176- يسألونك - أيها النبي - عن ميراث من مات ولا ولد له ولا والد ، فحكم الله فيه هو : أنه إذا كان للمُتَوَفى أخت ، فلها نصف تركته ، وأيضاً إذا كان للمتوفاة التي لا زوج لها ولا ولد أخ فله تركتها ، وإن كان للمُوَرِّث أختان فلهما ثلثا تركته{[46]} وإن كانوا إخوة من ذكور وإناث فنصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين . يبين الله لكم هذا البيان حتى لا تضلوا في تقسيم الأنصباء ، والله عالم علماً كاملاً بكل شيء من أعمالكم ، ومجازيكم عليها .
قوله تعالى : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } . نزلت في جابر ابن عبد الله رضي الله عنه ، قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل ، وتوضأ وصب عليّ من وضوئه ، فعقلت ، فقلت : يا رسول الله لمن الميراث ؟ إنما يرثني الكلالة ، فنزلت : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وقد ذكر معنى الكلالة ، وحكم الآية في أول السورة ، وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم ، أو للأب .
قوله : { يستفتونك } أي : يستخبرونك ، ويسألونك ، { قل الله يفتيكم في الكلالة } .
قوله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها } ، يعني إذا ماتت الأخت فجميع ميراثها للأخ .
قوله تعالى : { وإن لم يكن لها ولد } . فإن كان لها ابن فلا شيء للأخ ، وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فضل عن فرض البنات .
قوله تعالى : { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } ، أراد اثنتين فصاعداً ، وهو إن من مات وله أخوات فلهن الثلثان .
قوله تعالى : { وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا } ، قال الفراء رحمة الله عليه ، وأبو عبيدة : معناه أن لا تضلوا ، وقيل معناه : يبين الله لكم كراهة أن تضلوا .
قوله تعالى : { والله بكل شيء عليم } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن رجاء ، أنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنهم قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن آخر آية نزلت آية الربا ، وآخر سورة نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } .
وروي عنه أن آخر آية نزلت قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] . وروي بعدما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عاماً ، ونزلت بعدها سورة براءة ، وهي آخر سورة نزلت كاملةً ، فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر ، ثم نزلت في طريق حجة الوداع { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } فسميت آية الصيف ، ثم نزلت وهو واقف بعرفة : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة :3 ] فعاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ، ثم نزلت آيات الربا ، ثم نزلت { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً .
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ }
أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى الله عليه وسلم أي : في الكلالة بدليل قوله : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ْ } وهي الميت يموت وليس له ولد صلب ولا ولد ابن ، ولا أب ، ولا جد ، ولهذا قال : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ْ } أي : لا ذكر ولا أنثى ، لا ولد صلب ولا ولد ابن .
وكذلك ليس له والد ، بدليل أنه ورث فيه الإخوة ، والأخوات بالإجماع لا يرثون مع الوالد ، فإذا هلك وليس له ولد ولا والد { وَلَهُ أُخْتٌ ْ } أي : شقيقة أو لأب ، لا لأم ، فإنه قد تقدم حكمها . { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ْ } أي نصف متروكات أخيها ، من نقود وعقار وأثاث وغير ذلك ، وذلك من بعد الدين والوصية كما تقدم .
{ وَهُوَ ْ } أي : أخوها الشقيق أو الذي للأب { يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ْ } ولم يقدر له إرثا لأنه عاصب فيأخذ مالها كله ، إن لم يكن صاحب فرض ولا عاصب يشاركه ، أو ما أبقت الفروض .
{ فَإِن كَانَتَا ْ } أي : الأختان { اثْنَتَيْنِ ْ } أي : فما فوق { فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً ْ } أي : اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم مع الإناث { فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ْ } فيسقط فرض الإناث ويعصبهن إخوتهن .
{ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ْ } أي : يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها ، ويوضحها ويشرحها لكم فضلا منه وإحسانا لكي تهتدوا ببيانه ، وتعملوا بأحكامه ، ولئلا تضلوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلكم وعدم علمكم .
{ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ } أي : عالم بالغيب والشهادة والأمور الماضية والمستقبلة ، ويعلم حاجتكم إلى بيانه وتعليمه ، فيعلمكم من علمه الذي ينفعكم على الدوام في جميع الأزمنة والأمكنة .
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لّمْ يَكُنْ لّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمّا تَرَكَ وَإِن كَانُوَاْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنثَيَيْنِ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلّواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : يَسْتَفْتُونَكَ يسألونك يا محمد أن تفتيهم في الكلالة . وقد بينا معنى الكلالة فيما مضى بالشواهد الدالة على صحته ، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيه فأغنى ذلك عن إعادته ، وبينا أن الكلالة عندنا ما عدا الولد والوالد . إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فلَها نِصْفُ ما تَرَكَ يعني بقوله : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ : إن إنسان من الناس مات . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يقول : مات .
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ذكر ولا أنثى وَلَهُ أُخْتٌ يعني : وللميت أخت لأبيه وأمه ، أو لأبيه . فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ يقول : فلأخته التي تركها بعده بالصفة التي وصفنا نصف تركته ميراثا عنه دون سائر عصبته ، وما بقي فلعصبته .
وذُكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمّهُم شأن الكلالة ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها هذه الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ فسألوا عنها نبيّ الله ، فأنزل الله في ذلك القرآن : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ فقرأ حتى بلغ : وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . قال : وذكر لنا أن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه قال في خطبته : ألا إن الاَية التي أنزل الله في أوّل سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد ، والاَية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والاَية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والاَية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أُوِلى الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مما جرّت الرحم من العَصَبة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عمرو بن مرّة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : سأل عمر بن الخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : «ألَيْسَ قَدْ بَيّنَ اللّهُ ذَلِكَ ؟ » قال فنزلت : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ .
حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن هشام الدّستوائيّ ، قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : اشتكيت وعندي تسع أخوات لي أو سبع أبو جعفر الذي يشكّ فدخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنفخ وجهي ، فأفقت وقلت : يا رسول الله ، ألا أوصي لأخواتي بالثلث ؟ قال : «أحْسَنُ » ، قلت : الشطر ؟ قال : «أحْسَنُ » . ثم خرج وتركني ، ثم رجع إليّ فقال : «يا جابِرُ إنّي لا أُرَاكَ مَيّتا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا ، وَإنّ اللّهَ قَدْ أنْزَلَ فِي الّذِي لاِءَخَوَاتِكَ فَجَعَلَ لَهُنّ الثّلُثَيْنِ » . قال : فكان جابر يقول : أنزلت هذه الاَية فيّ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن هشام ، يعني الدّستوائيّ ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : مرضت فأتاني النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر ، وهما ماشيان ، فوجدوني قد أغمى عليّ ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صبّ عليّ من وَضوئه ، فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أقضي في مالي ، أو كيف أصنع في مالي ؟ وكان له تسع أخوات ولم يكن له والد ولا ولد . قال : فلم يجبني شيئا حتى نزلت آية الميراث : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ . . . إلى آخر السورة . قال ابن المنكدر : قال جابر : إنما أنزلت هذه الاَية فيّ .
وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذه الاَية هي آخر آية أنزلت من القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : سمعته يقول : إن آخر آية نزلت من القرآن : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : آخر آية نزلت من القرآن : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ .
حدثنا محمد بن خلف ، قال : حدثنا عبد الصمد بن النعمان ، قال : حدثنا مالك بن مِغْول ، عن أبي السّفَر ، عن البراء ، قال : آخر آية نزلت من القرآن : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ .
حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانيّ ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ .
واختلف في المكان الذي نزلت فيه الاَية ، فقال جابر بن عبد الله : نزلت في المدينة . وقد ذكرت الرواية بذلك عنه فيما مضى بعضها في أوّل السورة عند فاتحة آية المواريث ، وبعضها في مبتدإ الإخبار عن السبب الذي نزلت فيه هذه الاَية .
وقال آخرون : بل أنزلت في مسير كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : نزلت : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ والنبيّ في مسير له ، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان ، فبلّغها النبيّ صلى الله عليه وسلم حذيفة ، وبلّغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه . فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة ، ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدثك فيها بما لم أحدثك يومئذ فقال عمر : لم أرد هذا رحمك الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فقال له حذيفة : والله إنك لأحمق إن ظننت .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، قال : كانوا في مسير ورأس راحلة حذيفة . قال : ونزلت : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ فلقّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ، فلقاها حذيفة عمر . فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة ، فقال : والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقّانيها رسول الله فلقيتكها كما لقانيها ، والله لاأزيدك عليها شيئا أبدا قال : وكان عمر يقول : اللهمّ إن كنت بينتها له ، فإنها لم تبين لي .
واختلف عن عمر في الكلالة ، فرُوي عنه أنه قال فيها عند وفاته : هو من لا ولد له ولا والد . وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في أول هذه السورة في آية الميراث . ورُوي عنه أنه قال قبل وفاته : هو ما خلا الأب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة اليعمريّ ، قال : قال عمر بن الخطاب : ما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ما نازعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما نازعته في آية الكلالة ، حتى ضرب صدري ، وقال : «يَكْفِيكَ مِنْها آيَةُ الصّيْفِ الّتي أُنْزِلَتْ في آخِرِ سُوَرةِ النّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ » وسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ ومن لا يقرأ : هو ما خلا الأب كذا حسب قال ابن عرفة قال شبابة : الشكّ من شعبة .
ورُوي عنه أنه قال : إني لأستحيي أن أخالف فيه أبا بكر . وكان أبو بكر يقول : هو ما خلا الولد والوالد ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه فيما مضى في أوّل السورة . ورُوي عنه أنه قال عند وفاته : قد كنت كتبت في الكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه ، وقد رأيت أن أترككم على ما كنتم عليه . وأنه كان يتمنى في حياته أن يكون له بها علم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب كتب في الجَدّ والكلالة كتابا ، فمكث يستخير الله فيه ، يقول : اللهمّ إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طُعِنَ دعا بالكتاب فمحي ، فلم يدر أحد ما كتب فيه ، فقال : إني كنت كتبت في الجدّ والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : حدثنا عمرو بن مرّة ، عن مرّة الهمدانيّ ، قال : قال عمر : ثلاث لأن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم بَيّنَهنّ لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها : الكلالة ، والخلافة ، وأبواب الربا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعتهم يذكرون ، ولا أرى إبراهيم إلا فيهم ، عن عمر قال : لأن أكون أعلم الكلالة أحبّ أليّ من أن يكون لي مثل جزية قصور الروم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، قال : حدثنا الأعمس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : أخذ عمر كتفا ، وجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لأقضينّ في الكلالة قضاء تحدّث به النساء في خدورهنّ فخرجت حينئذ حية من البيت ، فتفرّقوا ، فقال : لو أراد الله أن يتمّ هذا الأمر لأتمه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أبو حيان ، قال : ثني الشعبيّ ، عن ابن عمر ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يخطب على منبر المدينة ، فقال : أيها الناس : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا فيهنّ عهدا يُنتهَى إليه : الجدّ ، والكلالة ، وأبواب الربا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن سعيد بن أبي عَروبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، أن عمر بن الخطاب ، قال : ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألت عن الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري ، وقال : «تَكْفِيكَ آيَةُ الصّيْفِ التي في آخِرِ سُوَرةِ النّساء » .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهميّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان ، عن عمر ، قال : لم أدع شيئا أهمّ عندي من أمر الكلالة ، فما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن بأصبعه في صدري ، أو قال في جنبي ، فقال : «تَكْفِيكَ الاَيةُ الّتي أُنْزِلَتْ في آخِرِ النّسَاءِ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة ، فقال : إني والله ما أدع بعدي شيئا هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة ، وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن في نحري وقال : «تَكْفِيكَ آيَةُ الصّيْفِ الّتي أُنْزِلَتْ في آخِرِ سُورَةِ النّساءِ » ، وإن أعش أقض فيها بقضية لا يختلف فيها أحد قرأ القرآن .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن عمر بن الخطاب ، بنحوه .
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي يقول : أخبرنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن الحسن بن مسروق ، عن أبيه ، قال : سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لي ورث كلالة ، فقال : الكلالة ، الكلالة ، الكلالة وأخذ بلحيته ، ثم قال : والله لأن أعلمها أحبّ إليّ من أن يكون لي ما على الأرض من شيء ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ألم تسمع الاَية التي أنزلت في الصيف ؟ » فأعادها ثلاث مرّات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي سلمة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الكلالة ، فقال : «ألَمْ تَسْمَعِ الاَيَةَ الّتِي أُنْزِلَتْ فِي الصّيْفِ ، وَإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً » . . . إلى آخر الاَية .
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا إسحاق بن عيسى ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير : أن رجلاً سأل عقبة عن الكلالة ، فقال : ألا تعجبون من هذا ؟ يسألني عن الكلالة ، وما عضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله جلّ ثناؤه : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة ما خلا ابن عباس وابن الزبير ، على أن الميت لو ترك ابنة وأختا ، أن لابنته النصف ، وما بقي فلأخته إذا كانت أخته لأبيه وأمه أو لأبيه ؟ وأين ذلك من قوله : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وقد ورّثوها النصف مع الولد ؟ قيل : إن الأمر في ذلك بخلاف ما ذهبت إليه ، إنما جعل الله جلّ ثناؤه بقوله : إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى وكان موروثا كلالة ، النصف من تركته فريضة لها مسماة فأما إذا كان للميت ولد أنثى فهي مع عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها لو لم تكن ، وذلك غير محدود بحدّ ، ولا مفروض لها فرض سهام أهل الميراث بميراثهم عن ميتهم . ولم يقل الله في كتابه : فإن كان له ولد فلا شيء لأخته معه ، فيكون لما رُوي عن ابن عباس وابن الزبير في ذلك وجه يوجه إليه ، وإنما بين جلّ ثناؤه مبلغ حقها إذا ورث الميت كلالة وترك بيان مالها من حقّ إذا لم يورث كلالة في كتابه وبينه بوحيه على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت ، وذلك معنى غير معنى وراثتها الميت إذا كان موروثا كلالة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ يَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : وأخو المرأة يرثها إن ماتت قبله إذا وُرثت كلالة ولم يكن لها ولد ولا والد .
القول في تأويل قوله : فإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ فَلَهُما الثّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فللذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : فإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ : فإن كانت المتروكة من الأخوات لأبيه وأمه أو لأبيه اثنتين ، فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الميت إذا لم يكن له ولد وورث كلالة . وَإنْ كانُوا إخْوَةً يعني : وإن كان المتروكون من إخوته رجالاً ونساء . فللذّكَرِ منهم بميراثهم عنه من تركته مِثْلَ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ يعني : مثل نصيب اثنتين من أخواته ، وذلك إذا ورث كلالة ، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه ، أو لأبيه .
القول في تأويل قوله تعالى : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يبين الله لكم قسمة مواريثكم ، وحكم الكلالة ، وكيف فرائضهم أنْ تَضِلّوا بمعنى : لئلا تضلوا في أمر المواريث وقسمتها : أي لئلا تجوروا عن الحقّ في ذلك ، وتخطئوا الحكم فيه ، فتضلوا عن قصد السبيل . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا قال : في شأن المواريث .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد المعمري ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قالا جميعا : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : كان عمر إذا قرأ : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا قال : اللهمّ من بينتَ له الكلالة فلم تبيّن لي .
قال أبو جعفر : وموضع «أن » في قوله : يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا نصب في قول بعض أهل العربية لاتصالها بالفعل ، وفي قول بعضهم خفض ، بمعنى : يبين الله لكم بأن لا تضلوا ، ولئلا تضلوا وأسقطت «لا » من اللفظ وهي مطلوبة في المعنى ، لدلالة الكلام عليها ، والعرب تفعل ذلك ، تقول : جئتك أن تلومني ، بمعنى : جئتك أن لا تلومني ، كما قال القطاميّ في صفة ناقة :
رأيْنا ما يَرَى البُصَرَاءُ فِيها ***فَآلَيْنا عَلَيْها أنْ تُباعَا
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ بِكُلّ شَيّءٍ عَلِيمٌ .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وَاللّهُ بكُلّ شَيْءٍ من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها وجميع الأشياء عَلِيمٌ يقول : هو بذلك كله ذو علم .
{ يستفتونك } أي في الكلالة حذفت لدلالة الجواب عليه . روي ( أن جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني كلالة فكيف أصنع في مالي ) فنزلت وهي آخر ما نزل من الأحكام .
{ قل الله يفتيكم في الكلالة } سبق تفسيرها في أول السورة . { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } ارتفع { امرؤ } بفعل يفسره الظاهر ، وليس له ولد صفة له أو حال من المستكن في هلك ، والواو في { وله } يحتمل الحال والعطف ، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة وابن الأم لا يكون عصبة ، والولد على ظاهره فإن الأخت وإن ورثت مع البنت عند عامة العلماء -غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لكنها لا ترث النصف . { وهو يرثها } أي والمرء يرث إن كان الأمر بالعكس . { إن لم يكن لها ولد } ذكرا كان أو أنثى إن أريد بيرثها يرث جميع مالها ، وإلا فالمراد به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ ، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب وكذا مفهوم قوله : { قل الله يفتيكم في الكلالة } إن فسرت بالميت . { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } الضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى ، وفائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما . { وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } أصله وإن كانوا أخوة وأخوات فغلب المذكر . { يبين الله لكم أن تضلوا } أي يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه ، أو يبين لكم الحق والصواب كراهة أن تضلوا . وقيل لئلا تضلوا فحذف لا وهو قول الكوفيين . { والله بكل شيء عليم } فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات .