مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ} (34)

قوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير }

يقول بعض المفسرين إن الله تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك لكن المقصود ليس ذلك ، لأن الله يعلم الجوهر الفرد الذي كان في كثيب رمل في زمان الطوفان ونقله الريح من المشرق إلى المغرب كم مرة ، ويعلم أنه أين هو ولا يعلمه غيره ، ولأن يعلم أنه يوجد بعد هذه السنين ذرة في برية لا يسلكها أحد ولا يعلمه غيره ، فلا وجه لاختصاص هذه الأشياء بالذكر وإنما الحق فيه أن نقول لما قال الله : { اخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده } وذكر أنه كائن بقوله : { إن وعد الله حق } كأن قائلا قال فمتى يكون هذا اليوم فأجيب بأن هذا العلم ما لم يحصل لغير الله ولكن هو كائن ، ثم ذكر الدليلين الذين ذكرناهما مرارا على البعث أحدهما : إحياء الأرض بعد موتها كما قال تعالى : { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قلبه لمبلسين * فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى } وقال تعالى : { ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون } وقال ههنا يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله قادر عليها كما هو قادر على إحياء الأرض حيث قال { وهو الذي ينزل الغيث } وقال : { ويحيي الأرض } وثانيهما : الخلق ابتداء كما قال : { وهو الذي الله الخلق ثم يعيده } وقال تعالى : { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } إلى غير ذلك فقال ههنا { ويعلم ما في الأرحام } إشارة إلى أن الساعة وإن كنت لا تعلمها لكنها كائنة والله قادر عليها ، وكما هو قادر على الخلق في الأرحام كذلك يقدر على الخلق من الرخام ، ثم قال لذلك الطالب علمه : يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها ، فلك أشياء أهم منها لا تعلمها ، فإنك لا تعلم معاشك ومعادك ، ولا تعلم ماذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك ، ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك ، فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون ، فالله ما أعلمك كسب غدك مع أن لك فيه فوائد تبنى عليها الأمور من يومك ، ولا أعلمك أين تموت مع أن لك فيه أغراضا تهيئ أمورك بسبب ذلك العلم وإنما لم يعلمك لكي تكون في وقت بسبب الرزق راجعا إلى الله تعالى متوكلا على الله ولا أعلمك الأرض التي تموت فيها كي لا تأمن الموت وأنت في غيرها ، فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه ، وهي الساعة ، وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون ، وقد أعلمت الله على لسان أنبيائه .

ثم قال تعالى : { إن الله عليم خبير } لما خصص أولا علمه بالأشياء المذكورة ، بقوله : { إن الله عنده علم الساعة } ذكر أن علمه غير مختص بها ، بل هو عليم مطلقا بكل شيء ، وليس علمه علما بظاهر الأشياء فحسب ، بل خبير علمه واصل إلى بواطن الأشياء ، والله أعلم بالصواب .