8- أفقدوا التمييز ؟ ، فمن زيَّن له الشيطان عمله السيئ فرآه حسنا كمن اهتدى بهدى الله فرأي الحسن حسنا والسيئ سيئا ! ؟ فإن الله يضل من يشاء ممن ارتضوا سبيل الضلال سبيلا ، ويهدى من يشاء ممن اختاروا سبيل الهداية سبيلا . فلا تهلك نفسك حزنا على الضالين وحسرة عليهم . إن الله محيط علمه بما يصنعون من شر ، فيجزيهم به .
قوله تعالى : { أفمن زين له سوء عمله } قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة . وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهواء والبدع . وقال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ، فأما أهل الكبائر فليسوا منهم ، لأنهم لا يستحلون الكبائر . { أفمن زين } شبه وموه عليه وحسن { له سوء عمله } أي : قبيح عمله ، { فرآه حسناً } زين له الشيطان ذلك بالوسواس . وفي الآية حذف مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرأى الباطل حقاً كمن هداه الله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وقيل : جوابه تحت قوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } فيكون معناه : { أفمن زين له عمله } فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة ، أي : تتحسر عليه فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . وقال الحسن بن الفضل : فيه تقديم وتأخير مجازه : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر ، ومعنى الآية : لا تهتم بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا . وقرأ أبو جعفر : فلا تذهب بضم التاء وكسر الهاء نفسك نصب . { إن الله عليم بما يصنعون* }
{ 8 } { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
يقول تعالى : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ } عمله السيئ ، القبيح ، زينه له الشيطان ، وحسنه في عينه .
{ فَرَآهُ حَسَنًا } أي : كمن هداه اللّه إلى الصراط المستقيم والدين القويم ، فهل يستوي هذا وهذا ؟
فالأول : عمل السيئ ، ورأى الحق باطلا ، والباطل حقا .
والثاني : عمل الحسن ، ورأى الحق حقا ، والباطل باطلا ، ولكن الهداية والإضلال بيد اللّه تعالى ، { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ } أي : على الضالين الذين زين لهم سوء أعمالهم ، وصدهم الشيطان عن الحق { حَسَرَاتٍ } فليس عليك إلا البلاغ ، وليس عليك من هداهم شيء ، والله [ هو ] الذي يجازيهم بأعمالهم . { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية ، وحقيقة عمل الشيطان ، والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله ؛ ويمتد منه طريق الضلال الذي لا يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه :
( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً . . . ? ) . .
هذا هو مفتاح الشر كله . . أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً . أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها . ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه ، لأنه واثق من أنه لا يخطىء ! متأكد أنه دائماً على صواب ! معجب بكل ما يصدر منه ! مفتون بكل ما يتعلق بذاته . لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء ، ولا أن يحاسبها على أمر . وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه . لأنه حسن في عين نفسه . مزين لنفسه وحسه . لا مجال فيه للنقد ، ولا موضع فيه للنقصان !
هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان ؛ وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال . فإلى البوار !
إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب . فلا يأمن مكر الله . ولا يأمن تقلب القلب . ولا يأمن الخطأ والزلل . ولا يأمن النقص والعجز . فهو دائم التفتيش في عمله . دائم الحساب لنفسه . دائم الحذر من الشيطان . دائم التطلع لعون الله .
وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال ، وبين الفلاح والبوار .
إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة :
( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ) . .
إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير . ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين . هو هذا الغرور . هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق . ولا يحسن عملاً لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء . ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطىء ! ولا يصلح فاسداً لأنه مستيقن أنه لا يفسد ! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح !
إنه باب الشر . ونافذة السوء . ومفتاح الضلال الأخير . .
ويدع السؤال بلا جواب . . ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ? ) . . ليشمل كل جواب . كأن يقال : أفهذا يرجى له صلاح ومتاب ? أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله ? أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء ? . . . إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال . وهو أسلوب كثير التردد في القرآن .
وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد :
( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) :
وكأنما يقول : إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة ؛ مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله ؛ وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال !
فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ؛ بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا . طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء . وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى . . وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال .
وما دام الأمر كذلك ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) . .
إن هذا الشأن . شأن الهدى والضلال . ليس من أمر بشر . ولو كان هو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إنما هو من أمر الله . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن . وهو مقلب القلوب والأبصار . . والله - سبحانه - يعزي رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له . حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم ، ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلال . وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم ، ومن رؤية الحق الذي جاء به معروفاً بينهم ! وهو حرص بشري معروف . يرفق الله سبحانه برسوله من وقعه في حسه ، فيبين له أن هذا ليس من أمره ، إنما هو من أمر الله .
وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم ، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير . ورأوا الناسفي الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ؛ ولا يرون ما فيها من الخير والجمال . ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال . وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها الله - سبحانه - رسوله . فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد . ثم لا يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له الله الصلاح والفلاح .
( إن الله عليم بما يصنعون ) . .
وهو يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه بحقيقة صنعهم . والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم ؛ ويعلمها بعد أن تكون . وهو يقسم لهم وفق علمه الأزلي . ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون .
وبذلك ينتهي المقطع الثاني في السورة . وهو متصل بالمقطع الأول . ومتسق كذلك مع المقطع الذي يليه . .
ثم قال : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } يعني : كالكفار والفجار ، يعملون أعمالا سيئة ، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون{[24461]} أنهم يحسنون صنعًا ، أي : أفمن كان هكذا قد أضله الله ، ألك فيه حيلة ؟ لا حيلة لك فيه ، { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : بقدره كان ذلك ، { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } أي : لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره ، إنما يضل من يضل{[24462]} ويهدي من يهدي{[24463]} ، لما له في ذلك من الحجة البالغة ، والعلم التام ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } .
وقال{[24464]} ابن أبي حاتم عند هذه الآية : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي ، حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني - أو : ربيعة - عن عبد الله بن الديلمي قال : أتيت عبد الله بن عمرو ، وهو في حائط بالطائف يقال له : الوهط ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ، ومن أخطأه منه ضل ، فلذلك أقول : جف القلم على ما علم الله عز وجل " . {[24465]}
ثم قال : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا حسان بن حسان البصري ، حدثنا إبراهيم بن بشر{[24466]} حدثنا يحيى بن معين{[24467]} حدثنا إبراهيم القرشي ، عن سعد بن شرحبيل{[24468]} عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " الحمد لله الذي يهدي من {[24469]} الضلالة ، ويلبس الضلالة على من أحب " . {[24470]}
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أفمن حسّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به ، وعبادة ما دونه من الاَلهة والأوثان ، فرآه حسنا ، فحسب سيىء ذلك حسنا ، وظنّ أن قُبحه جميل ، لتزيين الشيطان ذلك له ، ذهبت نفسك عليهم حسرات وحذف من الكلام : ذهبت نفسك عليهم حسرات ، اكتفاء بدلالة قوله : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ منه . وقوله : فإنّ اللّهَ يُضِلّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ يقول : فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك ، فيضله عن الرشاد إلى الحقّ في ذلك ، ويهدي من يشاء يقول : ويوفّق من يشاء للإيمان به واتباعك ، والقبول منك ، فتهديه إلى سبيل الرشاد فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ يقول : فلا تُهلك نفسك حزنا على ضلالتهم وكفرهم بالله ، وتكذيبهم لك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أفمَنْ زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَنا فإنّ اللّهِ يُضِلّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ قال قتادة والحسن : الشيطان زين لهم فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ : أي لا يُحزنك ذلك عليهم ، فإن الله يضلّ من يشاء ، ويهدي من يشاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ قال : الحسرات : الحزن ، وقرأ قول الله : يا حَسْرَتا على ما فَرّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ .
ووقع قوله : فإنّ اللّهَ يُضِلّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ موضع الجواب ، وإنما هو منبع الجواب ، لأن الجواب هو المتروك الذي ذكرت ، فاكتفى به من الجواب لدلالته على الجواب ومعنى الكلام .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ فقرأته قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر المدني فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ بفتح التاء من تَذهَبْ ، ونفسك برفعها . وقرأ ذلك أبو جعفر : «فَلا تُذْهِبْ » بضم التاء من تَذْهَبْ ، ونفسَك بنصبها ، بمعنى : لا تذهب أنت يا محمد نفسك .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ يقول تعالى ذكره : إن الله يا محمد ذو علم بما يصنع هؤلاء الذين زيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم ، وهو محصيه عليهم ، ومجازيهم به جزاءهم .
وقوله : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } تقرير له أي أفمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا والقبيح حسنا ، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه ، فحذف الجواب لدلالة : { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وقيل تقديره أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذف الجواب لدلالة : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيرهم وإصرارهم على التكذيب ، والفاءات الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب ، وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف ، وعليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه . { إن الله عليم بما يصنعون } فيجازيهم عليه .
وقوله تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } توقيف وجوابه محذوف تقديره عنده الكسائي تذهب نفسك حسرات عليهم ، ويمكن أن يتقدر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير ، وأحسنها ما دل اللفظ بعد عليه ، وقرأ طلحة «أمن زين » بغير فاء ، وهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفر قومه ، ووجب التسليم لله تعالى في إضلال من شاء وهداية من شاء ، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أمرهم وأن لا يبخع نفسه أسفاً عليهم ، وقرأ جمهور الناس «فلا تذهَبُ » بفتح التاء والهاء «نفسُك » بالرفع ، وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب «تُذهِبَ » بضم التاء وكسر الهاء نفسك بالنصب ، ورويت عن نافع ، و «الحسرة » هم النفس على فوات أمر ، واستشهد ابن زيد لذلك بقوله تعالى : { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله }{[9693]} [ الزمر : 56 ] ثم توعد تعالى الكفرة بقوله { إن الله عليم بما يصنعون } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفمن حسّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به، وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان، "فرآه حسنا"، فحسب سيئ ذلك حسنا، وظنّ أن قُبحه جميل، لتزيين الشيطان ذلك له، ذهبت نفسك عليهم حسرات وحذف من الكلام: ذهبت نفسك عليهم حسرات، اكتفاء بدلالة قوله: "فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ "منه.
وقوله: "فإنّ اللّهَ يُضِلّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ" يقول: فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك، فيضله عن الرشاد إلى الحقّ في ذلك، "ويهدي من يشاء" يقول: ويوفّق من يشاء للإيمان به واتباعك، والقبول منك، فتهديه إلى سبيل الرشاد.
"فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ" يقول: فلا تُهلك نفسك حزنا على ضلالتهم وكفرهم بالله، وتكذيبهم لك...
وقوله: "إنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" يقول تعالى ذكره: إن الله يا محمد ذو علم بما يصنع هؤلاء الذين زيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم، وهو محصيه عليهم، ومجازيهم به جزاءهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...يحتمل أن يكون قوله: {أفمن زُيّن له سوء عمله} فلزمه كمن قُبّح له، فانتهى عنه؟ ليسا بسواء كقوله: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} [الأنعام: 122]، وأن يكون ما ذكرنا بدءا على التقديم والتأخير.
{فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} من الضلال والهدى، يضل من علم منه أنه يختار الضلال، ويهدي من علم منه أنه يختار الهدى.
{فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} هذا يحتمل وجهين: أحدها: أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات إشفاقا على ما ينزل بهم بتركهم الإيمان لأن رسول الله كاد يهلك نفسه إشفاقا عليهم، فنهاه عن ذلك...
{إن الله عليم بما يصنعون} هذا يخرّج على وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى على علم بصنيعهم، أنشأهم لا عن جهل بما يكون منهم. والثاني: {عليم بما يصنعون} فلا تكافئهم، ولا تشتغلنّ بشيء منهم، ولكن فوّض ذلك إلى الله، وأسلم إليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
...الراغبُ في الدنيا يجمع حلالَها وحرامَها، ويحوّش حُطَامها، ولا يفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كمالها؛ فلقد زين له سوء عمله، والذي يتبع شهواته ويبيع مؤبد راحاته في الجنة، بساعة فلقد زين له سوء علمه، وإن الذي يُوثِرُ على ربِّه شيئاً من المخلوقات لَهُوَ من جملتهم...
{فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}: إذا عَرَفْتَ حقَّ التقدير، وعَلِمْتَ أنهم سقطوا من عين الله، ودَعَوْتَهم جَهْراً، وَبذلَتْ لهم نُصْحاً، فاستجابتُهم ليست لك، فلا تَجْعَلْ على قلبك من ذلك مشقةً ولا عناءً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا، قال لنبيه [صلى الله عليه وسلم]:
{أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً}: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين، كمن لم يزين له، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا» فقال: {فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهي، ويعتنق طاعة الهوى، حتى يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه.
وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقي بالاً إلى ذكرهم، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم: اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم.
عليه حسرات: مفعول له يعني: فلا تهلك نفسك للحسرات وعليهم صلة تذهب، كما تقول: هلك عليه حباً، ومات عليه حزناً، أو هو بيان للمتحسر عليه، ولا يجوز أن يتعلق بحسرات، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته، ويجوز أن يكون حالاً كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر.
له تعلق بما قبله؛ وذلك من حيث إنه تعالى لما بين حال المسيء الكافر والمحسن المؤمن، وما من أحد يعترف بأنه يعمل سيئا إلا قليل، فكان الكافر يقول الذي له العذاب الشديد هو الذي يتبع الشيطان، وهو محمد وقومه الذين استهوتهم الجن فاتبعوها، والذي له الأجر العظيم، نحن الذين دمنا على ما كان عليه آباؤنا، فقال الله تعالى: لستم أنتم بذلك فإن المحسن غير، ومن زين له العمل السيء فرآه حسنا غير، بل الذين زين لهم السيء دون من أساء وعلم أنه مسيء، فإن الجاهل الذي يعلم جهله، والمسيء الذي يعلم سوء عمله يرجع ويتوب، والذي لا يعلم يصر على الذنوب، والمسيء العالم له صفة ذم بالإساءة وصفة مدح بالعلم. والمسيء الذي يرى الإساءة إحسانا له صفتا ذم الإساءة والجهل، ثم بين أن الكل بمشيئة الله.
{فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} وذلك لأن الناس أشخاصهم متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان، والسيئة والحسنة يمتاز بعضها عن بعض، فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك باستقلال منهم، فلا بد من الاستناد إلى إرادة الله.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
أي: أفمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا والقبيح حسنا، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي: لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{حسرات} أي لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر.
ولما كان كأنه قيل: إنهم يؤذون أولياءك فيشتد أذاهم، وكان علم الولي القادر بما يعمل عدوه كافياً في النصرة، قال: {إن الله} أي المحيط بجميع أوصاف الكمال {عليم} أي بالغ العلم، وأكده تنبيهاً على أن المقام صعب، ومن لم يثبت نفسه بغاية جهده، زل لطول إملائه تعالى لهم وحلمه عنهم.
{بما يصنعون} أي مما مرنوا عليه وانطبعوا فيه من ذلك حتى صار لهم خلقاً يبعد كل البعد انفكاكهم عنه.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} إمَّا تقريرٌ لما سبقَ من التَّبايُنِ البيِّنِ بين عاقبتيْ الفريقينِ ببيان تباينِ حالهما المُؤدِّيينِ إلى تَينكِ العاقبتينِ. والفاءُ لإنكارِ ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أبعدَ كونِ حاليهما كما ذُكر يكون من زُيِّن له الكفرُ من جهةِ الشَّيطانِ فانهمك فيه كمنْ استقبحَه واجتنَبه واختارَ الإيمانَ والعملَ الصَّالحَ حتَّى لا تكونُ عاقبتُهما كما ذُكر فَحذْفُ ما حُذف لدلالةِ ما سبق عليه.
{فَإِنَّ الله يُضِلُّ} الخ تقريرٌ له وتحقيقٌ للحقِّ ببيانِ أنَّ الكُل بمشيئتِه تعالى أيْ فإنَّه تعالىَ يُضلُّ {مَن يَشاء} أنْ يضلَّه لاستحسانِه واستحبابِه الضَّلالَ وصرفِ اختيارِه إليه فيردَّه أسفلَ سافلينَ {وَيَهْدِي مَن يَشَاء} أنْ يهديَه بصرفِ اختيارِه إلى الهُدى فيرفعه إلى أعلى عليين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية، وحقيقة عمل الشيطان، والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله؛ ويمتد منه طريق الضلال الذي لا يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً...؟).. هذا هو مفتاح الشر كله.. أن يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، أن يعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها، ألا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه، لأنه واثق من أنه لا يخطىء! متأكد أنه دائماً على صواب! معجب بكل ما يصدر منه! مفتون بكل ما يتعلق بذاته، لا يخطر على باله أن يراجع نفسه في شيء، ولا أن يحاسبها على أمر، وبطبيعة الحال لا يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في رأي يراه. لأنه حسن في عين نفسه، مزين لنفسه وحسه، لا مجال فيه للنقد، ولا موضع فيه للنقصان! هذا هو البلاء الذي يصبه الشيطان على إنسان؛ وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلال، فإلى البوار! إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب، فلا يأمن مكر الله، ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل، ولا يأمن النقص والعجز، فهو دائم التفتيش في عمله، دائم الحساب لنفسه، دائم الحذر من الشيطان، دائم التطلع لعون الله. وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلال، وبين الفلاح والبوار. إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً).. إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير، ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين، هو هذا الغرور، هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق. ولا يحسن عملاً لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء، ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطئ! ولا يصلح فاسداً لأنه مستيقن أنه لا يفسد! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح! إنه باب الشر، ونافذة السوء، ومفتاح الضلال الأخير..
ويدع السؤال بلا جواب.. (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً؟).. ليشمل كل جواب. كأن يقال: أفهذا يرجى له صلاح ومتاب؟ أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله؟ أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء؟... إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال، وهو أسلوب كثير التردد في القرآن، وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد: (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات): وكأنما يقول: إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة؛ مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله؛ وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال! فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا، طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء، وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى.. وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال، وما دام الأمر كذلك (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).. إن هذا الشأن، شأن الهدى والضلال، ليس من أمر بشر، ولو كان هو رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إنما هو من أمر الله، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وهو مقلب القلوب والأبصار..
والله -سبحانه- يعزي رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له، حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم...وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير. ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون؛ ولا يرون ما فيها من الخير والجمال، ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال، وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها الله -سبحانه- رسوله. فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد. ثم لا يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له الله الصلاح والفلاح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... إسناد الإِضلال والهداية إلى الله إسناد بواسطة أنه خالق أسباب الضلال والاهتداء، وذلك من تصرفه تعالى بالخلق، وهو سر من الحكمة عظيم لا يدرك غوره وله أصول وضوابط سأبينها في « رسالة القضاء والقدر» إن شاء الله تعالى. و {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}... فإن الله أضلهم باختيارهم وهو قد تصرف بمشيئته، فهو أضلهم وهدى غيرهم بمشيئته وإرادته التي شاء بها إيجاد الموجودات، لا بأمره ورضاه الذي دعا به الناس إلى الرشاد.
فلا تذهبْ نفسك عليهم حسرات وإنما حسرتهم على أنفسهم إذ رضوا لها باتباع الشيطان ونبذوا اتباع إرشاد الله كما دلّ على ذلك قوله: {إن الله عليم بما يصنعون} تسجيلاً عليهم أنهم ورطوا أنفسهم فيما أوقعوها فيه بصنعهم، فالله أرشدهم بإرسال رسوله ليهديهم إلى ما يرضيه، والله أضلهم بتكوين نفوسهم نافرة عن الهدى تكويناً متسلسلاً من كائنات جمّة لا يحيط بها إلا علمه، وكلها من مظاهر حكمته، ولو شاء لجعل سلاسل الكائنات على غير هذا النظام، فلهَدَى الناس جميعاً.
والنهي موجه إلى نفس الرسول أن تذهب حسرات على الضالّين ولم يوجه إليه بأن يقال: فلا تذهب عليهم حسرات، للإِشارة إلى أن الذهاب مستعار إلى التلف والانعدام كما يقال: طارت نفسه شعاعاً.
وجُمعت الحسرات مع أن اسم الجنس صالح للدلالة على تكرار الأفراد قصداً للتنبيه على إرادة أفراد كثيرة من جنس الحسرة؛ لأن تلف النفس يكون عند تعاقب الحسرات الواحدة تلوَ الأخرى، لدوام المتحسّر منه، فكل تحسر يترك حزازة وكمداً في النفس حتى يبلغ إلى الحد الذي لا تطيقه النفس، فينفطر له القلب فإنه قد علم في الطب أن الموت من شدة الألم، كالضرب المبرح وقطع الأعضاء سببه اختلال حركة القلب من توارد الآلام عليه.
وقرأ الجمهور {فلا تذهب نفسك} بفتح الفوقية والهاء ورفع {نفسك} على أنه نهي لنفسه وهو كناية ظاهرة عن نهيه.
وقرأه أبو جعفر بضم الفوقية وكسر الهاء ونصب {نفسَك} على أنه نهي الرسول أن يذهب نفسَه.
وقد اشتملت هذه الآية على فاءات أربع كلها للسببية والتفريع وهي التي بلغ بها نظم الآية إلى هذا الإِيجاز البالغ حد الإِعجاز، وفي اجتماعها محسن جمع النظائر.
وجملة {إن الله عليم بما يصنعون} تصلح لإفادة التصبر والتحلم، أي أن الله عليم بصنعهم في المخالفة عن أمره، فكما أنه لحلمه لم يعجل بمؤاخذتهم، فكن أنت مؤتسياً بالله ومتخلقاً بما تستطيعه من صفاته، وفي ضمن هذا كناية عن عدم إفلاتهم من العذاب على سوء عملهم، وليس في هذه الجملة معنى التعليل لِجملة {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} لأن كَمَد نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لأجل تأخير عقابهم ولكن لأجل عدم اهتدائهم.
وتأكيد الخبر ب {إنَّ} إما تمثيل لحال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال من أغفله التحسر عليهم عن التأمل في إمهال الله إياهم فأكد له الخبر ب {إن الله عليم بما يصنعون}، وإمّا لجعل التأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر لتكون {إنّ} مغنية غناء فاء التفريع فتتمخض الجملة لتقرير التسلية والتعريض بالجزاء عن ذلك.
وعبر ب {يصنعون} دون: يعملون، للإِشارة إلى أنهم يدبرون مكائد للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، فيكون هذا الكلام إيذاناً بوجود باعث آخر على النزع عن الحسرة عليهم...
الأسلوب في {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِه} أسلوب استفهام، لكن لم يذكر المقابل له، وتقديره هل يستوي، ومَنْ لم يُزين له سوء عمله؟
والحق سبحانه لم يذكر جواباً لأنه معلوم، ولا يملك أحد إلا أن يقول لا يستويان، لأن الناس منهم مَنْ يعمل السيئة، ويعلم أنها سيئة، ويكتفي بها لا يتعداها، ومنهم مَنْ يتعدَّى فيفعل السيئة ويدَّعي أنها حسنة، وهذا مصيبته أعظم لأنه ارتكب جريمة حين فعل السيئة، وارتكب جريمة أخرى حين ادعى أنها حسنة، هذا معنى: {فَرَآهُ حَسَناً}، وهذا اختلال في الرؤية وضلال.
لذلك يقول تعالى بعدها: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} وهذه الآية وقف عندها كثيرون، يقولون: إنْ كان الله هو الذي يهدي، وهو الذي يُضل. فلماذا يُحاسب الإنسان؟ ولا بُدَّ لتوضيح هذه المسألة أن نُبين معنى يهدي ويُضل. يهدي يعنى: يدلُّه على طريق الخير ويرشده إليه، وهذا الإرشاد من الله لكل الناس، فمَنْ سمع هذا الإرشاد وسار على هُدَاه وصل إلى طريق الخير، فكان له من الله العون وزيادة الهدى، كما قال سبحانه:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
أما الذي أغلق سمعه فلم يسمع ولم يَهْتَدِ فَضَلَّ الطريق وانحرف عن الجادة، فأعانه الله أيضاً على غايته، وزاده ضلالاً، وختم على قلبه ليكون له ما يريد، فلا يدخل قلبه إيمانٌ، ولا يخرج منه كفر، وهؤلاء قال الله فيهم:
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10].
لذلك يقول تعالى عن قوم ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ} [فصلت: 17]. فمعنى {هَدَيْنَاهُمْ} يعني: دللناهم وأرشدناهم لطريق الخير، ولكنهم رفضوا هذه الدلالة وعارضوا الله فضَلُّوا فأضلهم الله. يعني: زادهم ضلالاً.
وسبق أنْ أوضحنا هذه القضية وقلنا: هَبْ أنك تريد أنْ تذهب إلى مكان ما، ووقفتَ عند مفترق الطرق لا تدري أيهما يُوصِّلك إلى غايتك، فذهبتَ إلى رجل المرور تسأله أين الطريق، فدلَّك عليه فشكرته وعرفتَ له جميله، فلما رآك مُطيعاً له، شاكراً لفضله قال لك: لكن أمامك في هذا الطريق عقبة سأسير معك حتى تتجاوزها، هكذا يعامل الحق سبحانه المهتدين:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
وقد خاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [القصص: 56] وخاطبه بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فأثبت له صلى الله عليه وسلم الهداية بمعنى الإرشاد والدلالة، لكن نفى في حقِّه الهداية بمعنى المعونة على الهدى، فالذي يُعين هو الله.
ثم إن الحق سبحانه لم يترك هذه المسألة هكذا، إنما بيَّن مَنْ يهديه ومَنْ يُضِلُّه، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] وقال: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] وأيُّ هداية للإنسان بعد أنْ كفر بالله، وفَسَق عن منهجه، وأفسد في البلاد، وظلم العباد؟
وقوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} يعني: لا تُهلك نفسك حسرة على عدم إيمانهم، وهذا المعنى شرحه الحق سبحانه في قوله:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية قومه، يألم أشدَّ الألم حين يشرد أحد منهم عن طريق الإيمان؛ لذلك قال تعالى عن نبيه محمد: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
ثم يقول سبحانه مُسلِّياً رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} يعني: لا تَخْفى عليه خافية من أفعالهم، وسوف يجازيهم ما يستحقون من عقاب على قَدْر ما بدر منهم من إعراض، فاطمئن ولا تحزن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الذي زيّن سوء أعمال هؤلاء في أنظارهم؟ هل هو الله، أم هوى النفس، أم الشيطان؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ العامل الأصلي لذلك هو الهوى والشيطان، ولكن لأنّ الله هو الخالق لذلك الأثر في أعمالهم، فيمكن نسبة ذلك إلى الله تعالى، لأنّ الإنسان وفي بداية طريق المعاصي يشعر بعدم الارتياح حين ارتكاب المعصية، لسلامة فطرته وحيوية وجدانه وسلامة عقله، ولكن بتكرار تلك الأعمال يقلّ عدم الارتياح إلى أن يصل إلى درجة عدم الاكتراث. ثمّ إذا استمرّ في ذلك الطريق يمسي القبيح جميلا في نظره، حتّى يصل إلى أن يتوهّم أنّ ذلك من مفاخره وفضائله، والحال أنّه يغطّ في بِركة آسنة من التعاسة والشقاء.
التعبير ب «حسرات» الذي هو «مفعول لأجله» لما قبله في الجملة، إشارة إلى أنّه ليس عندك عليهم حسرة واحدة، بل حسرات: «حسرة» على تضييع نعمة الهداية، «حسرة» على تضييع جوهر الإنسانية، «حسرة» على تضييع حاسّة التشخيص إلى حدّ رؤية القبيح جميلا، وأخيراً «حسرة» على الوقوع في نار الغضب والقهر الإلهي.