اردُدْه علي . فقال : حدثتني أم صالح ، عن صَفية بنت شَيْبة ، عن أم حَبيبَة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له ما{[8308]} خلا أمرا{[8309]} بمعروف أو نهيا{[8310]} عن منكر [ أو ذكر الله عز وجل " ، قال سفيان : فناشدته{[8311]} ]{[8312]} فقال محمد بن يزيد : ما أشد هذا الحديث ؟ فقال سفيان : وما شدة هذا الحديث ؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة ، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { والْعَصْرِ . إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . [ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ]{[8313]} } [ سورة العصر ] ، فهو هذا بعينه .

وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس{[8314]} عن سعيد بن حسان ، به . ولم يذكرا أقوال{[8315]} الثوري إلى آخرها ، ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خُنَيس{[8316]} . {[8317]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا صالح بن كَيْسان ، حدثنا محمد بن مسلم بن عُبَيد الله بن شهاب : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذي{[8318]} يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا - أو يقول خيرًا " وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها . قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد رواه الجماعة ، سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن الزهري ، به نحوه{[8319]} .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرة{[8320]} عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة ، والصيام والصدقة ؟ " قالوا : بلى . قال : " إصلاح ذات البين " قال : " وفساد ذات البين هي الحالقة " .

ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، وقال الترمذي : حسن صحيح{[8321]} .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سُرَيج{[8322]} بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، حدثنا أبي ، عن حميد ، عن أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب : " ألا أدلك على تجارة ؟ " قال : بلى : قال : " تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا " ثم قال البزار : وعبد الرحمن بن عبد الله العُمَري لَيّن ، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها{[8323]} .

ولهذا قال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ } أي : مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابًا كثيرًا واسعًا .


[8306]:في ر: "حنيش".
[8307]:في أ: "حدثتنيه".
[8308]:في أ: "إلا ما".
[8309]:في ر، أ: "أمر".
[8310]:في ر، أ: "أو نهى".
[8311]:في أ: "وناشدته".
[8312]:زيادة من ر، أ.
[8313]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "إلى آخره".
[8314]:في ر: "حنيش".
[8315]:في أ: "قول".
[8316]:في ر: "حنيش".
[8317]:سنن الترمذي برقم (2412) وسنن ابن ماجه برقم (3974) ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم (14) من طريق محمد بن يزيد بن خنيس بنحو سياق ابن مردويه.
[8318]:في ر: "بالذي".
[8319]:المسند (6/403) وصحيح البخاري برقم (2692) وصحيح مسلم برقم (2605) وسنن أبي داود برقم (4920) وسنن الترمذي برقم (1938) وسنن النسائي الكبرى برقم (9123).
[8320]:في ر، أ: "محمد".
[8321]:المسند (6/444) وسنن أبي داود برقم (4919) وسنن الترمذي برقم (2509).
[8322]:في ر، أ: "شريح".
[8323]:مسند البزار برقم (2060) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (8/79): "فيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري وهو متروك".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

الضمير في { نجواهم } عائد على الناس أجمع ، وجاءت هذه الآيات عامة التناول ، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة ، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة ، والنجوى : المسارَّة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا{[4280]} ، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه ، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل ، كأنه قال : لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من ، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه ، كأنه قال : لا خير في كثير من تناجيهم ، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف ، كأنه قال : إلا نجوى من ، قال بعض المفسرين : النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سراً أو جهراً .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : انفراد الجماعة من الاستسرار ، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه ، و «المعروف » : لفظ يعم الصدقة والإصلاح ، ولكن خُصَّا بالذكر اهتماماً بهما ، إذ هما عظيماً الغناء في مصالح العباد ، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم » على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى . و { ابتغاء } نصب على المصدر ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي { فسوف نؤتيه } بالنون وقرأ أبو عمر وحمزة «يؤتيه » بالياء والقراءتان حسنتان .


[4280]:- تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء، ونجوت فلانا أنجوه نجوا: ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي: خلّصته وأفردته، والنجوة من الأرض: المرتفع، لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر أوس بن حجر: فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكنّ كمن يمشي بقرواح والعقوة: الساحة وما حول الدار، والقرواح: البارز الذي لا يستره من السماء شيء.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة ، ولا الأحوال التي حذّرت منها ، من تناج وتحاوُر ، سِرّا وجهراً ، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها ، لذلك كان المقام حقيقاً بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه ، لأنّ في ذلك تعليماً وتربية وتشريعاً ، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم ، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة ، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين ، وكان التناجي فاشياً لمقاصد مختلفة ، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا ، أي خوفاً ، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهلِ الكتاب ، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو { ألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى } [ المجادلة : 8 ] الآيات ، وقوله : { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } [ الإسراء : 47 ] وقوله : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم } [ البقرة : 14 ] ، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضاً ، فقال : { لا خير في كثير من نجواهم } . فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لإفادة حكم النجوى ، والمناسبةُ قد تبيّنت .

والنجوى مصدر ، هي المسَارّة في الحديث ، وهي مشتقّة من النجو ، وهو المكان المستتر الذي المفضِي إليه ينجو من طالبه ، ويطلق النجوى على المناجين ، وفي القرآن { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } ، وهو وصف بالمصدر والآية تحتمل المعنيين . والضمير الذي أضيف إليه { نجوى } ضمير جماعة الناس كلّهم ، نظير قوله تعالى : { ألا إنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } إلى قوله : { وما يُعلنون } في سورة هود ( 5 ) ، وليس عائداً إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله : { يستخفون من الناس } [ النساء : 108 ] إلى هنا ؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلاّ فيما يختصّ بقضيتهم ، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله : { إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } . وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة ، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة ، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه ، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره ، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث . فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم ، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره ، كما قال صالح بن عبد القدوس :

الستر دون الفاحشات ولا *** يَغشاك دون الخير مِنْ ستْرِ

وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة ، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال : { ألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهو عنه } [ المجادلة : 8 ] وقال : { إنّما النجوى من الشيطان ليُحزن الذين آمنوا } [ المجادلة : 10 ] .

وقد ظهر من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين ، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلاّ على أهل الريَب والشبهات ، بحيث لا تصير دأباً إلاّ لأولئك ، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى .

ومعنى { لا خير } أنّه شرّ ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه ، لعدم الاعتداد بالواسطة ، كقوله تعالى : { فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال } [ يونس : 32 ] ، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ .

وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو مُتناجيِهم ، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلاً من نجواهم فيه خير ، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع . والاستثناء في قوله : { إلاّ من أمر بصدقة } على تقدير مضاف ، أي : إلاّ نجوى من أمر ، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين ، وهو مستثنى من { كثير } ، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير ، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم . أمّا القسم الذي أخرجَته الصفة ، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع ، وليس فيها ضرر ، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة ، أو نكاح أو نحو ذلك .

وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور : الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس . وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير ، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة ، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم ، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء ، فبَقي ما عدا ذلك من نجواهم ، وهو الكثير ، موصوفاً بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل ، وأنْ لا داعي إلى جعله منقطعاً . والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة ، ولو تناجى فيها مَن غالب أمره قصد الشرّ .

وقوله : { ومن يفعل ذلك } إلخ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله . فدلّ على أنّ كونها خيراً وصف ثابت لها لما فيها من المنافع ، ولأنّها مأمور بها في الشرع ، إلاّ أنّ الثواب لا يحصل إلاّ عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث : « إنما الأعمال بالنيات » . وقرأ الجمهور : ( نُؤتيه ) بنون العظمة على الالتفات من الغيبة في قوله : { مرضاة الله } .