227- لكن الذين اهتدوا بهدى الله وعملوا الصالحات حتى تمكنت فيهم ملكات فاضلة ، وذكروا الله كثيراً حتى تمكنت خشيته من قلوبهم ، هؤلاء يجعلون الشعر كالدواء يصيب الداء ، وينتصرون لدينهم وإقامة الحق إذا جير على الحق ، وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهجاء الرسول أي مرجع من مراجع الشر والهلاك يرجعون إليه .
قوله تعالى : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } أي يكذبون في شعرهم ، يقولون : فعلنا وفعلنا ، وهم كذبة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن المجعد ، أنبأنا شعبة عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً " . ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية ، ويهجون الكفار ، وينافحون عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منهم : حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، فقال :
قوله تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين علي بن عبد الله بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا جعفر بن سليمان ، حدثنا ثابت ، عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خل عنه يا عمر ، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا شعبة ، أخبرني عدي أنه سمع البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان : " اهجهم أو هاجهم وجبريل معك " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر المعنى واحد قالا : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يؤيد حسان بروح القدس ، ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، حدثني أبي عن جدي ، حدثنا خالد بن زيد ، حدثني سعيد بن أبي هلال عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل ، فأرسل إلى ابن رواحة فقال : أهجهم ، فهجاهم فلم يرض ، فأرسل إلى كعب بن مالك ، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ، فلما دخل عليه قال حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه ، فجعل يحركه ، فقال : والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعجل ، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، وإن لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي ، فأتاه حسان ثم رجع ، فقال : يا رسول الله قد خلص لي نسبك ، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين . قالت عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان : إن روح القدس لا يزال يؤيدك ، ما نافحت عن الله ورسوله ، وقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هجاهم حسان فشفى واشتفى " قال حسان :
هجوت محمداً فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمداً براً حنيفاً *** رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد ابن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أن مروان بن الحكم أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الشعر لحكمة " . قالت عائشة رضي الله عنها : الشعر كلام ، فمنه حسن ، ومنه قبيح ، فخذ الحسن ودع القبيح .
وقال الشعبي : كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان علي رضي الله تعالى عنه أشعر الثلاثة . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده ، فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده القصيدة التي قالها فقال :
أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر *** غداة غد أم رائح فمهجر
فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها ، وهي قريبة من سبعين بيتاً ، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها ، وكان حفظها بمرة واحدة . { وذكروا الله كثيراً } أي : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ، { وانتصروا من بعد ما ظلموا } قال مقاتل : انتصروا من المشركين ، لأنهم بدؤوا بالهجاء . ثم أوعد شعراء المشركين فقال : { وسيعلم الذين ظلموا } أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم { أي منقلب ينقلبون } أي مرجع يرجعون بعد الموت . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إلى جهنم والسعير . والله أعلم .
ولما وصف الشعراء بما وصفهم به ، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله ، وعمل صالحا ، وأكثر من ذكر الله ، وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم .
فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة ، وآثار إيمانهم ، لاشتماله على مدح أهل الإيمان ، والانتصار من أهل الشرك والكفر ، والذب عن دين الله ، وتبيين العلوم النافعة ، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ينقلبون إلى موقف وحساب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها ، ولا حقا إلا استوفاه . والحمد لله رب العالمين .
وقوله - تعالى : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . . } استثناء من الشعراء المذمومين الذين يتبعهم الغاوون ، والذين هم فى كل واد يهيمون .
أى : إلا الشعراء الذين آمنوا بالله - تعالى - وعملوا الأعمال الصالحات وذكروا الله كثيرا بحيث لا يشغلهم شعرهم عن طاعة الله ، وانتصروا من بعد ما ظلموا من أعدائهم الكافرين ، بأن ردوا على أباطيلهم ، ودافعوا عن الدين الحق .
إلا هؤلاء ، فإنهم لا يكونون من الشعراء المذمومين ، بل هم من الشعراء الممدوحين .
قال ابن كثير : لما نزل قوله - تعالى - : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } جاء حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون وقالوا : قد علم الله - تعالى - أنا شعراء ، فتلا عليهم النبى صلى الله عليه وسلم : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } قال : أنتم . { وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } قال : أنتم { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال : أنتم " .
فالشعراء : منهم المذمومون وهم الذين فى كل واد يهيمون ويقولون مالا يفعلون . .
ومنهم الممدوحون وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا .
والشعر فى ذاته كلام : حسنه حسن ، وقبيحه قبيح ، فخذ الحسن ، واترك القبيح .
وقد تكلم العلماء هنا كلاما طويلا يتعلق بتفسير هذه الآيات التى تحدثت عن الشعراء فارجع إليه إن شئت .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } .
والمنقلب : المرجع والمصير ، وهو مفعول مطلق . أى : ينقلبون أى انقلاب والجملة الكريمة مشتملة على أشد ألوان التهديد والوعيد للظالمين .
قال القرطبى : ومعنى : { أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } أى مصير يصيرون ، وأى مرجع يرجعون ، لأن مصيرهم إلى النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع يرجعون ، والفرق بين المنقلب والمرجع : أن المنقلب : الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع : العود من حال هو فيها ، إلى حال كان عليها ، فصار كل مرجع منقلبا ، وليس كل منقلب مرجعا .
وقال الإمام ابن كثير : والصحيح أن هذه الآية عامة فى كل ظالم . . . وعن عائشة - رضى الله عنها - قالت : كتب أبى وصيته من سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبى قحافة ، عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر ، وينتهى الفاجر ، ويصدق الكاذب . إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظنى به ، ورجائى فيه ، وإن يظلم ويبدل فلا أعلم الغيب { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } .
{ إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا }
وقد كُني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين ، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم ، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق ، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه ، واستثناء { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الخ . . . من عموم الشعراء ، أي من حكم ذمّهم . وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام .
ومعنى : { وذكروا الله كثيراً } إي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر . { وانتصروا من بعد ما ظلموا } وهم مَن أسلموا من الشعراء وقالوا الشعر في هجاء المشركين والانتصارِ للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة ، فقد قالوا شعراً كثيراً في ذم المشركين . وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رَواحة ، وحسانَ بن ثابت ومن أسلم بعدُ من العرب مثل لَبيد ، وكعب بن زهير ، وسُحيم عبد بني الحسحاس ، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السُّورة مدنيّاً كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة .
وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين : حالة مذمومة ، وحالة مأذونة ، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة ، فانفتح بالآية للشعر بابُ قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه ، والتي تأوي إلى جانب رفضه . وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله : { وانتصروا من بعد ما ظلموا } ، وإلى الحالة المأذونة قوله : { وعملوا الصالحات } . وكيف وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصتَ أصحابُه لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة ، على أنه أذِن لحسان في مهاجاة المشركين وقال له : « كلامك أشد عليهم من وقع النبل . . » وقال له : « قل ومعك روح القدس » . وسيأتي شيء من هذا عند قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } في سورة يس ( 69 ) . وأجاز عليه كما أجاز كعبَ بن زهير فخلع عليه بردته ، فتلك حالة مقبولة لأنه جاء مؤمناً .
وقال أبو هريرة : سمعت رسول الله يقول على المنبر : أصدَقُ كلمةٍ ، أو أشْعَر كلمة قالتها العرب كلمةُ لبيد :
ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطل
وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال : كاد أميةُ أن يُسلم ، وأمر حسّاناً بهجاء المشركين وقال له : قُل ومعك رُوح القدس . وقال لكعبِ بن مالك : لكلامُك أشد عليهم من وقْع النبْل .
روى أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » بسنده إلى خُريم بن أوس بن حارثة أنه قال : هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرَفَه من تبوك فسمعت العباس قال : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك . فقال : قُل لا يفضُض الله فاك . فقال العباس :
من قبلِها طبتَ في الظلال وفي *** مُستَوْدَع حيثُ يخصف الوَرق
الأبيات السبعة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا يفضض الله فاك "
وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدُ الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول :
خَلُّوا بني الكفار عن سبيله *** اليومَ نضربكم على تنزيله
ضَرباً يُزيل الهامَ عن مقيله *** ويُذهل الخليلَ عن خليله
فقال له عُمر : يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " خَلِّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نَضْح النبْل " .
وعن الزهري أن كعب بن مالك قال : يا رسول الله ما تقول في الشعر ؟ قال : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل " .
ولعلي بن أبي طالب شعر كثير ، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه .
وقد بين القرطبي في « تفسيره » في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر . وكذلك الشيخ عبد القاهر الجرجاني في أول كتاب « دلائل الإعجاز » .
ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر ، ولم يزل العلماء يعنَون بشعر العَرب ومَن بعدهم ، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن .
ومعنى : { من بعد ما ظلموا } أي من بعد ما ظلمهم المشركون بالشتم والهجاء .
{ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَىَّ مُنقَلَبٍ } .
ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم . وجُعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك ، وللاعتداء على حقوق الناس . وقد تلاها أبو بكر في عهده إلى عمر بالخلافة بعده ، والواو اعتراضية للاستئناف .
وهذه الآية تحذير عن غمص الحقوق وحثّ عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب ، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم ، ومن الإبهام في قوله : { أي منقلب ينقلبون } إذ ترك تبيينه بعقاب معيّن لتذهل نفوس المُوعَدِين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلَب سوء .
والمنقلب : مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآلُ ، لأن الانقلاب هو الرجوع . وفعل العلم معلق عن العمل بوجود اسم الاستفهام بعده . واسم الاستفهام في موضع نصب بالنيابة عن المفعول المطلق الذي أضيف هو إليه . قال في « الكشاف » : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى عز وجل شعراء المسلمين، فقال: {إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا} على المشركين {من بعده ما ظلموا} يقول: انتصر شعراء المسلمين من شعراء المشركين، فقال: {وسيعلم الذين ظلموا} يعني: أشركوا {أي منقلب ينقلبون}، يقول: ينقلبون في الآخرة إلى الخسران.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ" وهذا استثناء من قوله "وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ". وذُكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ثم هو لكلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها... وقوله: "وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا "اختلف أهل التأويل في حال الذكر الذي وصف الله به هؤلاء المستثنين من الشعراء؛ فقال بعضهم: هي حال منطقهم ومحاورتهم الناس، قالوا: معنى الكلام: وذكروا الله كثيرا في كلامهم...
وقال آخرون: بل ذلك في شعرهم... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء المؤمنين بذكر الله كثيرا، ولم يخص ذكرهم الله على حال دون حال في كتابه، ولا على لسان رسوله، فصفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا في كلّ أحوالهم.
وقوله: "وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا" يقول: وانتصروا ممن هجاهم من شعراء المشركين ظلما بشعرهم وهجائهم إياهم، وإجابتهم عما هجوهم به... عن ابن عباس "وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا" قال: يردّون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين...
وقوله: "وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا" يقول تعالى ذكره: وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله من أهل مكة "أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" يقول: أيّ مرجع يرجعون إليه، وأيّ معاد يعودون إليه بعد مماتهم، فإنهم يصيرون إلى نار لا يُطفأ سعيرها، ولا يَسْكُن لهبها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فاستثنى شعراء المسلمين الذين قالوا الشعر، وأنشدوه، في انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنهم لا يتبعهم الغاوون. ويحتمل أن يكون الاستثناء من قوله: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنهم لا يهيمون في كل واد، ويقولون ما يفعلون، و لا يقولون ما لا يفعلون. بل يذكرون الله كثيرا وينصرون رسوله وأنفسهم من بعد ما ظلموا...
. ثم أوعدهم، وقال: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. ويحتمل في الآخرة في منقلب الظلمة، وهي النار، أي يعلمون علم عيان يومئذ، وإن لم يعلموا ذلك في الدنيا علم الاستدلال لما تركوا النظر فيه، أو يعلمون ذلك علم عيان في الآخرة، وإن علموا في الدنيا علم استدلال، لكنهم تعاندوا، وكابروا، فلم يؤمنوا، والله أعلم بالصواب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعراً قالوه في توحيد الله والثناء عليه، والحكمة والموعظة، والزهد والآداب الحسنة، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وصلحاء الأمة، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة ولا منقصة، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم...
ختم السورة بآية ناطقة بما لا شيء أهيب منه وأهول، ولا أنكى لقلوب المتأمّلين ولا أصدع لأكباد المتدبرين، وذلك قوله: {وَسَيَعْلَمُ} وما فيه من الوعيد البليغ، وقوله {الذين ظَلَمُواْ} وإطلاقه. وقوله: {أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وإبهامه..
ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بيانا لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة: أحدها: الإيمان وهو قوله: {إلا الذين آمنوا}، وثانيها: العمل الصالح وهو قوله: {وعملوا الصالحات}، وثالثها: أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق، وهو قوله: {وذكروا الله كثيرا}، ورابعها: أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم، وهو قوله: {وانتصروا من بعد ما ظلموا}...
فأما قوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من الدلائل العقلية، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين، ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمدا صلى الله عليه وسلم تارة بالكاهن، وتارة بالشاعر، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولا ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانيا ختم السورة بهذا التهديد العظيم، يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور: المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال تعالى: {إلا الذين آمنوا} أي بالله ورسوله {وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي التي شرعها الله ورسوله لهم {وذكروا الله} مستحضرين ما له من الكمال {كثيراً} لم يشغلهم الشعر عن الذكر، بل بنوا شعرهم على أمر الدين والانتصار للشرع، فصار لذلك كله ذكر الله.. {وانتصروا} أي كلفوا أنفسهم أسباب النصر بشعرهم فيمن آذاهم {من بعد ما ظلموا} أي وقع ظلم الظالم لهم بهجو ونحوه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا} وقد كُني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه، واستثناء {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الخ... من عموم الشعراء، أي من حكم ذمّهم. وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام...وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين: حالة مذمومة، وحالة مأذونة، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة، فانفتح بالآية للشعر بابُ قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه، والتي تأوي إلى جانب رفضه. وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله: {وانتصروا من بعد ما ظلموا}، وإلى الحالة المأذونة قوله: {وعملوا الصالحات}... {أي منقلب ينقلبون} إذ ترك تبيينه بعقاب معيّن لتذهل نفوس المُوعَدِين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلَب سوء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ظاهر اللفظ أن الاستثناء من الشعراء، ويكون الاستثناء متصلا...ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا، ومستثنى من الضالين، ويكون معنى (إلا) لكن، والمعنى: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخره، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا بأن امتلأت قلوبهم بذكره، وانتصروا أي انتصفوا من المشركين من بعد ظلموا فإنهم يتبعون الحق ويتبعهم أهل الحق...
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}. السين هنا لتأكيد الفعل في المستقبل، والعلم الذي سيعلمونه هو علم المعاينة، إذ سيرون العذاب، وسيحسونه نازلا بهم، إذ يكونون في جهنم، وبئس المهاد، والتعبير بالموصول لبيان أن الصلة هي سبب ما ينزل بهم من عذاب شديد، لا يعرفونه الآن، وسيعرفونه من بعد، وقد ظلموا أولا بالشرك، وثانيا بتكذيب الرسل، وثالثا بإنكارهم للقرآن، ورميهم له بأنه تنزل به الشياطين، وأنه كأقوال الكهان، وغير ذلك مما ظلمت به العقيدة، والحقائق، وقد أضافوا إلى ذلك ظلم العباد، والصد عن سبيل الله تعالى، والمنقلب هو انقلابهم من الطغيان إلى المهانة، ومن رغد العيش إلى شدته، وقد أبهم هذا المنقلب، تأكيدا للتهديد، والإنذار الشديد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهكذا فقد بيّن القرآن أربع صفات للشعراء الهادفين، وهي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر الله كثيراً، والانتصار للحق من بعدما ظلموا، مستعينين بشعرهم في الذب عنه... وحيث أن معظم آيات هذه السورة هو للتسلية عن قلب النّبي، والتسرية عنه،...
فإن السورة تُختتم بجملة ذات معنى غزير، وفيها تهديد لأولئك الأعداء الألدّاء، إذ تقول: (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون). وبالرغم من أن بعض المفسّرين أرادوا أن يحصروا هذا الانقلاب والعاقبة المرة للظالمين بنار جهنمَّ... إلاّ أنه لا دليل على تقييد ذلك وتحديده بها... بل لعله إشارة إلى هزائمهم المتتابعة والمتلاحقة في المعارك الإسلامية، كمعركة بدر وغيرها، وما أصابهم من ضعف وذلة في دنياهم، فمفهوم هذه الآية عام، بالإضافة إلى ذلك عذابهم وانقلابهم إلى النار في آخر المطاف.