34- إن الله يثبت عنده علم الساعة فلا يعلمها أحد سواه ، وينزل المطر في موعده الذي ضربه له ، ويعلم ما في الأرحام ، أى يعلم مصير هذا الخارج من الأرحام إلى الدنيا بين الشقاء والسعادة ، وبين التوفيق والخذلان ، وبين مقدار إقامته في الدنيا وخروجه منها . وما تعلم نفس بارة أو فاجرة ما تكسبه في غدها من خير أو شر ، وما تعلم نفس ببقعة الأرض التي فيها ينقضي أجلها ، لأن الله تام العلم والخبرة لكل شيء ، ولا يظهر على غيبه أحداً .
قوله :{ إن الله عنده علم الساعة } الآية نزلت في الحارث بن عمرو ، بن حارثة ، بن محارب ، ابن حفصة ، من أهل البادية " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال : إن أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث ؟ وتركت امرأتي حبلى ، فمتى تلد ؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت ؟ فأنزل الله هذه الآية : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت " . وقرأ أبي بن كعب : بأية أرض ، والمشهور : بأي أرض لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء . وقيل : أراد بالأرض المكان . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنبأنا إبراهيم ابن سعد ، أنبأنا ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، وما تدري نفس بأي أرض تموت " . { إن الله عليم خبير } .
{ 34 } { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة ، والظواهر والبواطن ، وقد يطلع اللّه عباده على كثير من الأمور الغيبية ، وهذه [ الأمور ]{[678]} الخمسة ، من الأمور التي طوى علمها عن جميع المخلوقات ، فلا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فضلا عن غيرهما ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : يعلم متى مرساها ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } الآية .
{ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } أي : هو المنفرد بإنزاله ، وعلم وقت نزوله .
{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } فهو الذي أنشأ ما فيها ، وعلم ما هو ، هل هو ذكر أم أنثى ، ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه : هل هو ذكر أم أنثى ؟ فيقضي اللّه ما يشاء .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا } من كسب دينها ودنياها ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } بل اللّه تعالى ، هو المختص بعلم ذلك جميعه .
ولما خصص هذه الأشياء ، عمم علمه بجميع الأشياء فقال : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } محيط بالظواهر والبواطن ، والخفايا والخبايا ، والسرائر ، ومن حكمته التامة ، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد ، لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبر ذلك .
ثم بين - سبحانه - جانبا من الأمور التى استأثر - عز وجل - بعلمها فقال : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } أى : عنده وحده علم وقتها ، وعلم قيامها ، كما قال - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ . . . } { وَيُنَزِّلُ الغيث } أى : وينزل بقدرته المطر ، ويعلم وحده وقت نزوله . { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } أى : ويعلم ما فى أرحام الأمهات من ذكر أو أنثى .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ } من النفوس كائنة من كانت { مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } من خير أو شر ، ومن رزق قليل أو كثير ، لأنها لا تملك عمرها إلى الغد .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ } من النفوس - أيضا - كائنة من كانت { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } أى : بأى مكان ينتهى أجلها .
{ إِنَّ الله } - تعالى - { عَلَيمٌ } بكل شئ { خَبِيرٌ } بما يجرى فى نفوس عباده . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث والآثار ، منها ما راه الإِمام أحمد عن ابن عمر - رضى الله عنهما - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ هذه الآية " .
وعن مجاهد قال : " جاء رجل من أهل البادية فقال للنبى صلى الله عليه وسلم - " إن امرأتى حبلى فأخبرنى ما تلد ؟ وبلادنا جدبة فأخبرنى متى ينزل الغيب ؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرنى متى أموت ؟ " فأنزل الله الآية .
وهذه الأمور الخمسة من الأمور التى استأثر الله - تعالى - بها على سبيل العلم اليقينى الشامل المطابق للواقع . .
ولا مانع من أن يطلع الله - تعالى - بضله وكرمه ، بعض أصفيائه على شئ منها .
وليست المغيبات محصورة فى هذه الخمسة ، بل كل غيب لا يعلمه إلا الله - تعالى - داخل فيما استأثر الله - تعالى - بعلمه ، وإنما خصت هذه الخمسة بالذكر لأنها من أهم المغيبات ، أو لأن السؤال كان عنها .
وما يخبر به المنجم والطبيب وعلماء الأرصاد الجوية من الأمور التى لم تتكشف بعد ، فمبناه على الظن لا على اليقين ، وعلى احتمال الخطأ والصواب .
أما علم الله - تعالى - بهذه الأمور وغيرها ، فهو علم يقينى قطعى شامل . لا يحتمل الظن أو الشك أو الخطأ .
وصدق الله إذ يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وبعد : فهذا تفسير محرر لسورة " لقمان " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
{ إن الله عنده علم الساعة } علم وقت قيامها . لما روي أن الحرث بن عمرو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : متى قيام الساعة ؟ وإني قد ألقيت حباتي في الأرض فمتى السماء تمطر ؟ وحمل امرأتي أذكر أو أنثى ؟ وما أعمل غدا وأين أموت ؟ فنزلت . وعنه الصلاة والسلام " مفاتح الغيب خمس " وتلا هذه الآية . { وينزل الغيث } في إبانه المقدر له والمحل المعين له في علمه ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد . { ويعلم ما في الأرحام } أذكر أم أنثى أتام أم ناقص . { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } من خير أو شر وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه . { وما تدري نفس بأي أرض تموت } كما لا تدري في أي وقت تموت . روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظم إليه ، فقال الرجل من هذا ؟ قال : ملك الموت فقال كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك : كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك " ، وإنما جعل العلم لله تعالى والدراية للعبد لأن فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين ، ويدل على أنه إن أعمل حيلة وأنفذ فيها وسعه لم يعرف ما هو الحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره مما لم ينصب له دليل عليه ، وقرئ " بأية أرض " وشبه سيبويه تأنيثها بتأنيث كل في { كلهن } . { إن الله عليم } يعلم الأشياء كلها . { خبير } يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها .