المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

189- ويسألك قوم عن الهلال{[14]} يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يكتمل ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس . فما وراء هذا التغير ، حتى صار في كل شهر هلال وصارت هناك أهلة ؟ . فقل لهم : إن لتكرار هذه الأهلة واختلاف نموها حِكَماً ومصالح دينية ودنيوية ، فهي أمارات تحدد أوقات المعاملات في معاشكم ، وتعيِّن أوقات الحج الذي هو من أركان دينكم ، ولو استقر الهلال على حاله كالشمس ما استقام لكم توقيت معاشكم وحجكم ، وليس جهلكم بحكمة اختلاف الهلال مدعاة للشك في حكمة الخالق ، وليس من البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ، متميزين بذلك عن الناس ، ولكن البر هو تقوى القلوب وإخلاصها وأن تأتوا البيوت من أبوابها كما يأتي كل الناس ، وأن تطلبوا الحق والدليل المستقيم ، فاطلبوا رضا الله ، واتقوا عذابه ، وارجوا بذلك فَلاَحَكُمْ وفوزكم ونجاتكم من عذاب النار .


[14]:إن القمر يعكس ضوء الشمس نحو الأرض من أجزاء سطحه المرئية والمضيئة فتظهر الأهلة، فإذا كان القمر في (الاقتران) أي بين الشمس والأرض فهو في المحاق ويبدأ ميلاد الهلال الجديد لجميع سكان الأرض، وإذا كان في الاستقبال أي الجهة المقابلة للشمس بالنسبة للأرض يظهر بدرا ثم يأخذ في التناقص حتى الاقتران الثاني، وتتم الدورة الاقترانية أي الشهر العربي في مدى 5309 ر29 يوما وعلى ذلك فإنه يمكن تعيين التاريخ العربي من ساعة الهلال وشدة إضاءته، فإذا شوهد الهلال خطا رفيعا عند الأفق الغربي وغرب بعد الغروب ببضع دقائق تمكن الرؤية بعد هذا الغروب، وتثبت بداية الشهر ويتيسر تعيين التاريخ من هذا الشهر للناس. ودورة القمر هي التي علمت الناس حساب الشهور ومنها شهر الحج وبدايته.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } . نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة ابن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً ، ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ، ثم يعود دقيقاً كما بدأ ، ولا يكون على حاله ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة ) وهي جمع هلال ، مثل رداء وأردية سمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته ، من قولهم استهل الصبي ، إذا صرخ حين يولد ، وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية .

قوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } . جمع ميقات ، أي فعلنا ذلك فعلنا ذلك ليعلم ذلك ليعلم الناس أوقات الحج ، والعمرة ، والصوم ، والإفطار ، وآجال الديون ، وعدد النساء ، وغيرها ، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .

قوله تعالى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } . قال أهل التفسير : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج ، أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه . فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلماً فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً ، إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو مضر بن معاوية ، سموا حمساً لتشددهم في دينهم ، والحماسة الشدة والصلابة ، قالوا : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار ، فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم دخلت من الباب وأنت محرم : قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحمسي فقال الرجل : إن كنت أحمسياً فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ، وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت ، أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار ، من بني سلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم فعلت ذلك ؟ قال لأني رأيتك دخلت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أحمسي . فقال الأنصاري : وأنا أحمسي ، يقول وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) . قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر : والبيوت ، والغيوب ، والجيوب ، والعيون ، وشيوخاً ، بكسر أوائلهن لمكان الياء ، وقرأ الباقون ، بالضم على الأصل ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي جيوب بكسر الجيم ، وقرأ أبو بكر وحمزة " العيوب " بكسر العين .

قوله تعالى : { ولكن البر من اتقى } . أي : البر : بر من اتقى .

قوله تعالى : { وأتوا البيوت من أبوابها } . في حال الإحرام .

قوله تعالى : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } . أي في طاعة الله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

يقول{[127]}  تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها ؟ أو عن ذاتها ، { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } أي : جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر ، ثم يتزايد إلى نصفه ، ثم يشرع في النقص إلى كماله ، وهكذا ، ليعرف الناس بذلك ، مواقيت عباداتهم من الصيام ، وأوقات الزكاة ، والكفارات ، وأوقات الحج .

ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات ، ويستغرق أوقاتا كثيرة قال : { وَالْحَجِّ } وكذلك تعرف بذلك ، أوقات الديون المؤجلات ، ومدة الإجارات ، ومدة العدد والحمل ، وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق ، فجعله تعالى ، حسابا ، يعرفه كل أحد ، من صغير ، وكبير ، وعالم ، وجاهل ، فلو كان الحساب بالسنة الشمسية ، لم يعرفه إلا النادر من الناس .

{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب ، إذا أحرموا ، لم يدخلوا البيوت من أبوابها ، تعبدا بذلك ، وظنا أنه بر . فأخبر الله أنه ليس ببر{[128]}  لأن الله تعالى ، لم يشرعه لهم ، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله ، فهو متعبد ببدعة ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم ، التي هي قاعدة من قواعد الشرع .

ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور ، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب ، الذي قد جعل له موصلا ، فالآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر ، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور ، ويستعمل معه الرفق والسياسة ، التي بها يحصل المقصود أو بعضه ، والمتعلم والمعلم ، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله ، يحصل به مقصوده ، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه ، فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود .

{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } هذا هو البر الذي أمر الله به ، وهو لزوم تقواه على الدوام ، بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإنه سبب للفلاح ، الذي هو الفوز بالمطلوب ، والنجاة من المرهوب ، فمن لم يتق الله تعالى ، لم يكن له سبيل إلى الفلاح ، ومن اتقاه ، فاز بالفلاح والنجاح .


[127]:- في ب: فقوله.
[128]:- في ب: ليس من البر.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلََكِنّ الْبِرّ مَنِ اتّقَىَ وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }

ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها ، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابا لهم فيما سألوا عنه . ذكر الأخبار بذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسَ قال قتادة : سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك : لم جعلت هذه الأهلة ؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون : هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدّة نسائهم ومحلّ دَينهم في أشياء ، والله أعلم بما يصلح خلقه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أنهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله تعالى : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ }جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وحلّ ديونهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : مَوَاقِيتُ للّناسِ وَالحَجّ قال : هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونسكهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الناس : لم خلقت الأهلة ؟ فنزلت : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } لصومهم وإفطارهم وحجهم ومناسكهم . قال : قال ابن عباس : ووقت حجهم ، وعدة نسائهم ، وحلّ دينهم .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعني حل دَينهم ، ووقت حجهم ، وعدّة نسائهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : سأل الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للّناسِ } يعلمون بها حل دينهم ، وعدّة نسائهم ، ووقت حجهم .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ أنه سئل عن قوله : { مَوَاقِيتُ للّناسِ } قال : هي مواقيت الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمّ عليكم فأتموا ثلاثين .

فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك : يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار ، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان ، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه ، مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم ، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم ، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه ، وتصرّم عدة نسائكم ، ووقت صومكم وإفطاركم ، فجعلها مواقيت للناس .

وأما قوله : وَالحَجّ فإنه يعني وللحج ، يقول : وجعلها أيضا ميقاتا لحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون } .

قيل : نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت البراء يقول : كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها . قال : فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له في ذلك ، فنزلت هذه الآية : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }

حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها ، ولم يأتوا من أبوابها ، فنزلت : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . . }الآية .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود ، عن قيس بن حبير : أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه ولا دارا من بابها أو بيتا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا . وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت ، فجاء فتسوّر الحائط ، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج من باب الدار أو قال من باب البيت خرج معه رفاعة ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما حَمَلَكَ عَلى ذَلِكَ ؟ » قال : يا رسول الله رأيتك خرجت منه ، فخرجت منه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي رَجلٌ أحْمَسُ » ، فقال : إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . }

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها }يقول : ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كوّات في ظهور البيوت وأبواب في جنوبها تجعلها أهل الجاهلية . فنهوا أن يدخلوا منها وأمروا أن يدخلوا من أبوابها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان ناس من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها ، فنزلت : وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى الآية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها } قال : كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نقب كوّة في ظهر بيته فجعل سلما فجعل يدخل منها . قال : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين ، قال : فأتى الباب ليدخل ، فدخل منه . قال : فانطلق الرجل ليدخل من الكوّة . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما شأنكَ ؟ » فقال : أني أحمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أحْمَسُ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء يتحرّجون من ذلك ، وكان الرجل يخرج مُهلاّ بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فُتخرج إليه من بيته . حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة ، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » .

قال الزهري : وكان الحمس لا يبالون ذلك . فقال الأنصاري : وأنا أحمس ، يقول : وأنا على دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . }

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ }الآية كلها . قال قتادة : كان هذا الحيّ من الأنصار في الجاهلية إذا أهلّ أحدهم بحجّ أو عمرة لا يدخل دارا من بابها إلا أن يتسوّر حائطا تسوّرا ، وأسلموا وهم كذلك . فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك ما تسمعون ، ونهاهم عن صنيعهم ذلك ، وأخبرهم أنه ليس من البرّ صنيعهم ذلك ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ، } فإن ناسا من العرب كانوا إذا حجوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا ينقبون في أدبارها ، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل قال : يا رسول الله إني أحمس يقول : إني محرم وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون الحُمْس . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا أيْضا أحْمَسُ فادْخُلْ » فدخل الرجل ، فأنزل الله تعالى ذكره : وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها . } وإن رجالاً من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوّه شيئا أحرم فأمن ، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نقبا من ظهر بيته . فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجل محرم كذلك ، وإن أهل المدينة كانوا يسمون البستان : الحُشّ . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستانا ، فدخله من بابه ، ودخل معه ذلك المحرم ، فناداه رجل من ورائه : يا فلان إنك محرم وقد دخلت فقال : «أَنا أحْمَسُ » ، فقال : يا رسول الله إن كنتَ محرما فأنا محرم ، وإن كنتَ أحمس فأنا أحمس . فأنزل الله تعالى ذكره{ : وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } إلى آخر الآية . فأحلّ الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيّع قوله : { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها }قال : كان أهل المدينة وغيرهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها ، وذلك أن يتسوروها ، فكان إذا أحرم أحدهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قبل ظهره . وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار ، فدخل رجل على أثره ممن قد أحرم ، فأنكروا ذلك عليه ، وقالوا : هذا رجل فاجر فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لِمَ دَخَلْتَ مِنَ البابِ وَقَدْ أحْرَمْتَ ؟ » فقال : رأيتك يا رسول الله دخلت فدخلت على أثرك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي أحْمَسُ » وقريش يومئذ تدعى الحمس فلما أن قال ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الأنصاريّ : إن ديني دينك . فأنزل الله تعالى ذكره : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها . . } . الآية .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قلت لعطاء قوله : { وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها } قال : كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برّا ، فقال «البرّ » ، ثم نعت البرّ ، وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها .

قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : كانت هذه الآية في الأنصار يأتون البيوت من ظهورها يتبررون بذلك .

فتأويل الآية إذا : وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها ، ولكن البرّ من اتقى الله فخافه ، وتجنب محارمه ، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها ، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا برّ لله فيه ، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها ، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال ، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده ، لأنه مما لم أحرّمه عليكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون . }

يعني تعالى ذكره بذلك : واتقوا الله أيها الناس فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم من فرائضه واجتناب ما نهاكم عنه لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه ، وتدركوا به البقاء في جناته والخلود في نعيمه . وقد بينا معنى الفلاح فيما مضى قبل بما يدلّ عليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يسألونك عن الأهلة } سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : ( ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ) { قل هي مواقيت للناس والحج } فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره ، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها . وخصوصا الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء . والمواقيت : جمع ميقات ، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها . والزمان : مدة مقسومة ، والوقت : الزمان المفروض لأمر . { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء ، والباقون بالكسر . { ولكن البر من اتقى } وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف { ولكن } ورفع { البر } . كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه ، وإنما يدخلوا من نقب أو فرجة وراءه ، ويعدون ذلك برا ، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات ، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين . أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضا من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها ، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه . والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله . { وأتوا البيوت من أبوابها } إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها . { واتقوا الله } في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله . { لعلكم تفلحون } لكي تظفروا بالهدى والبر .