33- ولكلٍّ من الرجال والنساء جعلنا مستحقين لتركتهم يكونون خلفاء لهم ، وهم الوالدان والأقربون والذين عقد المتوفى لهم عقداً مقتضاه أن يرثوه إذا مات من غير قرابة ، وينصروه إذا احتاج إلى نصرتهم في مقابل ذلك ، فآتوا كل ذي حق حقه ولا تنقصوه شيئاً ، إن الله كان رقيباً على كل شيء ، حاضراً معكم ، يشهد ما تتصرفون به .
قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي } . أي : ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا موالي ، أي : عصبة يعطون .
قوله تعالى : { مما ترك الوالدان والأقربون } ، الوالدان والأقربون هم المورثون ، وقيل : معناه ( ولكل جعلنا موالي ) . أي : ورثة ، ( مما ترك ) . أي : من الذين تركوهم ، ويكون " ما " بمعنى " من " ثم فسر الموالي فقال : ( الوالدان والأقربون ) . أي هم الوالدان والأقربون ، فعلى هذا القول : { الوالدان والأقربون } هم الوارثون .
قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم } ، قرأ أهل الكوفة { عقدت } بلا ألف ، أي : عقدت لهم أيمانكم ، وقرأ الآخرون : { عقدت أيمانكم } . والمعاقدة : المحالفة ، والمعاهدة ، والأيمان جمع يمين ، من اليد والقسم ، وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد . ومحالفتهم أن الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من مال الحليف ، وكان ذلك في ابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى : { فآتوهم نصيبهم } أي : أعطوهم حظهم من الميراث ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأحزاب :6 ] . وقال إبراهيم ومجاهد : أراد ( فآتوهم نصيبهم ) من النصر والرفد ، ولا ميراث لهم ، وعلى هذا تكون هذه الآية غير منسوخة لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } [ المائدة :1 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم فتح مكة : { لا تحدثوا حلفاً في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا فيه فإنه لم يزيده الإسلام إلا شدة } . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون الرحم فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ، ثم قال : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصر ، والرفادة ، والنصيحة . وقد ذهب الميراث فيوصي له . وقال سعيد بن المسيب : كانوا يتوارثون التبني وهذه الآية فيه ثم نسخ . { إن الله كان على كل شيء شهيداً }
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }
أي : { وَلِكُلٍّ } من الناس { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي : يتولونه ويتولاهم بالتعزز والنصرة والمعاونة على الأمور . { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وهذا يشمل سائر الأقارب من الأصول والفروع والحواشي ، هؤلاء الموالي من القرابة .
ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة والاشتراك بالأموال وغير ذلك . وكل هذا من نعم الله على عباده ، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا .
قال تعالى : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله . والميراث للأقارب الأدنين من الموالي .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } أي : مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور ، وبصره لحركات عباده ، وسمعه لجميع أصواتهم .
ثم قال - تعالى { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } .
والمضاف إلى كل هنا محذوف عوض عنه التنوين . والتقدير ولكل إنسان أو لكل قوم أو لكل من مات ، أو لكل من الرجال والنساء .
والموالى : جمع مولى . لفظ مشترك بين معان ، فيقال للسيد المعتق لعبده مولى ، لأنه ولى نعمته فى عتقه له . ويقال للعبد العتيق مولى لاتصال ولاية مولاه فى إنعامه عليه كما يقال لكل من الحليف والنصير والقريب مولى . ويقال لعصبة الشخص موالى .
قال الفخر الرازى : والمراد بالموالى هنا العصبة . ويؤكد ذلك ما رواه أبو صالح عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولى بالمؤمنين . من مات وترك مالا فماله للموالى العصبة . ومن ترك كلا فأنا وليه " وقال - عليه الصلاة والسلام - " اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر " .
هذا ، وللمفسرين فى تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متعددة منها أن المعنى :
1- ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا ورثة عصبة ، يرثون مما تركه الوالدان والأقربون من المال .
2- أو المعنى : ولكل من مات من الرجال والنساء جعلنا مالى أى ورثة يقتسمون تركته عن طريق الإِرث ، ولا حق للحليف فيها لأنه ليس من عصبة هذا الميت .
3- أو المعنى : ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالى أى ورثة يلونه ويجوزونه بعد أن يأخذ أصحاب الفروض نصيبهم .
وعلى هذه الوجوه يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من مواليهم أى عصبتهم .
4- قال الفخر الرازى : ويمكن أن تفسر الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الورثة ، فيكون المعنى :
ولكل واحد جعلنا ورثة فى تركته . ثم كأنه قيل : ومن هؤلاء الورثة ؟ فقيل . هم الوالدان والأقربون . وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله { مِمَّا تَرَكَ } :
هذا وتفسير الآية الكريمة بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من عصبتهم هو الأولى ، لأنه هو الظاهر فى معنى الآية ، وعليه سار جمهور المفسرين ، فقد قال ابن جرير : " فالموالى ها هنا : الورثة . ويعنى بقوله { مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } مما تركه والداه وأقرباؤه من الميراث . فتأويل الكلام ، ولكل منكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون مما ترك والداه وأقرباؤه من ميراثهم .
وقال صاحب الكشاف : قوله { مِمَّا تَرَكَ } تبين لكل . أى : ولكل شئ مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا موالى أى ورثة يلونه ويحرزونه ، أو ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون . على أن { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } صفة لكل ، والضمير الراجع إلى كل محذوف ، والكلام مبتدأ أو خبر . كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله . أى حظ من رزق الله .
وقال القرطبى : بين الله - تعالى - أن لكل إنسان ورثة وموالى ، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ولا يتمن مال غيره .
وقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر . وجئ بالفاء فى الخبر وهو قوله { فَآتُوهُمْ } لتضمن المبتدأ معنى الشرط .
وقوله { عَقَدَتْ } من العقد وهو الشد والربط والتوكيد والتغليظ ، ومنه قولهم : عقد العهد يعقده ، أى : شدة وأكده .
والأيمان : جمع يمين والمراد به هنا أيديهم اليمنى ، وإسناد العقد إليها على سبيل المجاز ، لأنهم كانوا عندما يؤثقون عقدا يضع كل واحد منهم يده فى يد الآخر ، ليكون ذلك علامة على انبرام العقد وتأكيده . ومن هنا قيل للعقود الصفقات لأن كل عاقد يصفق بيمنه على يميمن الآخر .
ويصح أن يكون المراد بالأيمان هنا الأقسام التى كانوا يقسمونها ويحلفونها عند التعاقد على شئ يهمهم أمره .
وقد قرأ عصام وحمزة والكسائى { عقدت أيمانكم } وقرأ الياقون { عاقدت أيمانكم } وعلى كلتا القراءتين فالمفعول محذوف أى والذين عقدت حلفهم أيمانكم أو عاقدتهم أيمانكم .
وللعلماه فى المرد بقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أقوال منها :
1- أن المراد بهم الحلفاء وهم موالى الموالاة وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ ، وقد ورد فى ذلك آثار منها ما أخرجه ابن جرير وغيره من قتادة قال : قوله تعالى - : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } كان الرجل يعاقد الرجل فى الجاهلية فيقول : دمى دمك ، وهدمى هدمك . . أى مهدومى مهدومك وترثنى وأرثك ، وتلطب بى وأطلب بك ، فجعل له السدس من جميع المال في الإِسلام ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم .
فنسخ ذلك بعد فى سورة الأنفال فقال الله - تعالى - { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } 2- ويرى بعضهم أن المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبنى ، وكانوا يتوارثون بسبب ذلك ، ثم نسخه بآية سورة الأنفال السابقة .
3- ويرى فريق ثالث أن المراد بهم إخوان المؤاخاة ، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يؤاخى بين الرجلين من أصحابه وكانت تلك المؤاخاة سببا فى التوارث ثم نسخ ذلك بآية الآنفال السابقة .
4- وقال أبو مسلم الأصفهانى : المراد بهم الأزواج ، إذ النكاح يسمى عقدا .
والذى نراه أولى هو القول الأول لكثرة الآثار التى تؤيده ، ولأنه هو الذى رجحه جمهور المفسرين ، وعليه يكون المعنى : والذين عقدت حلفهم أيمانكم وهو الذين تحالفتم معهم على التناصير وغيره { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أى فأعطوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود .
قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة . وأولى الأقوال بالصواب فى تأويل قوله - تعالى - { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قول من قال : والذين عقدت أيمانكم على المحالفة ، وهم الحلفاء ، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها : أن عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق على نحو ما قد ذكرنا من الروايات فى ذلك .
وقال ابن كثير : وقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أى والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم فى الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم فى تلك العقود والمعاهدات . وقد كان هذا فى ابتداء الإِسلام ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا من عاقدوا ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } أى إن الله - تعالى - كان وما زال عالما بجميع الأشياء ، ومطلعا على جبلها وخفيها ، وسيجازى الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب . وسيجازى الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب . وسيجازى الذين ينحرفون عنها بما يستحقون من عقاب .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به الوعد لمن أطاع الله والوعيد لمن عصاه .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وأبو صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم في قوله : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي : ورثة . وعن ابن عباس في رواية : أي عَصَبة . قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى ، كما قال الفضل بن عباس :
مَهْلا بني عَمّنا مَهْلا مَوالينا *** لا تُظْهِرَن لنا ما كان مدفُونا{[7400]}
قال : ويعني بقوله : { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } من تركة والديه وأقربيه من الميراث ، فتأويل الكلام : ولكلكم - أيها الناس - جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له .
وقوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ{[7401]} أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة - أنتم وهم - فآتوهم نصيبهم من الميراث ، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات ، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة .
قال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا أبو أسامة ، عن إدريس ، عن طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } قال : ورثة ، { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري ، دون ذوي رحمه ؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } نُسخت ، ثم قال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد{[7402]} ذهب الميراث ويُوصي له .
ثم قال البخاري : سمع أبو أسامة إدريس ، وسمع إدريس عن طلحة{[7403]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأوديّ ، أخبرني طلحة بن مُصَرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ] }{[7404]} الآية ،
قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري ، دون ذوي رحمه ؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت هذه الآية : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } نُسخت . ثم قال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }
وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حَجّاج ، عن ابن جُرَيْج - وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ، يقول : ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ ، فلا يَزِيدُه الإسلامُ إلا شدَّةً ، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ " . فنسختها هذه الآية : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ الأنفال : 75 ] .
ثم قال : وروي عن سعيد بن المُسَيَّب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وسعيد بن جُبَيْر ، وأبي صالح ، والشَّعْبِي ، وسليمان بن يَسار ، وعكرمة ، والسُّدِّي ، والضَّحَّاك ، وقتادة ، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا : هم الحلفاء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا شَريك ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس - ورفعه - قال : " ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا حدة وشدة " {[7405]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحدثنا أبو كريب ، حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل عن يونس ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حِلْفَ في الإسلام ، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شِدَّة ، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة " هذا لفظ ابن جرير{[7406]} .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " شهِدتُ حِلْف المُطيَّبين ، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي ، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا أنكثُهُ " . قال الزهري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يُصب الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً " . قال : " ولا حِلْف في الإسلام " . وقد ألف{[7407]} النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار .
وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، بتمامه{[7408]} .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرني مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، قال : فقال : " ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به ، ولا حِلْفٍ في الإسلام " .
وكذا رواه أحمد عن هشيم{[7409]} .
وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع ، عن داود بن أبي عبد الله ، عن ابن جُدْعان ، عن جدته ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حِلْف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدَّةً " {[7410]} .
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال : " يا أيها الناس ، ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية ، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً ، ولا حِلْفَ في الإسلامِ " .
ثم رواه من حديث حسين المعلم ، وعبد الرحمن بن الحارث ، عن عَمْرو بن شعيب ، به{[7411]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة ، عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا حِلْفَ في الإسْلامِ ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً " .
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد ، وهو أبو بكر بن أبي شيبة ، بإسناده ، مثله . ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة ، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة ، ثلاثتهم عن زكريا - وهو ابن أبي زائدة{[7412]} - بإسناده ، مثله .
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر ، به . ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، به{[7413]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، قال : مغيرة أخبرني ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، فقال : " ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به ، ولا حِلْفَ في الإسْلامِ " .
وكذا رواه شعبة ، عن مغيرة - وهو ابن مِقْسَم - عن أبيه ، به .
وقال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع ، مع ابن ابنها موسى بن سعد - وكانت يتيمة في حجر أبي بكر - فقرأت عليها { وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } فقالت : لا ولكن : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } قالت : إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن ، حين أبى أن يسلم ، فحلف أبو بكر أن لا يورثه ، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه .
رواه ابن أبي حاتم ، وهذا قول غريب ، والصحيح الأول ، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف ، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك ، وإن كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود والعهود ، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة : لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .
وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم{[7414]} كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، رحمه{[7415]} الله .
والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } أي : ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه ، وهم يرثونه دون سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها ، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ " {[7416]} أي : اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض ، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة ، وقوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم ، أي من الميراث ، فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له .
وقد قيل : إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل ، وحكم الماضي أيضا ، فلا توارث به ، كما قال ابن أبي حاتم .
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأودي ، أخبرني طلحة بن مُصَرّف ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قال : من النصرة والنصيحة والرّفادة ، ويوصي له ، وقد ذهب الميراث .
ورواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، نحو ذلك .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ } قال : كان الرجل يعاقد الرجل ، أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله : { وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا } [ الأحزاب : 6 ] . يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، وذلك هو المعروف .
وهذا نص غير واحد من السلف : أنها منسوخة بقوله : { وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا }
وقال سعيد بن جبير : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : من الميراث . قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه . رواه ابن جرير .
وقال الزهري عن سعيد بن المسيب : أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ، يورثونهم ، فأنزل الله فيهم ، فجعل لهم نصيبا في الوصية ، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم ، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية . رواه ابن جرير .
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : من النصرة والنصيحة والمعونة ، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث - حتى تكون الآية منسوخة ، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط ، فهي محكمة لا منسوخة .
وهذا الذي قاله فيه نظر ، فإن من الحلف ما كان على المناصرة{[7417]} والمعاونة ، ومنه ما كان على الإرث ، كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه ، حتى نسخ ذلك ، فكيف يقول : إن هذه الآية محكمة غير منسوخة{[7418]} ؟ ! والله أعلم .
«كل » إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر ، فهي بمثابة قبل وبعد ، ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل ، على حد قبل وبعد ، فالمقدر هنا على قول فرقة ، ولكل أحد وعلى قول فرقة «ولكل شيء » يعني : التركة ، والمولى في كلام العرب : لفظة يشترك فيها القريب القرابة ، والصديق ، والحليف ، والمعتَق ، والمعتِق ، والوارث ، والعبد ، فيما حكى ابن سيده ، ويحسن هنا من هذا الاشتراك الورثة ، لأنها تصلح على تأويل «ولكل أحد » ، وعلى تأويل ، «ولكل شيء » وبذلك فسر قتادة والسدي وابن عباس وغيرهم : أن «الموالي » : العصبة والورثة ، قال ابن زيد : لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيهاً ، وذلك في قول الله تعالى : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم }{[3992]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد سمي قوم من العجم ببني العم ، و { مما } متعلقة «بشيء » ، تقديره ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة ، وهي متعلقة على تأويل «ولكل أحد » بفعل مضمر تقديره : ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون ، ويحتمل على هذا أن تتعلق «من » ب { موالي } ، وقوله : { والذين } رفع بالابتداء والخبر في قوله : { فآتوهم } وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر «عاقدت » على المفاعلة أي : أيمان هؤلاء عاقدت أولئك ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقَدت » بتخفيف القاف على حذف مفعول ، تقديره : عقدت إيمانكم حلفهم أو ذمتهم ، وقرأ حمزة في رواية على ابن كيشة{[3993]} عنه «عقّدت » مشددة القاف ، واختلف المتأولون في من المراد ب { الذين } ، فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم : هم الأحلاف ، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف فشدد الله ذلك بهذه الآية ، ثم نسخه بآية الأنفال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله }{[3994]} وقال ابن عباس أيضاً : هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم ، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم .
قال القاضي أبو محمد : وورد لابن عباس : أن المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم ، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فنزلت الآية في ذلك ناسخة ، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة ، أو من المال على جهة الندب في الوصية ، وقال سعيد بن المسيب : هم الأبناء الذين كانوا يتبنون ، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث ، وقال ابن عباس أيضاً : هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث ، وروي عن الحسن : أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان ، و { شهيداً } معناه : أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة ، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة .
الجملة معطوفة على جملة { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] باعتبار كونه جامعاً لمعنى النهي عن الطمع في مال صاحب المال ، قُصد منها استكمال تبيين من لهم حقّ في المال .
وشأنُ ( كُلّ ) إذا حذف ما تضاف إليه أن يعوّض التنوين عن المحذوف ، فإن جرى في الكلام ما يدلّ على المضاف إليه المحذوف قُدّر المحذوف من لفظه أو معناه ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولكل وجهة } في سورة البقرة ( 148 ) ، وكذلك هنا فيجوز أن يكون المحذوف ممّا دلّ عليه قوله - قبله - { للرجال نصيب وللنساء نصيب } [ النساء : 7 ] فيقدّر : ولكلّ الرجال والنساء جعلنا موالَي ، أو لكلّ تاركٍ جعلنا موالي .
ويجوز أن يقدّر : ولكلّ أحد أو شيء جعلنا موالي .
والجعل من قوله : { جعلنا } هو الجعل التشريعي أي شَرعْنا لكلّ موالي لهم حقّ في ماله كما في قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } [ الإسراء : 33 ] .
والموالي جمعُ مَولى وهو محلّ الوَلْيِ ، أي القرب ، وهو مَحلّ مجازي وقرب مجازي . والولاء اسم المصدر للوَلْي المجازي .
وفي نظم الآية تقادير جديرة بالاعتبار ، وجامعة لمعان من التشريع :
الأوّل : ولِكلّ تاركٍ ، أي تارك مالا جعلنا موالي ، أي أهل ولاء له ، أي قرب ، أي ورثة . ويتعلّق { مما ترك } بما في موالي من معنى يَلُونه ، أي يرثونه ، ومِن للتبعيض ، أي يرثون ممّا ترك . وما صدق ( ما ) الموصولة هو المال ، والصلة قرينة على كون المراد بالموالي الميراث ، وكون المضاف إليه ( كلّ ) هو الهالك أو التارك . { ولكل } متعلّق ب ( جعلنا ) ، قدّم على متعلّقه للاهتمام .
وقوله : { الوالدان } استئناف بياني بيّن به المراد في ( موالي ) ، ويصلح أن يبيّن به كلّ المقدّر له مضاف . تقديره : لكلّ تارك . وتبيين كلا اللفظين سواءٌ في المعنى ، لأنّ التارك : والد أو قريب ، والموالي : والدون أو قرابة . وفي ذِكر { الوالدان } غنية عن ذكر الأبناء لتلازمهما ، فإن كان الوالدان من الورثة فالهالك ولد وإلاّ فالهالك والد . والتعريف في { الوالدان والأقربون } عوض عن مضاف إليه أي : والداهم وأقربوهم ، والمضاف إليه المحذوفُ يدلّ عليه الموالي ، وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } [ النساء : 32 ] ، أي ولكلّ من الصنفين جعلنا موالي يرثونه ، وهو الجَعل الذي في آيات المواريث .
والتقدير الثاني : ولكلّ شيء ممّا تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي قوماً يلونه بالإرث ، أي يرثونه ، أي يكون تراثاً لهم ، فيكون المضاف إليه المحذوف اسماً نكرة عامّا يبيّن نوعه المقام ، ويكون { مما ترك } بيانا لما في تنوين ( كلّ ) من الإبهام ، ويكون { والأقربون } فاعلا ( لتَرَك ) .
وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله : { ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] أي في الأموال ، أي ولكلّ من الذين فضّلنا بعضهم على بعض جعلنا موالي يؤول إليهم المال ، فلا تتمنّوا ما ليس لكم فيه حقّ في حياة أصحابه ، ولا ما جعلناه للموالي بعد موت أصحابه .
التقدير الثالث : ولكلّ منكم جعلنا موالي ، أي عاصبين من الذين تركهم الوالدان ، مثل الأعمام والأجداد والأخوالِ ، فإنّهم قرباء الأبوين ، وممّا تركهم الأقربون مثل أبناء الأعمام وأبنائهم وإن تعدّدوا ، وأبناء الأخوات كذلك ، فإنّهم قرباء الأقربين ، فتكون الآية مشيرة إلى إرجاع الأموال إلى العصبة عند الجمهور ، وإلى ذوي الأرحام عند بعض الفقهاء ، وذلك إذا انعدم الورثة الذين في آية المواريث السابقة ، وهو حكم مجمل بيّنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأوْلى رجلٍ ذكر » وقوله : « ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم » رواه أبو داود والنسائي ، وقوله : « الخال وارثُ من لا وارث له » أخرجه أبو داود والترمذي ، وقوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] ، وبذلك أخذ أبو حنيفة ، وأحمد ، وعليه ف ( ما ) الموصولة في قوله : { مما ترك } بمعنى ( من ) الموصولة ، ولا بدع في ذلك . وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله تعالى بعد آية المواريث { تلك حدود الله } [ البقرة : 187 ] فتكون تكملة لآية المواريث .
التقدير الرابع : ولكلّ منكم أيّها المخاطبون بقولنا : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] جعلنا موالي ، أي شَرَعْنا أحكام الولاء لمن هم موال لكم ، فحكم الولاء الذي تركه لكم أهاليكم : الوالدان والأقربون ، أي أهل الولاء القديم في القبيلة المنجرّ من حلف قديم ، أو بحكم الولاء الذي عاقدتْه الأيمان ، أي الأحلاف بينكم وبينهم أيّها المخاطبون ، وهو الولاء الجديد الشامل للتبنّي المحدث ، وللحلف المحدث ، مثل المؤاخاة التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار . فإنّ الولاء منه ولاء قديم في القبائل ، ومنه ما يتعاقد عليه الحاضرون ، كما اشار إليه أبو تمّام .
أعطيت لي دية القتيل وليس لي *** عقل ولا حلف هناك قَدِيمُ
وعلى هذا التقدير يكون { والذين عاقدت أيمانكم } معطوفة على { الوالدان والأقربون } وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله تعالى : { تلك حدود الله } [ البقرة : 187 ] فتكون هذه الآية تكملة لآيات المواريث .
وللمفسّرين تقادير أخرى لا تلائم بعض أجزاء النظم إلا بتعسّف فلا ينبغي التعريج عليها .
وقوله : { والذين عاقدت أيمانكم } قيل معطوف على قوله : { الوالدان والأقربون } ، وقيل هو جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كأنّه قيل : من هم الموالي ؟ فقيل : { الوالدان والأقربون } الخ ، على أنّ قوله : { فأتاهم نصيبهم } خبر عن قوله : { والذين عاقدت } . وأدخلت الفاء في الخبر لتضمّن الموصول معنى الشرط ، ورجّح هذا بأنّ المشهور أنّ الوقت على قوله : { والأقربون } وليس على قوله : { أيمانكم } . والمعاقدة : حصول العقد من الجانبين ، أي الذين تعاقدتم معهم على أن يكونوا بمنزلة الأبناء أو بمنزلة الإخْوَة أو بمنزلة أبناء العمّ .
والأيمان جمع يَمين : إمّا بمعنى اليد ، أسند العقد إلى الأيدي مجازاً لأنّها تقارن المتعاقديِن لأنّهم يضعون أيدي بعضهم في أيدي الآخرين ، علامة على انبرام العقد ، ومن أجل ذلك سمّي العقد صَفقة أيضاً ؛ لأنّه يصفّق فيه اليَدُ على اليد ، فيكون من باب { أو ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 3 ] ؛ وإمَّا بمعنى القَسَم لأنّ ذلك كان يَصحبه قَسَم ، ومن أجل ذلك سمّي حِلْفا ، وصاحبه حَليفاً . وإسناد العقد إلى الأيمان بهذا المعنى مجاز أيضاً ؛ لأنّ القسم هو سبب انعقاد الحلف .
والمراد ب { الذين عاقَدَتْ أيمانكم } : قيل موالي الحلف الذي كان العرب يفعلونه في الجاهلية ، وهو أن يَحالف الرجل الآخر فيقول له « دمي دَمُك وهَدْمي هَدْمُك أي إسقاط أحدهما للدم الذي يستحقّه يمضي على الآخر وثَأرِي ثَأرُكَ وحَرْبي حَرْبُك وسلْمي سلْمُك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك » . وقد جمع هذين الصنفين من الموالي الحُصَين بن الحُمَاممِ من شعراء الحماسة في قوله :
مواليكمُ مولَى الوِلاَدَةِ منكمُ . . . ومولَى اليمين حَابِس قد تُقِسِّمَا
قيل : كانوا جعلوا للمولى السدس في تركة الميت ، فأقرّته هذه الآية ، ثم نسختها آية الأنفال : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن جبير ، ولعلّ مرادهم أنّ المسلمين جعلوا للمولَى السدس وصية لأنّ أهل الجاهلية لم تكن عندهم مواريث معيّنة . وقيل : نزلت هذه الآية في ميراث الإخوة الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم من المهاجرين والأنصار في أول الهجرة ، فكانوا يتوارثون بذلك دون ذوي الأرحام ، ثم نسخ الله ذلك بآية الأنفال ، فتكون هذه الآية منسوخة . وفي أسباب النزول للواحدي ، عن سعيد بن المسيّب ، أنّها نزلت في التبنّي الذي كان في الجاهلية ، فكان المتبنَّي يرث المتبنِّي ( بالكسر ) مثل تبنّي النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة الكلبي ، وتبنّي الأسود بن عبد يغوث المقداد الكَندي ، المشهور بالمقداد بن الأسود ، وتبنّي الخطاب بن نُفَيل عامراً بنَ ربيعة ، وتبنّي أبي حُذيفة بن عتبة بن ربيعة سالماً بن معقل الأصطخري ، المشهور بسالمٍ مولى أبي حذيفة ، ثم نسخ بالمواريث . وعلى القول بأنّ { والذين عاقدت أيمانكم } جملة مستأنفة فالآية غير منسوخة ؛ فقال ابن عباس في رواية ابن جبير عنه في « البخاري » هي ناسخة لتوريث المتآخِين من المهاجرين والأنصار ، لأنّ قوله : { مما ترك الوالدان والأقربون } حَصَر الميراث في القرابة ، فتعيّن على هذا أنّ قوله : { فأتوهم نصيبهم } أي نصيب الذين عاقدت أيمانُكم من النصر والمعونة ، أو فآتوهم نصيبهم بالوصية ، وقد ذهب الميراث . وقال سعيد بن المسيّب : نزلت في التبنّي أمراً بالوصية للمتبنَّى . وعن الحسن أنّها في شأن الموصَى له إذا مات قبل موت المُوصي أن تجعل الوصية لأقاربه لزوماً .
وقرأ الجمهور : { عاقدت } بألف بعد العين . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : { عَقَدَتْ بدون ألف ومع تخفيف القاف .
والفاءُ في قوله : { فأتوهم نصيبهم } فاءُ الفصيحةِ على جعل قوله : { والذين عاقدت أيمانكم } معطوفاً على { الوالدان والأقربون } ، أو هي زائدة في الخبر إن جعل { والذين عقدت } مبتدأً على تضمين الموصول معنى الشرطية . والأمر في الضمير المجرور على الوجهين ظاهر .