265- حال الذين ينفقون أموالهم طلباً لمرضاة الله وتثبيتاً لأنفسهم على الإيمان ، كحال صاحب بستان بأرض خصبة مرتفعة{[26]} يفيده كثير الماء وقليله ، فإن أصابه مطر غزير أثمر مثلين ، وإن لم يصبه المطر الكثير بل القليل فإنه يكفي لإثماره لجودة الأرض وطيبها ، فهو مثمر في الحالتين ، فالمؤمنون المخلصون لا تبور أعمالهم ، والله لا يخفى عليه شيء من أعمالكم .
قوله تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } . أي طلب رضا الله تعالى .
قوله تعالى : { وتثبيتاً من أنفسهم } . قال قتادة : احتساباً ، وقال الشعبي والكلبي : تصديقاً من أنفسهم ، أي يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله ، يعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا ، وقيل : على يقين بإخلاف الله عليهم . وقال عطاء ومجاهد : يثبتون أي يضعون أموالهم .
قال الحسن : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان لله أمضى ، وإن كان يخالطه شك أمسك ، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت ، كقوله تعالى : " وتبتل إليه تبتيلاً " أي تبتل .
قوله تعالى : { كمثل جنة } . أي بستان قال المبرد والفراء : إذا كان في البستان نخل فهو جنة ، وإن كان فيه كرم فهو فردوس .
قوله تعالى : { بربوة } . قرأ ابن عامر وعاصم ، بربوة وإلى ربوة في سورة المؤمنين بفتح الراء ، وقرأ الآخرون بضمها ، وهي المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار فلا يعلوه الماء ، ولا يعلو عن الماء ، وإنما جعلها بربوة لأن النبات عليها أحسن وأزكى .
قوله تعالى : { أصابها وابل } . مطر شديد كثير .
قوله تعالى : { فآتت أكلها } . ثمرها ، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتثقيل ، وزاد نافع وابن كثير تخفيف أكلها والأكل ، وخفف أبو عمرو ورسلنا ورسلكم ورسلهم وسبلنا .
قوله تعالى : { ضعفين } . أي أضعفت في الحمل . قال عطاء : حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين ، وقال عكرمة : حملت في السنة مرتين .
قوله تعالى : { فإن لم يصبها وابل فطل } . أي فطش ، وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائماً . قال السدي : هو الندى ، وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول : كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف ، سواء قل المطر أو كثر ، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت ، وذلك أن الطل إذا كان يدوم عمل الوابل الشديد .
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } أي : قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه { وتثبيتا من أنفسهم } أي : صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به ، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء ، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد ، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد ، وتثبيتا من أنفسهم ، فمثل نفقة هؤلاء { كمثل جنة } أي : كثيرة الأشجار غزيرة الظلال ، من الاجتنان وهو الستر ، لستر أشجارها ما فيها ، وهذه الجنة { بربوة } أي : محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره ، فثماره أكثر الثمار وأحسنها ، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس ، ف { أصابها } أي : تلك الجنة التي بربوة { وابل } وهو المطر الغزير { فآتت أكلها ضعفين } أي : تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك ، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها { فإن لم يصبها وابل فطل } أي : مطر قليل يكفيها لطيب منبتها ، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله ، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك ، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها ، فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد ، ولحصل الاقتتال عنده ، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها ، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان ، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات ، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة ، والعزائم عن طلبه خامدة ، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها ، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه ؟ ! وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه ، وتوجهت همم عزائمه إليه ، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات ، ولهذا قال تعالى : { والله بما تعملون بصير } فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل ، فيجازيه عليه أتم الجزاء
وهذا مثل المؤمنين المنفقين { أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه } عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، ونظير هذا في المعنى ، قوله عليه السلام{[4436]} في الحديث المتفق على صحته : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا . . . " أي : يؤمن أن الله شرعه ، ويحتسب عند الله ثوابه .
قال الشعبي : { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : تصديقا ويقينا{[4437]} . وكذا قال قتادة ، وأبو صالح ، وابن زيد . واختاره ابن جرير . وقال مجاهد والحسن : أي : يتثبتون أين يضعون{[4438]} صدقاتهم .
وقوله : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي : كمثل بستان بربوة . وهو عند الجمهور : المكان المرتفع المستوي من الأرض . وزاد ابن عباس والضحاك : وتجري فيه الأنهار .
قال ابن جرير : وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات : بضم الراء ، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق . وفتحها ، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ، ويقال : إنها لغة تميم . وكسر الراء ، ويذكر أنها قراءة ابن عباس .
وقوله : { أَصَابَهَا{[4439]} وَابِلٌ } وهو المطر الشديد ، كما تقدم ، { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي : ثمرتها{[4440]} { ضِعْفَيْن } أي : بالنسبة إلى غيرها من الجنان . { فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } قال الضحاك : هو الرَّذَاذ ، وهو اللين من المطر . أي : هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا ؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل ، وأيا ما كان فهو كفايتها ، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا ، بل يتقبله الله ويكثره وينميه ، كل عامل بحسبه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء .
{ وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
يعني بذلك جل ثناؤه : ومثل الذين ينفقون أموالهم فيصّدّقون بها ويحملون عليها في سبيل الله ويقوّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله وفي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته . { وَتَثبيتا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } يعني بذلك : وتثبيتا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقا ، من قول القائل : ثَبّتّ فلانا في هذا الأمر : إذ صححت عزمه وحققته وقوّيت فيه رأيه أثبته تثبيتا ، كما قال ابن رواحة :
فَثَبّتَ اللّهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍ *** تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرا كَالّذِي نُصِرُوا
وإنما عنى الله جلّ وعزّ بذلك ، أن أنفسهم كانت موقنة مصدّقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى ، فثبتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وصحح عزمهم وآراءهم يقينا منها بذلك ، وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها . ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله : { وَتَثْبِيتا } وتصديقا ، ومن قال منهم ويقينا¹ لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم ، إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله . ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : تصديقا ويقينا .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : وتصديقا من أنفسهم ثبات ونصرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : يقينا من أنفسهم . قال : التثبيت اليقين .
حدثني يونس ، قال : حدثنا عليّ بن معبد ، عن أبي معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } يقول : يقينا من عند أنفسهم .
وقال آخرون : معنى قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } فقلت له : ما ذلك التثبيت ؟ قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : كانوا يتثبتون أين يضعونها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عليّ بن عليّ بن رفاعة ، عن الحسن في قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم ، يعني زكاتهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عليّ بن عليّ ، قال : سمعت الحسن قرأ : { ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } قال : كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبت ، فإن كان لله مضى ، وإن خالطه شك أمسك .
وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن تأويل بعيد المعنى مما يدلّ عليه ظاهر التلاوة ، وذلك أنهم تأوّلوا قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } بمعنى : وتثبتا ، فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم . ولو كان التأويل كذلك ، لكان : وتثبتا من أنفسهم¹ لأن المصدر من الكلام إن كان على تفعلت التفعل ، فيقال : تكرمت تكرما ، وتكلمت تكلما ، وكما قال جل ثناؤه : { أوْ يأْخُذَهُمْ على تَخَوّفٍ } من قول القائل : تخوّف فلان هذا الأمر تخوّفا . فكذلك قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } لو كان من تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام : «وتثبتا من أنفسهم » ، لا «وتثبيتا » ، ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره .
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عزّ وجلّ : { وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً } ولم يقل : تبتلاً ؟ قيل : إن هذا مخالف لذلك ، وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه : «تبتيلاً » لظهور «وتبتل إليه » ، فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه قيل : تبتيلاً ، وذلك أن المتروك هو : «تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلاً » ، وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدّمتها إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه ، كما قال جل وعزّ : { وَاللّهُ أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتا } وقال : { وَأنْبَتَهَا نباتا حَسَنا } والنبات : مصدر نبت ، وإنما جاز ذلك لمجيء أنبت قبله ، فدلّ على المتروك الذي منه قيل نباتا ، والمعنى : والله أنبتكم فنبّتم من الأرض نباتا . وليس قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه . ومعنى الكلام : ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها ، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله : { وَتَبَتّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً } وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها .
وقال آخرون : معنى قوله : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } احتسابا من أنفسهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ } يقول : احتسابا من أنفسهم .
وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى التثبيت ، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى الاحتساب ، إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها . فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام ، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت فيترجم عنه به .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وَابلٌ فَآتَتْ أُكُلُها ضِعْفَيْنِ فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } .
يعني بذلك جل وعزّ : ومثل الذين ينفقون أموالهم ، فيتصدّقون بها ، ويسبّلونها في طاعة الله بغير منّ على من تصدّقوا بها عليه ولا أذى منهم لهم بها ابتغاء رضوان الله وتصديقا من أنفسهم بوعده ، { كَمَثَلِ جَنّةٍ } والجنة : البستان . وقد دللنا فيما مضى على أن الجنة البستان بما فيه الكفاية من إعادته . { بربوة } والربوة من الأرض : ما نشز منها فارتفع عن السيل . وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه ، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ ، وجنان ما غُلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مما رقّ منها ، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة :
ما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ *** خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
فوصفها بأنها من رياض الحزن ، لأن الحزون : غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها . وفي الربوة لغات ثلاث ، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القراء ، وهي «رُبْوة » بضم الراء ، وبها قرأت عامة قراء أهل المدينة والحجاز والعراق . و«رَبْوة » بفتح الراء ، وبها قرأ بعض أهل الشام ، وبعض أهل الكوفة ، ويقال إنها لغة لتميم . و«رِبْوة » بكسر الراء ، وبها قرأ فيما ذكر ابن عباس . وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين : إما بفتح الراء ، وإما بضمها ، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما . وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارا مني بفتحها ، لأنها أشهر اللغتين في العرب¹ فأما الكسر فإن في رفض القراءة به دلالة واضحة على أن القراءة به غير جائزة . وإنما سميت الربوة لأنها ربت فغلظت وعلت ، من قول القائل : ربا هذا الشيء يربو : إذا انتفخ فعظم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } قال : الربوة : المكان الظاهر المستوي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال مجاهد : هي الأرض المستوية المرتفعة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } يقول : بنشز من الأرض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } والربوة : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار والذي فيه الجنان .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { بِرَبْوَةٍ } برابية من الأرض .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } والربوة النشَز من الأرض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } قال : المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار .
وكان آخرون يقولون : هي المستوية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ } قال : هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه .
وأما قوله : { أصَابَها وَابِلٌ } فإنه يعني جل ثناؤه أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض وابل من المطر ، وهو الشديد العظيم القطر منه . وقوله : { فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ } فإنه يعني الجنة أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر ، والأُكْل : هو الشيء المأكول ، وهو مثل الرّعْب والهُزْء وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على فعل¹ وأما الأَكْل بفتح الألف وتسكين الكاف ، فهو فعل الاَكل ، يقال منه : أكلت أَكْلاً ، وأكلت أكلة واحدة ، كما قال الشاعر :
وما أكْلَةٌ أكَلْتُها بِغَنِيمَةٍ ولا جَوْعَةٌ إنْ جُعْتُها بغَرَامِ
ففتح الألف لأنها بمعنى الفعل . ويدلك على أن ذلك كذلك قوله : «ولا جوعة » ، وإن ضمت الألف من «الأكلة » كان معناه : الطعام الذي أكلته ، فيون معنى ذلك حينئذ : ما طعام أكلته بغنيمة .
وأما قوله : { فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } فإن الطلّ : هو الندى واللين من المطر . كما :
حدثنا عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : { فَطَلّ } ندى . عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الطل : فالندى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } أي طشّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { فَطَلّ } قال : الطل : الرذاذ من المطر ، يعني اللين منه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فَطَلّ } أي طش .
وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل كما ضعفت ثمرة هذه الجنة التي وصفت صفتها حين جاد الوابل فإن أخطأ هذا الوابل فالطلّ كذلك يضعف الله صدقة المتصدّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتا من نفسه من غير منّ ولا أذى ، قلّت نفقته أو كثرت لا تخيب ولا تخلف نفقته ، كما تضعف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها قل ما أصابها من المطر أو كثر لا يخلف خيرها بحال من الأحوال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { فَآتَتْ أُكُلُهَا ضِعْفَيْنِ فَإنْ لَمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ } يقول : كما أضعفت ثمرة تلك الجنة ، فكذلك تضاعف ثمرة هذا المنفق ضعفين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فإنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ } هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن ، يقول : ليس لخيره خلف ، كما ليس لخير هذه الجنة خلف على أيّ حال ، إما وابل ، وإما طلّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالهمْ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله } . . . الآية ، قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { فَإنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ } وهذا خبر عن أمر قد مضى ؟ قيل : يراد فيه : كان ، ومعنى الكلام : فآتت أكلها ضعفين ، فإن لم يكن الوابل أصابها ، أصابها طلّ ، وذلك في الكلام نحو قول القائل : حبست فرسين ، فإن لم أحبس اثنين فواحدا بقيمته ، بمعنى : إلا أكن ، لا بد من إضمار «كان » ، لأنه خبر ومنه قول الشاعر :
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ *** ولَمْ تَجِدِي مِنْ أنْ تُقِرّي بِها بُدّا
( القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
يعني بذلك : والله بما تعملون أيها الناس في نفقاتكم التي تنفقونها بصير ، لا يخفى عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء يعلم من المنفق منكم بالمنّ والأذى والمنفق ابتغاء مرضاة الله ، وتثبيتا من نفسه ، فيحصي عليكم حتى يجازي جميعكم جزاءه على عمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا .
وإنما يعني بهذا القول جلّ ذكره ، التحذير من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده ، وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحد من خلقه ما قد تقدم فيه بالنهي عنه ، أو يفرّط فيما قد أمر به ، لأن ذلك بمرأى من الله ومسمع ، يعلمه ويحصيه عليهم ، وهو لخلقه بالمرصاد .
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم } وتثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان ، فإن المال شقيق الروح ، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها ، أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم ، وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال . { كمثل جنة بربوة } أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة ، كمثل بستان بموضع مرتفع ، فإن شجرة يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا . وقرأ ابن عامر وعاصم { بربوة } بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها . { أصابها وابل } مطر عظيم القطر . { فآتت أكلها } ثمرتها . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالسكون للتخفيف . { ضعفين } مثلي ما كنت تثمر بسبب الوابل . والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى : { من كل زوجين اثنين } وقيل : أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفا . { فإن لم يصبها وابل فطل } أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل ، أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها . وهو المطر الصغير القطر ، والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله ، ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل . { والله بما تعملون بصير } تحذير عن الرئاء وترغيب في الإخلاص .
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 265 )
من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه نقيض ما يتقدم ذكره لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن ، فلما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع( {[2594]} ) فضرب لها مثلاً ، وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة ، لأن المراد بذكر الجنة غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله ، كأنه قال : كمثل غارس جنة( {[2595]} ) ، و { ابتغاء } معناه طلب ، وإعرابه النصب على المصدر في موضع الحال( {[2596]} ) . وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله . لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو { وتثبيتاً } عليه . ولا يصح في { تثبيتاً } أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت . وقال مكي في المشكل( {[2597]} ) : كلاهما مفعول من أجله وهو مردود بما بيناه ، و { مرضاة } مصدر من رضي يرضى ، وقال الشعبي والسدي وقتادة وابن زيد وأبو صالح : { وتثبيتاً } معناه وتيقناً ، أي إن نفوسهم لها بصائر متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتاً( {[2598]} ) ، وقال مجاهد والحسن : معنى قوله : { وتثبيتاً } أي إنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم ؟ وقال الحسن كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك ، والقول الأول أصوب . لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته وتثبتاً ، فإن قال محتج إن هذا من المصادر التي خرجت على غير المصدر كقوله تعالى : { وتبتل إليه تبتيلاً }( {[2599]} ) [ المزمل : 8 ] ، وكقوله : { أنبتكم من الأرض نباتاً }( {[2600]} ) [ نوح : 17 ] فالجواب لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر ، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول أحمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر ، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت ، وقال قتادة : { وتثبيتاً } معناه وإحساناً من أنفسهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو القول الأول ، والجنة البستان وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض ، فهي من لفظ الجن والجنن والجنة وجن الليل ، والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعاً يسيراً معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه ، وما كان كذلك فنباته أحسن ، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري( {[2601]} ) ، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر ونسميه أبرد وأرق ، ونجد يقال له الحزن ، قول ما يصلح هواء تهامه إلا بالليل ، وللذلك قالت الأعرابية : زوجي كليل تهامة( {[2602]} ) ، وقال ابن عباس : الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار .
{ قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه } : وهذا إنما أراد به هذه الربوة المذكورة في كتاب الله ، لأن قوله تعالى : { أصابها وابل } إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد ابن عباس أن جنس الربا لا يجري فيها ماء ، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين ، والمعروف في كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر ، وقال الحسن : الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء ، وهذا أيضاً أراد أنها ليست كالجبل والظرب( {[2603]} ) ونحوه ، قال الخليل أرض مرتفعة طيبة وخص( {[2604]} ) الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث هي العرف في بلاد العرب فمثل لهم بما يحسونه كثيراً ، وقال السدي { بربوة } أي برباوة وهو ما انخفض من الأرض ، قال أبو محمد : وهذه عبارة قلقة( {[2605]} ) ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد ، يقال «رُبوة » بضم الراء وبها قرأ ابن كثير وحمزة الكسائي ونافع وأبو عمرو . ويقال «رَبوة » بفتح الراء وبها قرأ عاصم وابن عامر ، وكذلك خلافهم في سورة المؤمنين( {[2606]} ) ، ويقال رِبوة بكسر الراء وبها قرأ ابن عباس فيما حكي عنه . ويقال رَباوة بفتح الراء والباء وألف بعدها ، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن ، ويقال رباوة بكسر الراء وبها قرأ الأشهب العقيلي ، { وآتت } معناه أعطت ، و «الأُكْل » بضم الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل ، والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل ، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار ، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة ، وقرأ ابن كثير( {[2607]} ) ونافع وأبو عمرو «أُكْلُها » بضم الهمزة وسكون الكاف ، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى غير مكنى( {[2608]} ) مثل أكل خمط فثقل أبو عمرو ذلك ، وخففاه ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه ، بالتثقيل . ويقال أكل وأكل بمعنى ، وهو من أكل بمنزلة الطعمة من طعم ، أي الشيء الذي يطعم ويؤكل ، و { ضعفين } معناه : اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها ، ثم أكد تعالى مدح هذه الربوة بأنها { إن لم يصبها وابل } فإن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل ، وذلك لكرم الأرض ، والطل المستدق من القطر الخفيف ، قاله ابن عباس وغيره ، وهو مشهور اللغة ، وقال قوم الطل الندى ، وهذا تجوز وتشبيه( {[2609]} ) ، وقد روي ذلك عن ابن عباس . قال المبرد : تقديره { فطلٌّ } يكفيها( {[2610]} ) . وقال غيره التقدير : فالذي أصابهم طل ، فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربى الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة ، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلداً ، وفي قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } وعد ووعيد ، وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع . أو يريد المنفقين فقط فهو وعد محض .