فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ} (34)

{ إن الله عنده علم الساعة } أي : علم وقتها الذي تقوم فيه ، قال الفراء : إن معنى هذا الكلام النفي ، أي : ما يعلمه إلا الله عز وجل ، قال النحاس : وإنما صار فيه معنى النفي ، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو : إنها هذه .

أخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مفاتيح الغيب خمسة ، لا يعلمهن إلا الله ، لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا متى تقوم الساعة إلا الله ، ولا ما في الأرحام إلا الله . وفي الصحيحين ، وغيرهما ، من حديث أبي هريرة في حديث سؤاله عن الساعة ، وجوابه بأشراطها ثم قال : في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا هذه الآية ، أي : لا يدري أحد متى تقوم الساعة في أي سنة : وأي شهر وأي يوم ، وأي ساعة ليلا أو نهارا .

وفي الباب أحاديث ، وعن مجاهد قال : جاء رجل من أهل البادية فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد ؟ وبلادنا مجدبة ، فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت ، وأخبرني متى أموت ؟ فأنزل الله : إن الله عنده علم الساعة الآية ، وعن عكرمة نحوه ، وزاد وقد علمت ما كسبت اليوم ، فماذا أكسب غدا ؟ وزاد أيضا أنه سأل عن قيام الساعة ! وقيل : نزلت في الحرث بن عمرو بن حارث ، من أهل البادية .

{ وينزل الغيث } في الأوقات والأمكنة التي جعلها معينة لإنزاله ، ولا يعلم ذلك غيره ، قرئ من التنزيل والإنزال { ويعلم ما في الأرحام } من الذكور والإناث ، والصلاح والفساد { وما تدري نفس } من النفوس كائنة ما كانت ، من غير فرق بين الملائكة والأنبياء ، والجن والإنس { ماذا تكسب غدا } من كسب دين ، أو كسب دينا ، خير أو شر .

{ وما تدري نفس بأي أرض تموت } وقرئ بأية أرض ، وجوز ذلك الفراء ، وهي لغة ضعيفة ، قال الأخفش : يجوز أن يقال مررت بجارية أي جارية ، والمعنى : ولا تعلم نفس بأي مكان يقضي الله عليها بالموت من الأرض في بر أو بحر ، في سهل ، أو جبل ، وربما أقامت بأرض ، وضربت أوتادها ، وقالت : لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر تموت مكان لم يخطر ببالها .

روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل : من هذا ؟ قال ملك الموت ، قال : كأنه يريدني ، وسأل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح ، ويلقيه ببلاد الهند . ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجبا منه ، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك ، ذكره النسفي في المدارك ، ورأى المنصور في منامه صورة ملك الموت ، وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمس ، فعبرها المعبرون بخمس سنوات ، وبخمسة أشهر ، وبخمسة أيام ، فقال : أبو حنيفة : هو إشارة إلى هذه الآية .

فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله . قال الكرخي : أضاف في الآية إلى نفسه في الثلاثة من الخمسة المذكورة ، ونفى العلم عن العباد في الأخيرتين منها ، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها ، وانتفاء علم العباد بها ، لأن الثلاثة الأولى أمرها أعظم وأفخم ، فخصت بالإضافة إليه تعالى ، والأخيرتان من صفات العباد ، فخصتا بالإضافة إليهم مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الخمس أولى :

{ إن الله عليم } بهذه الأشياء ، وبغيرها من الغيوب { خبير } بما كان وبما يكون وببواطن الأشياء كلها ، ليس علمه محيطا بالظاهر فقط ؟ قال ابن عباس : هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فإنه كفر بالقرآن . وعن الزهري : أكثروا قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب ، والله أعلم ، وفيه رد على المنجم والكاهن ، اللذين يخبران بوقت الغيث والموت وغيرهما .

خاتمة الجزء العاشر

تم بعون الله الجزء العاشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الحادي عشر وأوله سورة السجدة .