64- قل - يا أيها النبي : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم نذكرها على السواء ، وهي أن نخص الله بالعبادة ولا نجعل غيره شريكاً له فيها ، ولا يطيع بعضنا بعضاً وينقاد له في تحليل شيء أو تحريمه ، تاركاً حكم الله فيما أحلَّ وحرَّم ، فإن أعرضوا عن هذه الدعوة الحقة فقولوا لهم : اشهدوا بأنا منقادون لأحكام الله ، مخلصون له الدين لا ندعو سواه .
قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } الآية . قال المفسرون : قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود ، فاختصموا في إبراهيم عليه السلام ، فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه ، وأولى الناس به ، وقالت اليهود بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه ، بل كان حنيفاً مسلما ، ً وأنا على دينه ، وأولى الناس به ، فاتبعوا دينه دين الإسلام ، فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى رباً ؟ وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟ فأنزل الله تعالى : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ) والعرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ، ومنه سميت القصيدة كلمة ( سواء ) عدل بيننا وبينكم مستوية ، أي أمر مستو يقال : دعا فلان إلى السواء ، أي إلى النصفة ، وسواء كل شيء وسطه ، ومنه قوله تعالى : ( فرآه في سواء الجحيم ) وإنما قيل للنصفة سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها سواء نعت لكلمة إلا أنه مصدر ، والمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا كسرت أو ضممت قصرت ، كقوله تعالى ( مكاناً سوى ) ثم فسر الكلمة فقال :
قوله تعالى : { أن لا نعبد إلا الله } ومحل ( أن ) رفع على إضمار هي ، وقال الزجاج : رفع بالابتداء ، وقيل : محله نصب بنزع حرف الصلة ، معناه بأن لا نعبد إلا الله ، وقيل : محله خفض بدلاً من الكلمة ، أي تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله .
قوله تعالى : { ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } كما فعلت اليهود والنصارى ، قال الله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) ، وقال عكرمة : هو سجود بعضهم لبعض ، أي لا نسجد لغير الله ، وقيل معناه : لا نطيع أحدا في معصية الله .
قوله تعالى : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا } أي فقولوا أنتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم اشهدوا .
قوله تعالى : { بأنا مسلمون } مخلصون بالتوحيد .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان الحكم ابن نافع ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ، وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش ، فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسة وحوله عظماء الروم ، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية بن خليفة الكلبي ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري ، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولا اشهدوا بأنا مسلمون ) " .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
أي : قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } أي : هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون ، ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون ، ليست مختصة بأحدنا دون الآخر ، بل مشتركة بيننا وبينكم ، وهذا من العدل في المقال والإنصاف في الجدال ، ثم فسرها بقوله { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } فنفرد الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء ولا نشرك به نبيا ولا ملكا ولا وليا ولا صنما ولا وثنا ولا حيوانا ولا جمادا { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله ، فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق ، لأن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية ، فإذا دعي أهل الكتاب أو غيرهم إلى ذلك ، فإن أجابوا كانوا مثلكم ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، وإن تولوا فهم معاندون متبعون أهواءهم فاشهدوهم أنكم مسلمون ، ولعل الفائدة في ذلك أنكم إذا قلتم لهم ذلك وأنتم أهل العلم على الحقيقة ، كان ذلك زيادة على إقامة الحجة عليهم كما استشهد تعالى بأهل العلم حجة على المعاندين ، وأيضا فإنكم إذا أسلمتم أنتم وآمنتم فلا يعبأ الله بعدم إسلام غيركم لعدم زكائهم ولخبث طويتهم ، كما قال تعالى { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا } الآية وأيضا فإن في ورود الشبهات على العقيدة الإيمانية مما يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن بإسلامه ، إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه .
ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء عاما إلى أهل الكتاب دعاهم فيه - فى بضع آيات متوالية - إلى عبادة الله وحده ، وإلى ترك المحاجة الباطلة فى شأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وإلى الإقلاع عن الكفر بآيات الله وعن تلبيس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق مع علمهم بأنه حق . .
استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه النداءات داعيا أهل الكتاب إلى كلمة الحق فيقول : { قُلْ يا أهل . . . } .
أنت ترى أن القرآن الكريم قد وجه إلى أهل الكتاب أربع نداءات فى هذه الآيات الكريمة أما النداء الأول فقد طلب منهم فيه أن يتوبوا إلى رشدهم ، وأن يخلصوا لله العبادة فقال { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } .
والسواء : العدل والنصفة ، أى قل يا محمد لأهل الكتاب : هلموا وأقبلوا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم .
أو السواء : مصدر مستوية أى هلموا إلى كلمة لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة والعقول السليمة ، لأنها كلمة عادلة مستقيمة ليس فيها ميل عن الحق .
ثم بين - سبحانه - هذه الكلمة العادلة المستقيمة التى هى محل اتفاق بين الأنبياء فقال : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله } أى نترك نحن وأنتم عبادة غير الله ، بأن نفرده وحده بالعبادة والطاعة والإذعان .
{ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } أى ولا نشرك معه أحدا فى العبادة والخضوع ، بأن نقول : فلان إله ، أو فلان ابن إله ، أو أن الله ثالث ثلاثة .
{ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } أى ولا يطيع بعضنا بعضا فى معصية الله . قال الآلوسى : ويؤيده ما أخرجه الترمذى وحسنه من حديث عدى بن حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قال : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " أما كانوا يحلون منكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟ قال : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم هو ذاك " قيل إلى هذا أشار - سبحانه - بقوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } فالآية الكريمة قد نهت الناس جميعا عن عبادة غير الله ، وعن أن يشرك معه فى الألوهية أحد من بشر أو حجر أو غير ذلك ، وعن أن يتخذ أحد من البشر فى مقام الرب - عز وجل - بأن يتبع فى تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه .
ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعا متفقة فى دعوة الناس إلى عبادة الله وحده ، وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات هذا المعنى ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى ما يجب عليهم أن يقولوه إذا مالج الجاحدون فى طغيانهم فقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
أى فإن أعرض هؤلاء الكفاء عن دعوة الحق ، وانصرفوا عن موافقتكم بسبب ما هم عليه من عناد وجحود فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم ، بل قولوا لهم : اشهدوا : بأنا مسملون مذعنون لكلمة الحق ، بخلافكم أنتم فقد رضيتم بما أنتم فيه من باطل .
قال صاحب الكشاف وقوله { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم . وذلك كما يقول الغالب للمغلوب فى جدال وصراع أو غيرهما : اعترف بأنى أنا الغالب وسلم لى بالغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ومعنا : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره " .
هذا وتعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التى تهدى الناس إلى طريق الحق بأسلوب منطقى رصين ، ولذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يكتبها في بعض رسائله التى أرسلها إلى الملكوك والرؤساء ليدعوهم إلى الإسلام - .
فقد جاء فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - ملك الروم - " من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .
أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسليم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، { ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } إلخ الآية " .
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن جرى مجراهم { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا . ثم وصفها بقوله : { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : عدل ونصف ، نستوي نحن وأنتم فيها . ثم فسرها بقوله : { أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } لا وَثَنا ، ولا صنما ، ولا صليبا ولا طاغوتا ، ولا نارًا ، ولا شيئًا{[5147]} بل نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل ، قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . [ وقال تعالى ]{[5148]} { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] . ثم قال : { وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } وقال ابن جُرَيْج : يعني : يطيع بعضنا بعضا في معصية الله . وقال عكرمة : يعني : يسجد بعضنا لبعض .
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : فإن تولوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم .
وقد ذكرنا في شرح البخاري ، عند روايته من طريق الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن أبي سفيان ، في قصته حين دخل على قيصر ، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مُشْركًا لم يُسْلم بعد ، وكان ذلك بعد صُلْح الحُدَيْبِيَة وقبل الفتح ، كما هو مُصَرّح به في الحديث ، ولأنه لما قال{[5149]} هل يغدر ؟ قال : فقلت : لا ونحن منه في مُدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه : والغرض أنه قال : ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه :
" بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ، سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِن{[5150]} تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأريسيِّين ، و { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }{[5151]} .
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صَدْر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وَفْد نجْران ، وقال الزهري : هم أول من بَذَلَ الجزية . ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح ، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هِرقْل في جملة الكتاب ، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجُوه :
أحدها : يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مَرّةً قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح .
الثاني : يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : " إلى بضع وثمانين آية " ليس بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان .
الثالث : يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك .
الرابع : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا [ الكلام ]{[5152]} في كتابه إلى هرقل لم{[5153]} يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله :
{ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وفي قوله : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } الآية [ التحريم : 5 ] .
{ قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قل يا محمد لأهل الكتاب وهم أهل التوراة والإنجيل : { تَعَالَوْا } هلمّوا { إلى كَلِمَة سَوَاء } يعني إلى كلمة عدل { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } والكلمة العدل : هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ، ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئا . وقوله : { وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا } يقول : ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ، ويعظمه بالسجود له ، كما يسجد لربه . { فإنْ تَوَلّوْا } يقول : فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها ، فلم يجيبوك إليها ، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك : اشهدوا بأنا مسلمون .
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى كلمة السواء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك ، فأبوا عليه ، فجاهدهم ، قال : دعاهم إلى قول الله عزّ وجلّ : { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . . . الاَية .
وقال آخرون : بل نزلت في الوفد من نصارى نجران . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . . . الاَية ، إلى قوله : { فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُونَ } قال : فدعاهم إلى النّصَف ، وقطع عنهم الحجة¹ يعني وفد نجران .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الوفد من نصارى نجران فقال : { يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن زيد ، قال : قال : يعني جل ثناؤه : { إنّ هَذا لَهُوَ القَصَصُ الحَقّ } في عِيسَى على ما قد بيناه فيما مضى قال : { فأبَوْا } ، يعني الوفد من نجران ، فقال : ادعهم إلى أيسر من هذا ، { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } . فقرأ حتى بلغ : { أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ } فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخَر .
وإنما قلنا : عنى بقوله : { يا أهْلَ الكِتابِ } : أهل الكتابين ، لأنهما جميعا من أهل الكتاب ، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله : { يا أهْلَ الكِتابِ } بَعْضا دون بعض ، فليس بأن يكون موجها ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة بأولى منه ، بأن يكون موجها إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل ، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوارة . وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر ، لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر ، ولا أثر صحيح ، فالواجب أن يكون كل كتابي معنيا به ، لأن إفراد العبادة لله وحده ، وإخلاص التوحيد له ، واجب على كل مأمور منهيّ من خلق الله ، وأهل الكتاب يعمّ أهل التوراة وأهل الإنجيل ، فكان معلوما بذلك أنه عني به الفريقان جميعا .
وأما تأويل قوله : { تَعالَوْا } فإنه : أقبلوا وهلمّوا ، وإنما هو تفاعلوا من العلوّ ، فكأن القائل لصاحبه : تعالى إليّ ، فإنه تفاعل من العلوّ ، كما يقال : تدان مني من الدنوّ ، وتقاربْ مني من القرب . وقوله : { إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } فإنها الكلمة العدل ، و«السواء » : من نعت «الكلمة » .
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع سواء في الإعراب لكلمة ، وهو اسم لا صفة ، فقال بعض نحويي البصرة : جرّ سواء لأنها من صفة الكلمة : وهي العدل ، وأراد مستوية . قال : ولو أراد استواء كان النصب ، وإن شاء أن يجعلها على الاستواء ويجرّ جاز ، ويجعله من صفة الكلمة مثل الخلق ، لأن الخلق هو المخلوق ، والخلق قد يكون صفة واسما ، ويجعل الاستواء مثل المستوى ، قال عزّ وجلّ : { الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ سَوَاء العاكِفُ فِيهِ وَالبادِ } لأن السواء للآخر وهو اسم ليس بصفة ، فيجري على الأول وذلك إذا أراد به الاستواء ، فإن أراد به مستويا جاز أن يجري على الأول ، والرفع في ذا المعنى جيد ، لأنها لا تغيّر عن حالها ، ولا تثنى ، ولا تجمع ، ولا تؤنث ، فأشبهت الأسماء التي هي مثل عدل ورضا وجنب ، وما أشبه ذلك . وقال : { أنْ نَجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَوَاءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ } فالسواء للمحيا والممات بهذا المبتدإ . وإن شئت أجريته على الأوّل وجعلته صفة مقدمة ، كأنها من سبب الأوّل فجرت عليه ، وذلك إذا جعلته في معنى مستوي ، والرفع وجه الكلام كما فسرت لك .
وقال بعض نحويي الكوفة : «سواء » مصدر وضع موضع الفعل ، يعني موضع متساوية ومتساو ، فمرّة يأتي عن الفعل ، ومرّة على المصدر ، وقد يقال في سواء بمعنى عدل : سِوًى وسُوًى ، كما قال جلّ ثناؤه : { مَكانا سُوًى } و«سِوًى » يراد به عدل ونصف بيننا وبينك . وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم » .
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله : { إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُم } بأن السواء : هو العدل ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } : عدل بيننا وبينكم { ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ } . . . الاَية .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا } بمثله .
وقال آخرون : هو قول لا إلَه إلا الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال أبو العالية : كلمة السواء : لا إلَه إلاّ الله .
وأما قوله : { ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّهَ } فإنّ «أنْ » في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله ، وقد بينا معنى العبادة في كلام العرب فيما مضى ، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : { وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا } فإنّ اتخاذ بعضهم بعضا ، هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله ، كما قال جل ثناؤه : { اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلها وَاحِدا } . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : { وَلا يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ } يقول : لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، ويقال : إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة ، وإن لم يُصَلّوا لهم .
وقال آخرون : اتخاذ بعضهم بعضا أربابا : سجود بعضهم لبعض . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ } قال : سجود بعضهم لبعض .
وأما قوله : { فَإنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُونَ } فإنه يعني : فإن تولى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا ، فقولوا أنتم أيها المؤمنون لهم : اشهدوا علينا بأنا بما توليتم عنه من توحيد الله وإخلاص العبودية له ، وأنه الإلَه الذي لا شريك له مسلمون ، يعني خاضعون لله به متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا ، وقد بينا معنى الإسلام فيما مضى ، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته .
{ قل يا أهل الكتاب } يعم أهل الكتابين . وقيل يريد به وفد نجران ، أو يهود المدينة . { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } لا يختلف فيها الرسل والكتب ويفسرها ما بعدها { ألا نعبد إلا الله } أن نوحده بالعبادة ونخلص فيها . { ولا نشرك به شيئا } ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد . { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } ولا نقول عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا روي أنه لما نزلت { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله ، قال : " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ، قال : نعم ، قال : هو ذاك " . { فإن تولوا } عن التوحيد . { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل .
( تنبيه ) انظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في الحجاج بين : أولا ، أحوال عيسى عليه الصلاة والسلام وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم ، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل ، وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ، ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك وقال { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
رجُوع إلى المجادلة ، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة ، بعَثَ عليه الحرصُ على إيمانهم ، وإشارة إلى شيءٍ من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلامِ الوجه لله كما تقدم بيانه . وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلاً وهو دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية . فجملة { قل يا أهل الكتاب } بمنزلة التأكيد لجملة { فقل تعالوا ندع أبناءنا } [ آل عمران : 61 ] لأنّ مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقّية اعتقادهم . ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة . والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى : لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربّاً وعبدوه مع الله .
وتعالوا هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل : جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده . وتقدم الكلام على ( تعالوا ) قريباً .
والكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] .
وسواء هنا اسم مصدر الاستواء ، قيل بمعنى العدل ، وقيل بمعنى قصدٍ لا شطط فيها ، وهذان يكونان من قولهم : مكان سَواء وسِوَى وسَوى بمعنى متوسّط قال تعالى : { فرءاه في سواء الجحيم } [ الصافات : 55 ] . وقال ابن عطية : بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس ، فإنّ اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً ، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن . وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث ، وصف به { كلمة } ، وهو لفظ مؤنث ، لأنّ الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه .
و { ألا نعبد } بدل من { كلمة } ، وقال جماعة : هو بدل من سَواء ، وردّه ابن هشام ، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب ، واعترضه الدماميني وغيره .
والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى ؛ لأنّ سَواء وصف لِكلمة وألاّ نعبد لو جعل بدلاً من سواء ءال إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به .
وضمير بيننا عائد على معلوم من المقام : وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، ولذلك جاء بعده : { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
ويستفاد من قوله : { ألا نعبد إلا الله } إلى آخره ، التعريضُ بالذين عبدوا المسيح كُلِّهم .
وقوله : { فإن تولوا } جيء في هذا الشرط بحرف إنْ لأنّ التولِّي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع ، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط ، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضاً ، وذلك من مواقع ( إن ) الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يُؤيَس من إسلامهم فأعرِضوا عنهم ، وأمسكوا أنتم بإسلامكم ، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم . ومعنى هذا الإشهاد التسْجيل عليهم لئلاّ يُظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون .