قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } . وذلك أن أبا سفيان والمشركين لما ارتحلوا يوم أحد متوجهين نحو مكة ، انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ، ندموا وقالوا : بئسما صنعنا . قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب ، حتى رجعوا عما هموا به ، فذلك قوله تعالى ( سنلقي ) أي سنقذف في قلوب الذين كفروا الرعب ، الخوف . قرأ أبو جعفر ، وابن عامر والكسائي ويعقوب الرعب بضم العين ، وقرأ الآخرون بسكونها .
قوله تعالى : { بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } . حجة وبرهاناً .
قوله تعالى : { ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } . مقام الكافرين .
وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد ، فمن ولايته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب ، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم ، وقد فعل تعالى .
وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة " أحد " - تشاوروا بينهم ، وقالوا : كيف ننصرف ، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا ، وهزمناهم ولما نستأصلهم ؟ فهموا بذلك ، فألقى الله الرعب في قلوبهم ، فانصرفوا خائبين ، ولا شك أن هذا من أعظم النصر ، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين : إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، وهذا من الثاني .
ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين ، فقال : { بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } أي : ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام ، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة ، من غير حجة ولا برهان ، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن ، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين ، لا يعتمد على ركن وثيق ، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق ، هذا حاله في الدنيا ، وأما في الآخرة فأشد وأعظم ، ولهذا قال : { ومأواهم النار } أي : مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج ، { وبئس مثوى الظالمين } بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم .
{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىَ الظّالِمِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : سيلقى الله أيها المؤمنون في قلوب الذين كفروا بربهم ، وجحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ممن حاربكم بأُحد الرعب ، وهو الجزع والهلع بما أشركوا بالله ، يعني بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام ، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة ، وهي السلطان التي أخبر عزّ وجلّ أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم ، وهذا وعد من الله جلّ ثناؤه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائهم ، والفلج عليهم ما استقاموا على عهده ، وتمسكوا بطاعته ، ثم أخبرهم ما هو فاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إليه ، فقال جلّ ثناؤه : { وَمأْوَاهُمُ النّارُ } يعني : ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة النار { وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ } يقول : وبئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقاب الله النار . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { سَنُلْقِي في قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا باللّهِ ما لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطانا وَمأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثُوَى الظّالِمِينَ } إني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم ، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة ، أي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ، ولا ظهور عليكم ما اعتصمتم واتبعتم أمري ، للمصيبة التي أصابتكم منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم ، خالفتم بها أمري ، وعصيتم فيها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة ، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا فقالوا : بئس ما صنعتم ، إنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشرّير تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله عزّ وجلّ في قلوبهم الرعب ، فانهزموا ، فلقوا أعرابيا ، فجعلوا له جُعْلاً ، وقالوا له : إن لقيت محمدا فأخبره بما قد جمعنا لهم ! فأخبر الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك ، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما قذف في قلبه من الرعب ، فقال : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا باللّهِ } .
رجوع إلى تسلية المؤمنين ، وتطْمينهم ، ووعدهم بالنَّصر على العدوّ . والإلقاءُ حقيقته رمي شيء على الأرض { فألقوا حبالهم وعصيّهم } [ الشعراء : 44 ] ، أو في الماء { فألقِيه في اليمّ } [ القصص : 7 ] ويطلق على الإفضاء بالكلام { يُلقُون السمع } [ الشعراء : 223 ] وعلى حصول الشيء في النفس كأنّ ملقياً ألقاه أي من غير سبق تهيّؤ { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } [ المائدة : 64 ] وهو هنا مجاز في الجعل والتَّكوين كقوله : { وقذف في قلوبهم الرعب } [ الأحزاب : 26 ] .
والرعب : الفزع من شدّة خوف ، وفيه لغتان الرعْب بسكون العين والرعُب بضم العين وقرأه الجمهور بسكون العين وقرأه ابن عامر ، والكسائي بضم العين .
والبَاء في قوله : { بما أشركوا بالله } للعِوض وتسمّى باء المقابلة مثل قولهم : هذه بتلك ، وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } [ المائدة : 38 ] ، وهذا جزاء دنيوي رتّبهُ الله تعالى على الإشراك به ، ومن حكمته تعالى أن رتّب على الأمور الخبيثة آثاراً خبيثة ، فإنّ الشرك لمّا كان اعتقاد تأثير من لا تأثير له ، وكان ذلك الاعتقاد يرتكز في نفوس معتقديه على غير دليل ، كان من شأن معتقده أن يكون مضطرِب النَّفس متحيّراً في العاقبة في تغلّب بعض الآلهة على بعض ، فيكون لكلّ قوم صَنم هم أخصّ به ، وهم في تلك الحالة يعتقدون أنّ لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة . فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة . كمَا لا يزال أتباعهم كذلك ، والَّذين حالهم كما وصفنا لا يستقرّ لهم قرار في الثِّقة بالنَّصر في حروبهم ، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها ، وعليه فقوله : { ما لم ينزل به سلطاناً } صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء ، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنَّه من أسبابِ إلقاء الرعب في قلوبهم ، إذ هم على غير يَقين فيما أشركوا واعتقدوا ، فقلوبهم وَجِلة متزلزلة ، إذ قد علم كلّ أحد أن الشركاء يَستحيل أن ينزل بهم سلطان . فإن قلتَ : ما ذكرتَه يقتضي أنّ الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله ، فيتعيّن أن يكون الرعب نازلاً في قلوبهم من قبل هذه الوقعة ، والله يقول { سنلقي } » أي في المستقبل ، قلت : هو كذلك إلاّ أنّ هذه الصّفات تستكنّ في النفوس حتَّى يدعو داعي ظهورها ، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال ، وتقويان وتضعفان ، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرّر الانتصار ، وقد ينزوي قليلاً إذا انهزم ثُمّ تعود له صفته سرعَى . كما وصفه عمرو بن الإطْنابَةِ في قوله :
وقَوْلي كُلَّمَا جَشَأتْ وجَاشَتْ *** مَكَانَكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحِي
وقول الحُصَيْننِ بن الحُمَام :
تَأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجدْ *** لِنَفْسِي حَيَاة مثلَ أنْ أتَقدّمَا
وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار ، فالمشركون لما انهزموا بادِىء الأمر يومَ أُحُد ، فُلَّت عزيمتهم ، ثُمّ لمّا ابتلَى الله المؤمنين بالهزيمة راجعَهم شيء من الشجاعة والازدهاء ، ولكنّهم بعد انصرافِهم عَاوَدَتْهم صفاتهم ، ( وتأبَى الطِبَاعُ عَلى الناقل ) .
فقوله : { سنُلقي } أي إلقاءَ إعادةِ الصفة إلى النُّفوس ، ولك أن تجعل السين فيه لمجرّد التَّأكيد أي ألقينا ونُلقي ، ويندفع الإشكال .
وكثير من المفسِّرين ذكروا أنّ هذا الرعب كانت له مظاهر : منها أنّ المشركين لمَّا انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا في استيصالهم إلاّ أنّ الرعب صدّهم عن ذلك ، لأنَّهم خافوا أن تعود عليهم الهزيمة ، وتدور عليهم الدائرة ، ومنها أنَّهم لمَّا انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكَّة عنّ لهم في الطريق ندم ، وقالوا : لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه ، فإنّا قتلناهم ولم يبق إلاّ الفَلّ والطَّريد ، فلْنرجع إليهم حتَّى نستأصلهم ، وبلغ ذلك النَّبيء صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى لقائهم ، فانتدبوا ، وكانوا في غاية الضعف ومثقّلين بالجراحة ، حتَّى قيل : إنّ الواحد منهم كان يحمل الآخر ثمّ ينزل المحمول فيحمل الَّذي كان حامله ، فقيّض الله مَعْبَد بنَ أبي مَعْبَد الخُزَاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال : « إنّ خزاعة قد ساءها ما أصابك ولوَدِدْنا أنَّك لم تُرزأ في أصحابك » ثُمّ لحق معبد بقريش فأدركهم بالرّوْحَاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان : ما وراءَك يا معبد ، قال : محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط ، يتحرّقون عليكم ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه ، فقال : ويلك ، ما تقول ؟ قال : ما أرى أنَّك ترتحلُ حتَّى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلتُ فيه :
كَادَت تُهَدّ من الأصوات راحلتي *** إذْ سالت الأرض بالجُرْد الأبابيلِ
تَرْدِي بأسْدٍ كراممٍ لا تَنابِلَـــةٍ *** عند اللِّقاء ولا مِيـــلٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ أعْدُو وأظُنّ الأرض مائلة *** لمّا سَمَوا برَئيس غير مخــذولِ
فوقع الرّعب في قلوب المشركين وقال صفوان بن أميَّة : لا ترجعوا فإنِّي أرى أنَّه سيكون للقوم قتال غير الَّذي كان .
وقوله : { ما لم ينزل به سلطانا } أي ما لاسلطان له . والسلطان : الحجّة والبرهان لأنَّه يتسلّط على النّفس ، ونُفي تنزيله وأريد نَفْيُ وجوده ، لأنّه لو كان لنَزْل أي لأوْحى الله به إلى النَّاس ، لأنّ الله لم يكتم النَّاسَ الإرشادَ إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألْسنةِ الرسل ، فالتنزيل إمَّا بمعنى الوحي ، وإمَّا بمعنى نصب الأدلَّة عليهم كقولهم : « نزلت الحكمة على ألْسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصّين » ولمَّا كان الحقّ لا يعدو هذين الحالين : لأنَّه إمَّا أن يعلم بالوحي ، أو بالأمارات ، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه ، كقول الشاعر الّذي لا يعرف اسمه :
لا تُفْزع الأرْنَبَ أهوالُهَا *** ولا تَرَى الضبّ بها يَنْجَحِرْ
وقوله : { ومأواهم النار } ذِكر عقابهم في الآخرة . والمأوى مَفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه ، والمَثْوَى مَفعل من ثَوَى إذا أقام ؛ فالنَّار مصيرهم ومقرّهم والمرادُ المشركون .