المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

52- لا تحزن - أيها النبي - من محاولات هؤلاء الكفار ، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا ونبي من أنبيائنا أنه كلما قرأ عليهم شيئاً يدعوهم به إلى الحق تصدى له شياطين الإنس المتمردون لإبطال دعوته وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته ، فيزيل الله ما يدبِّرون ، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق ؛ حيث يثبت الله شريعته ، وينصر رسوله ، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم ، حكيم في أفعاله يضع كل شيء في موضعه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } الآية . قال ابن عباس و محمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، فكان يوماً في مجلس قريش فأنزل الله تعالى سورة النجم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته ، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها ، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود . وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل لها نصيباً فنحن معه ، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل ! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كثيراً فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيماً ، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش . وقيل : أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم ، وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثونه به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفياً ، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك . وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه ، وشدة على من أسلم . قال الله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول } وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عياناً ، ولا نبي وهو الذي تكون نبوته إلهاماً أو مناماً ، وكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً ، { إلا إذا تمنى } قال بعضهم : أي : أحب شيئاً واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به . ألقى الشيطان في أمنيته يعني : مراده . وعن ابن عباس قال : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلاً ، وما من نبي إلا تمنى أن يؤمن به قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان . وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : تمنى يعني : تلا وقرأ كتاب الله تعالى ( ألقى الشيطان في أمنيته ) أي : في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :

تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخرها لاقى حمام المقادر

واختلفوا في أنه هل كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة فقال قوم : كان يقرأ في الصلاة . وقال قوم : كان يقرأ في غير الصلاة . فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوماً من الغلط في أصل الدين ، وقال جل ذكره في القرآن : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } يعني إبليس ؟ قيل : قد اختلف الناس في الجواب عنه ، فقال بعضهم :إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته ، فظن المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأه . وقال قتادة : أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءةً فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر . والأكثرون قالوا : جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه . وقيل : إن شيطاناً يقال له : أبيض عمل هذا العمل ، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى ، والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء . { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي : يبطله ويذهبه ، { ثم يحكم الله آياته } فيثبتها . { والله عليم حكيم* }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

يخبر تعالى بحكمته البالغة ، واختياره لعباده ، وأن الله ما أرسل قبل محمد { مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى } أي : قرأ قراءته ، التي يذكر بها الناس ، ويأمرهم وينهاهم ، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : في قراءته ، من طرقه ومكايده ، ما هو مناقض لتلك القراءة ، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله ، وحفظ وحيه أن يشتبه ، أو يختلط بغيره . ولكن هذا الإلقاء من الشيطان ، غير مستقر ولا مستمر ، وإنما هو عارض يعرض ، ثم يزول ، وللعوارض أحكام ، ولهذا قال : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي : يزيله ويذهبه ويبطله ، ويبين أنه ليس من آياته ، و { يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } أي : يتقنها ، ويحررها ، ويحفظها ، فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان ، { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : كامل القوة والاقتدار ، فبكمال قوته ، يحفظ وحيه ، ويزيل ما تلقيه الشياطين ، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها ، فمن كمال حكمته ، مكن الشياطين من الإلقاء المذكور ، ليحصل ما ذكره بقوله : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

قيل : إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الشيطان كان ألقى على لسانه في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه ، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتمّ به ، فسلاّه الله مما به من ذلك بهذه الاَيات . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ومحمد بن قيس قالا : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : والنّجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا بلغ : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرَى ألقى عليه الشيطان كلمتين : «تلك الغرانقة العُلَى ، وإن شفاعتهنّ لتُرْجَى » ، فتكلم بها . ثم مضى فقرأ السورة كلها . فسجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعا معه ، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه ، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود . فرضُوا بما تكلم به وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذ جعلت لها نصيبا ، فنحن معك قالا : فلما أمسى أتاه جبرائيل عليهما السلام فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «افْتَرَيْتُ عَلى اللّهِ وقُلْتُ عَلى اللّهِ ما لَمْ يَقُلْ » فأوحى الله إليه : وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ ، لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ . . . إلى قوله : ثُمّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرا . فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيَ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَاللّهُ عَليمٌ حَكِيمٌ . قال : فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد المدنيّ ، عن محمد بن كعب القُرظيّ قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولّيَ قومه عنه ، وشقّ عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله ، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه . وكان يسرّه ، مع حبه وحرصه عليهم ، أن يلين له بعض ما غلُظَ عليه من أمرهم ، حين حدّث بذلك نفسه وتمنى وأحبه ، فأنزل الله : والنّجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحبُكُمْ وَما غَوَى فلما انتهى إلى قول الله : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ألقى الشيطان على لسانه ، لما كان يحدّث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه : «تلك الغرانيق العلَى ، وإن شفاعتهن تُرْتَضى » . فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وسرّهم ، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، فأصاخوا له ، والمؤمنون مصدّقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم ، ولا يتهمونه على خط ولا وَهَم ولا زلل . فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة ، سجد فيها ، فسجد المسلمون بسجود نبيهم ، تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره ، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة ، فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع ، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها . ثم تفرّق الناس من المسجد ، وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ، يقولون : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العُلَي وأن شفاعتهنّ ترتضى وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : أسلمت قريش . فنهضت منهم رجال ، وتخلّف آخرون . وأتى جبرائيل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، وقلت ما لم يُقَلْ لك فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وخاف من الله خوفا كبيرا ، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه وكانَ بِهِ رَحِيما يعزّيه ويخفّض عليه الأمر ويخبره أنه لم يكن قبله رسول ولا نبيّ تمنى كما تمنى ولا أحبّ كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ، أي فأنت كبعض الأنبياء والرسل فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمِنيّتِهِ . . . الاَية . فأذهب الله عن نبيه الحزن ، وأمنه من الذي كان يخاف ، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم أَنهّا الغرانيق العُلَى وأن شفاعتهنّ ترتضى . يقول الله حين ذكر اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى ، إلى قوله : وكَمْ منْ مَلَكٍ فِي السّمَوَاتِ لا تُغْنى شَفاعَتُهُمْ شَيْئا إلاّ مِنْ بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللّهِ لمَنْ يَشاءُ وَيَرْضَى ، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده . فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه ، قالت قريش : ندم محمد على ما كان من منزلة آلهتكم عند الله ، فغير ذلك وجاء بغيره وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك ، فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن أبي العالية ، قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني فلان ، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك ، فإنه يأتيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك قال : فألقى الشيطان في أمنيته ، فنزلت هذه الاَية : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال : فأجرى الشيطان على لسانه : «تلك الغرانيق العُلَى ، وشفاعتهن ترجى ، مثلهن لا يُنسى » . قال : فسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قرأها ، وسجد معه المسلمون والمشركون . فلما علم الذي أُجْرِي على لسانه ، كبر ذلك عليه ، فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ . . . إلى قوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قال : قالت قريش : يا محمد إنما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس ، فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك فإن الناس يأتونك من الاَفاق فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم فلما انتهى على هذه الاَية : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى فألقى الشيطان على لسانه : «وهي الغرانقة العلى ، وشفاعتهن ترتجى » . فلما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون والمشركون ، إلا أبا أُحَيحة سعيد بن العاص ، أخذ كفّا من تراب وسجد عليه وقال : قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن قريشا قد أسلمت ، فاشتدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه ، فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، قال : لما نزلت هذه الاَية : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهنّ لترتجى » . فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير فسجد المشركون معه ، فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ . . . إلى قوله : عَذَابَ يَوْمٍ عَقِيم .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جُبير قال : لما نزلت : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى ، ثم ذكر نحوه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ إلى قوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وذلك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي ، إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب ، فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنَوا منه ، فبينما هو يتلوها وهو يقول : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ألقى الشيطان : «إن تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » . فجعل يتلوها ، فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها ، ثم قال له : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ . . . إلى قوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيَ . . . الاَية أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، أنزل الله عليه في آلهة العرب ، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها . فسمع أهل مكة نبيّ الله يذكر آلهتهم ، ففرحوا بذلك ، ودنوا يستمعون ، فألقى الشيطان في تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم : «تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى » . فقرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك ، فأنزل الله عليه : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ . . . إلى : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أنه سئل عن قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيّ . . . الاَية ، قال ابن شهاب : ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم : والنّجْمِ إذَا هَوَى ، فلما بلغ : أفَرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال : «إن شفاعتهن ترتجَى » . وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض ، فسلموا عليه ، وفرحوا بذلك ، فقال لهم : «إنّمَا ذلكَ مِنَ الشّيْطانِ » . فأنزل الله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَيّ . . . حتى بلغ : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ .

فتأويل الكلام : ولم يرسل يا محمد مَنْ قَبْلك من رسول إلى أمة من الأمم ولا نبيّ محدّث ليس بمرسل ، إلا إذا تمنى .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله «تمنى » في هذا الموضع ، وقد ذكرت قول جماعة ممن قال : ذلك التمني من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من محبته مقاربة قومه في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون ، ومن قال ذلك محبة منه في بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا قرأ وتلا أو حدّث . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إذَا تَمنّى ألْقَى الشّيْطانُ فِي أُمْنِيّتِهِ يقول : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذَا تَمَنّى قال : إذا قال .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إلاّ إذَا تَمَنّى يعني بالتمني : التلاوة والقراءة .

وهذا القول أشبه بتأويل الكلام ، بدلالة قوله : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ على ذلك لأن الاَيات التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها ، لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم أن الذي ألقي فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه .

فتأويل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تلا كتاب الله ، وقرأ ، أو حدّث وتكلم ، وألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو في حديثه الذي حدث وتكلم . فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ يقول : تعالى فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله . كما :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ فيبطل الله ما ألقى الشيطان .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشّيْطانُ نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأحكم الله آياته .

وقوله : ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ يقول : ثم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه . وَاللّهُ عَلِيمٌ بما يحدث في خلقه من حدث ، لا يخفى عليه منه شيء . حَكِيمٌ في تدبيره إياهم وصرفه لهم فيما شاء وأحَبّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

{ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي بعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا " وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه ، والنبي غير الرسول من لا كتاب له وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي ، والنبي يقال له ولمن يوحى غليه في المنام . { إلا إذا تمنى } زور في نفسه ما يهواه . { ألقى الشيطان في أمنيته } في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام " وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله سبعين مرة " . { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون عليه والإرشاد إلى ما يزيحه . { ثم يحكم الله آياته } ثم يبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة . { والله عليم } بأحوال الناس . { حكيم } فيما يفعله بهم ، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت . وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة " والنجم " فأخذ يقرؤها فلما بلغ { ومناة الثالثة الأخرى } وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوا إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية . وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، وقيل تمنى قرأ كقوله :

تمنى كتاب الله أول ليله *** تمني داود الزبور على رسل

وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رد أيضا بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } لأنه أيضا يحتمله ، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم .