قوله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } الآية . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا مسدد ، حدثنا معمر قال سمعت أبي يقول : إن أنسا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار النبي صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنها نزلت : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } . ويروى أنها لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم ( فاصطلحوا ) وكف بعضهم عن بعض . وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مماراة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، ولم يكن بينهما قتال بالسيوف . وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل ، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية وحبسها ، فبلغ ذلك قومها فجاؤوا ، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل الله عز وجل : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما ، { فإن بغت إحداهما } تعدت إحداهما ، { على الأخرى } وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله ، { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء } ترجع { إلى أمر الله } في كتابه وحكمه ، { فإن فاءت } رجعت إلى الحق ، { فأصلحوا بينهما بالعدل } بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله ، { وأقسطوا } اعدلوا . { إن الله يحب المقسطين* }
{ 9-10 } { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
هذا متضمن لنهي المؤمنين ، [ عن ] أن يبغي بعضهم على بعض ، ويقاتل{[798]} بعضهم بعضًا ، وأنه إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين ، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير ، بالإصلاح بينهم ، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح ، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك ، فإن صلحتا ، فبها ونعمت ، وإن { بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي : ترجع إلى ما حد الله ورسوله ، من فعل الخير وترك الشر ، الذي من أعظمه ، الاقتتال ، [ وقوله ] { فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } هذا أمر بالصلح ، وبالعدل في الصلح ، فإن الصلح ، قد يوجد ، ولكن لا يكون بالعدل ، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين ، فهذا ليس هو الصلح المأمور به ، فيجب أن لا يراعى أحدهما ، لقرابة ، أو وطن ، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض ، التي توجب العدول عن العدل ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات ، التي تولوها ، حتى إنه ، قد يدخل في ذلك عدل الرجل في أهله ، وعياله ، في أدائه حقوقهم ، وفي الحديث الصحيح : " المقسطون عند الله ، على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم ، وما ولوا "
ثم انتقلت السورة إلى دائرة أوسع وأرحب ، فدعت المؤمنين إلى التدخل بين الطوائف المتنازعة لقعد المصالحة بينها ، وإلى قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله - تعالى - فقال - سبحانه - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين . . . لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
وقد ذكروا فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها : ما رواه الإِمام أحمد عن أنس قال : قيل للنبى - صلى الله عليه وسلم - لو أتيت عبد الله بن أبى ؟ فانطلق إليه النبى - صلى الله عليه وسلم وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهى أرض سبخة ، فلما انطلق إليه - عليه الصلاة والسلام - قال إليكم عنى ، فو الله لقد آذانى ريح حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك .
قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، وغضب للأنصارى أصحابه . قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدى . . فبلغنا أنه أنزلت فيهم { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين . . } .
والخطاب فى الآية لأول الأمر من المسلمين ، والأمر فى قوله { فَأَصْلِحُواْ } للوجوب ، والطائفة : الجماعة من الناس .
أى : وإن حدث قتال بين طائفتين من المؤمنين ، فعليكم يا أولى الأمر من المؤمنين أن تتدخلوا بينهما بالإِصلاح ، عن طريق بذل النصح ، وإزالة أسباب الخلاف .
والتعبير " بإن " للإِشعار بأنه لا يصح أن يقع قتال بين المؤمنين ، فإن وقع على سبيل الندرة ، فعلى المسلمين أن يعملوا بكل وسيلة على إزالته .
وجاء " إقتتلوا " بلفظ الجمع ، لأن لفظ الطائفة وإن كان مفردا فى اللفظ إلا أنه جمع فى المعنى ، فروعى فيه المعنى هنا . وروعى فيه اللفظ فى قوله { بَيْنَهُمَا } .
قالوا : والنكنة فى ذلك أنهم فى حال القتال يكونون مختلطين فلذا جاء الاسلوب بصيغة الجمع ، وفى حال الصلح يكونون متميزين متفرقين فلذا جاء الأسلوب بصيغة التثنية .
ثم بين - سبحانه - حكمه فى حال اعتداء إحداهما على الأخرى فقال : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } .
والبغى : التعدى وتجاوز الحد والامتناع عن قبول الصلح المؤدى إلى الصواب .
أى : فإن بغت إحدى الطائفتين على الأخرى ، وتجاوزت حدود العدل والحق ، فقاتلوا - أيها المؤمنون - الفتة الباغية ، حتى تفئ وترجع إلى حكم الله - تعالى - وأمره ، وحتى تقبل الصلح الذى أمرناكم بأن تقيموه بينهم .
وقوله : { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الفئة الباغية ، إذا ما قبلت الصلح ورجعت إلى حكم الله - تعالى - .
أى : فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها ، وقبلت الصلح ، وأقلعت عن القتال ، فأصلحوا بين الطائفتين إصلاحا متسما بالعدل التام وبالقسط الكامل .
وقيد - سبحانه - الإِصلاح بالعدل . ثم أكد ذلك بالأمر بالقسط حتى يلتزم الذين يقومون بالصلح بينهما العدالة الى لا يشوبها أى حيف أو جور على إحدى الطائفتين .
وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } تذييل المقصود به حض المؤمنين على التقيد بالعدل فى أحكامهم ، لأن الله - تعالى - يحب من يفعل ذلك .
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } تقاتلوا والجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع . { فأصلحوا بينهما } بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى . { فإن بغت إحداهما على الأخرى } تعدت عليها . { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ترجع إلى حكمه أو ما أمر به ، وإنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس ، والغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين . { فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل } بفصل ما بينهما على ما حكم الله ، وتقييد الإصلاح بالعدل ها هنا لأنة مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة . { وأقسطوا } واعدلوا في كل الأمور . { إن الله يحب المقسطين } يحمد فعلهم بحسن الجزاء . والآية نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج في عهده عليه الصلاة والسلام بالسعف والنعال ، وهي تدل على أن الباغي مؤمن وأنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر الله تعالى ، وأنه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة .