البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ} (34)

{ إن الله عنده علم الساعة } : يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال : يا رسول الله ، أخبرني عن الساعة متى قيامها ؟ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض ، وقد أبطأت عني السماء ، متى تمطر ؟ وأخبرني عن امرأتي ، فقد اشتملت على ما في بطنها ، أذكر أم أنثى ؟ وعلمت ما علمت أمس ، فما أعمل غداً ؟ وهذا مولدي قد عرفته ، فأين أموت ؟ فنزلت .

وفي الحديث : « خمس لا يعلمهنّ إلا الله » ، وتلا هذه الآية .

وعلم : مصدر أضيف إلى الساعة ، والمعنى : علم يقين ، وفيها : { وينزل الغيث } في آياته من غير تقديم ولا تأخير .

{ ما في الأرحام } من ذكر أم أنثى ، تام أو ناقص ، { وما تدري نفس } ، برة أو فاجرة .

{ ماذا تكسب غداً } من خير أو شر ، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده .

{ بأي أرض تموت } : وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ، ثم تدفن في مكان لم يحظر لها ببال قط .

وأسند العلم إلى الله ، والدراية للنفس ، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة ؛ ولذا وصف الله بالعالم ، ولا يوصف بالداري .

وأما قوله :

لاهم لا أدري وأنت الداري . . .

فقول عربي جلف جاهلي ، جاهل بما يطلق على الله من الصفات ، وما يجوز منها وما يمتنع .

وقرأ الجمهور : { بأي أرض } .

وقرأ موسى الأسواري ، وابن أبي عبلة : بأية أرض ، بتاء التأنيث لإضافتها إلى الموت ، وهي لغة قليلة فيهما .

كما أن كلاًّ إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث ، تقول : كلهنّ فعلن ذلك ، وتدري معلقة في الموضعين .

فالجملة من قوله : { ماذا تكسب } في موضع مفعول { تدري } ، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولاً منصوباً بتدري ، كأنه قال : وما تدري نفس الشيء التي تكسب غداً .

وبأي متعلق بتموت ، والباء ظرفية ، أي : في أي أرض ؟ فالجملة في موضع نصب بتدري .

ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس ، لأنها جواب لسائل سأل ، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو ، وهذه الخمس .