قوله تعالى :{ وربك يخلق ما يشاء ويختار } نزلت هذه الآية جواباً للمشركين حين قالوا : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } يعني : الوليد بن المغيرة ، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم . قوله عز وجل : { ما كان لهم الخيرة } قيل : ما للإثبات ، معناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة ، أي : يختار ما هو الأصلح والخير . وقيل : هو للنفي أي : ليس إليهم الاختيار ، أو ليس لهم أن يختاروا على الله ، كما قال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة } والخيرة : اسم من الاختيار يقام مقام المصدر ، وهي اسم للمختار أيضاً كما يقال : محمد خيرة الله من خلقه . { ثم نزه نفسه فقال : { سبحان الله وتعالى عما يشركون* }
{ 68-70 } { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
هذه الآيات ، فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات ، ونفوذ مشيئته بجميع البريات ، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه ، من الأشخاص ، والأوامر [ والأزمان ] والأماكن ، وأن أحدا{[611]} ليس له من الأمر والاختيار شيء ، وأنه تعالى منزه عن كل ما يشركون به ، من الشريك ، والظهير ، والعوين ، والولد ، والصاحبة ، ونحو ذلك ، مما أشرك به المشركون ،
ثم بين - سبحانه - أن مرد الأمور جميعها إليه ، وأنه هو صاحب الخلق والأمر فقال : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } .
أى : وربك - أيها الرسول الكريم - يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار من يختار من عباده لحمل رسالته ، ولتبليغ دعوته . { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } و { مَا } فى قوله - تعالى { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } نافية والخيرة من التخير وهى بمعنى الاختيار ، والجملة مؤكدة لما قبلها من أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء ويختار .
أى : وربك وحده يخلق ما يشاء خلقه ويختار ما يشاء اختياره لشئون عباده ، وما صح وما استقام لهؤلاء المشركين أن يختاروا شيئا لم يختره الله - تعالى - أو لم يرده ، إذ كل شىء فى هذا الوجود خاضع لإرادته وحده - عز وجل - ولا يملك أحد كائنا من كان أن يقترح عليه شيئا ولا أن يزيد أو ينقص فى خلقه شيئا .
وليس هؤلاء المشركين أن يختاروا للنبوة أو لغيرها أحدا لم يختره الله - تعالى - لذلك ، فالله -عز وجل - أعلم حيث يجعل رسالته .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } أى : ليس يرسل من اختاروه هم .
وقيل : يجوز أن تكون { مَا } فى موضع نصب بيختار ، ويكون المعنى ، ويختار الذى كان لهم فيه الخيرة .
والصحيح الأول لإطباقهم الوقف على قوله { وَيَخْتَارُ } ، و { مَا } نفى عام لجميع الأشياء ، أن يكون للعبد فيها شىء سوى اكتسابه بقدرة الله - عز وجل - .
وقال الثعلبى : و { مَا } نفى ، أى ليس لهم الاختيار على الله . وهذا أصوب ، كقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ . . } وقوله - تعالى - : { سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له - عز وجل - عن الشرك والشركاء .
أى تنزه الله - تعالى - وتقدس بذاته وصفاته عن إشراك المشركين ، وضلال الضالين .
{ وربك يخلق ما يشاء ويختار } لا موجب عليه ولا مانع له . { ما كان لهم الخيرة } أي التخير كالطيرة بمعنى التطير ، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا والأمر كذلك عند التحقيق ، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار الله منوط بدواع لا اختيار لهم فيها ، وقيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه ولذلك خلا عن العاطف ، ويؤيده ما روي أنه نزل في قولهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . وقيل { ما } موصولة مفعول ل{ يختار } والراجع إليه محذوف والمعنى : ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير والصلاح . { سبحان الله } تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار . { وتعالى عما يشركون } عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه .
وقوله تعالى : { وربك يخلق ما يشاء ويختار } الآية ، قيل سببها ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقول بعضهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }{[9163]} [ الزخرف : 31 ] فنزلت هذه الآية بسبب تلك المنازع ، ورد الله تعالى عليهم وأخبر أنه يخلق من عباده وسائر مخلوقاته ما يشاء وأنه يختار لرسالته من يريد ويعلم فيه المصلحة ثم نفى أن يكون الاختيار للناس في هذا ونحوه ، هذا قول جماعة من المفسرين{[9164]} أن { ما } نافية أي ليس لهم تخير على الله تعالى فتجيء الآية كقوله تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله }{[9165]} الآية [ الأحزاب : 36 ] .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يريد و { يختار } الله تعالى الأديان والشرائع وليس له الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام ونحوها في العبادة ، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى : { سبحان الله وتعالى عما يشركون } ، وذهب الطبري إلى أن { ما } في قوله تعالى و { يختار ما كان } مفعولة ب { يختار } قال : والمعنى أن الكفار كانوا يختارون من أموالهم لأصنامهم أشياء فأخبر الله تعالى أن الاختيار إنما هو له وحده يخلق ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس لا كما يختارون هم ما ليس إليه ويفعلون ما لم يؤمروا به .
قال القاضي أبو محمد : واعتذر الطبري عن الرفع الذي أجمع القراء عليه في قوله تعالى : { ما كان لهم الخيرة } بأقوال لا تتحصل{[9166]} وقد رد الناس عليه في ذلك ، وذكر عن الفراء أن القاسم بن معن أنشده بيت عنترة : [ البسيط ]
أمن سمية دمع العين تذريف . . . لو كان ذا منك قبل اليوم معروف{[9167]}
وقرن الآية بهذا البيت والرواية في البيت لو أن ذا ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون الأمر والشأن مضمراً في كان وذلك في الآية ضعيف ، لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها مجرور وفي هذا كله نظر ، والوقف على ما ذهب إليه جمهور الناس في قوله { ويختار } وعلى ما ذهب إليه الطبري لا يوقف على ذلك ويتجه عندي أن يكون { ما } مفعولة إذا قدرنا { كان } تامة أي أن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه ، وقوله تعالى : { لهم الخيرة } جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله تعالى لهم لو قبلوا وفهموا .