103- وتمسكوا بدين الله مجتمعين عليه ، ولا تفعلوا ما يؤدى إلى فرقتكم ، وتذكروا نعمة الله عليكم حين كنتم في الجاهلية متعادين ، فَألَّف بين قلوبكم بالإسلام فصرتم متحابين ، وكنتم - بسبب كفركم وتفرقكم - على طرف حفرة من النار فخلصكم منها بالإسلام ، بمثل ذلك البيان البديع يبين الله لكم دائماً طرق الخير لتدوموا على الهدى .
قوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } . الحبل : السبب الذي يتوصل به إلى البغية ، وسمي الإيمان حبلاً لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف . واختلفوا في معناه هاهنا ، قال ابن عباس : معناه تمسكوا بدين الله ، وقال ابن مسعود : هو الجماعة ، وقال : عليكم بالجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة . وقال مجاهد وعطاء : بعهد الله ، وقال قتادة والسدي : هو القرآن ، وروى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن هذا القرآن هو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، وعصمة الله لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعة " . وقال مقاتل بن حيان( بحبل الله ) أي بأمر الله وطاعته .
قوله تعالى : { ولا تفرقوا } . كما افترقت اليهود والنصارى .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن احمد أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك بن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً ، ويسخط لكم ثلاثاً ، يرضى لكم : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم . ويسخط لكم ثلاثا : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " . قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم } . قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار : كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل قتل بينهم ، فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم عشرين ومائة سنة إلى أن أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان سبب ألفتهم : أن سويد بن الصامت أخاً بني عمرو بن عوف- وكان شريفاً- يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه ، قدم مكة حاجاً أو معتمراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وأمر بالدعوة ، فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام ، فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك ؟ فقال : محلة لقمان ، يعني حكمته ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها علي ؟ فعرضها ، فقال : إن هذا كلام حسن ، ومعي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله علي نوراً وهدىً ، فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، ولم ينفر . وسر بذلك وقال : إن هذا القول حسن ، ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل يوم بعاث ، فإن قومه ليقولون : إنه قد قتل وهو مسلم . ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع ، ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم ، وقال : هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ قالوا : وما ذلك ؟ قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئاً ، وأنزل علي الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ -وكان غلاماً حدثاً- أي قوم هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الجيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك . فلما أراد لله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فلقي عند العقبة رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً وهم ستة نفر : أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، وهو ابن عفراء ، ورافع ابن مالك العجلاني ، وقطبة بن عامر بن خريدة ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم : قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن . قالوا : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وهم كانوا أهل أوثان وشرك ، وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا : إن نبياً الآن مبعوث قد أظل زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه ؟ فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا : إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، فإن جمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، وهم : أسعد بن زرارة ، وعوف ، ومعاذ ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلاني ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقطبة بن عامر ، وهؤلاء خزرجيون وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة من الأوس ، فلقوه بالعقبة وهي بيعة العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ، إلى آخر الآية ، فإن وفيتم فلكم الجنة ، وان غشيتم شيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له ، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، قال فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ابن هاشم بن عبد مناف ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ، ويفقههم في الدين ، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ ، وكان منزله على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما ، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا والله سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه . قال مصعب : إن يجلس أكلمه ، قال : فوقف عليهما متشتماً فقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ، قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمة مصعب بالإسلام وقرا عليه القرآن ، فقالا والله لعرفنا في وجهة الإسلام قبل أن يتكلم به ، في إشراقه وتسهله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام فاغتسل وطهر ثوبه ، وشهد شهادة الحق ، ثم قام وركع ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن ، هو سعد بن معاذ ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم ، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم ، فلما وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما ، فقالا : فافعل ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك فقام سعد مغضباً مبادراً للذي ذكره له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما ، فوقف عليهما متشتماً ، ثم قال لأسعد بن زرارة : لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، تغشانا في دارنا بما نكره ؟ وقد قال أسعد لمصعب : جاءك والله سيد قومه ، وإن اتبعك لم يخالفك منهم أحد ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ، قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة فجلس ، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن : قالا : فعرفنا والله في وجهة الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهر ثوبه ثم تشهد شهادة الحق ، وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فما أمسى في الدار لبني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ، ووائل ووافق وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق . قالوا : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلاً مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية . قال كعب بن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أو جابر أخبرناه ، وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه ، وقلنا له : يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا ، وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً ، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة ، وكان نقيباً ، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب بن عمارة إحدى نساء بني النجار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثق له ، فما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج ، وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار خزرجها وأوسها ، إن محمداً صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا ، وهو في عز من قومه ومنعه في بلده ، وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك وان كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة . قال : فقلنا قد سمعنا ما قلت : فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت ؟ قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ، ودعا إلى الله تعالى ورغب في الإسلام ، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، ونساءكم ، وأبناءكم ، قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق نبياً ، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله ؟ فنحن أهل الحرب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر . قال :فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً -يعني العهود- وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :لا بل الأبد الأبد ، الدم الدم ، والهدم والهدم ، أنتم مني وأنا منكم ، أحارب من حاربتم ، وأسلم من سالمتم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً كفلاء على قومهم بما فيهم ن ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ؟ فاخرجوا اثني عشر نقيباً ، تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس . قال عاصم بن عمرو ابن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلى أسلمتموه ، فمن الآن ؟ فهو والله إن فعلتم خزي في الدنيا والآخرة ، وان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهك الأموال ، وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة . قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال الجنة . قالوا : أبسط يدك فبسط يده فبايعوه ، وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم ، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة صوتا ما سمعته قط ، يا أهل الحباحب ، هل لكم في مذمم والصباة قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عدو الله ، هذا أزب العقبة ، اسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا إلى رحالكم . فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم . قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا : يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا . وتبايعونه على حربنا ، فإنه والله ماحي من العرب أبغض إلينا أن ينشب بالحرب بيننا وبينهم منكم . قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه . وصدقوا . ولم يعلموا ، وبعضنا ينظر إلى بعض ، وقام القوم وفيهم الحرث بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وعليه نعلان جديدان ، قال : فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا : يا أبا جابر ، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؛ قال : فسمعها الحارث ، فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي فقال : والله لتنتعلنهما قال : يقول أبو جابر رضي الله عنه : مه ، والله أحفظت الفتى فاردد إليه نعليه ، قال : لا أردهما قال : والله يا أبا صالح ، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه . قال : ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شددوا العقد ، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها ، وبلغ ذلك قريشاً فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا وداراً تأمنون فيها ، فأمرهم بالهجرة إلى المدينة ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار . فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً إلى المدينة ، فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم ) يا معشر الأنصار( إذ كنتم أعداء ) قبل الإسلام( فألف بين قلوبكم ) الإسلام . قوله تعالى : { فأصبحتم } . أي فصرتم .
قوله تعالى : { بنعمته } . برحمته وبدينه الإسلام .
قوله تعالى : { إخواناً } . في الدين والولاية بينكم .
قوله تعالى : { وكنتم . يا معشر الأوس والخزرج .
قوله تعالى : { على شفا حفرة من النار } . أي على طرف حفرة مثل شفا البئر ، معناه : وكنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم .
قوله تعالى : { فأنقذكم } . الله .
ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله ، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين ، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم ، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور ، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها ، من التعاون على البر والتقوى ، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه ، ولو أدى إلى الضرر العام ، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا ، ويأخذ بعضكم مال بعض ، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا ، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال ، وكانوا في شر عظيم ، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد ، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض ، ولهذا قال : { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار } أي : قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { كذلك يبين الله لكم آياته } أي : يوضحها ويفسرها ، ويبين لكم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال { لعلكم تهتدون } بمعرفة الحق والعمل به ، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة ، وليزيدهم من فضله وإحسانه ، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها .
وبعد أن أمرهم - سبحانه - بمداومة خشيته ، والاستمرار على دينه أتبع ذلك بأمرهم بالاعتصام بدينه وبكتابه فقال - تعالى - { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .
فهذه الآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من مداومة التقوى والطاعة لله رب العالمين .
والاعتصام : افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع .
وأصل الحبل : ما يشد به للارتقاء أو التدلى أو للنجاة من غرق أو نحوه ، أو للوصول إلى شىء معين .
والمراد بحبل الله هنا : دينه ، أو عهده ، أو كتابه ، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة والفلاح .
والمعنى : كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده ، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم فى الجاهلية بضرب بعضكم رقاب بعض ، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم .
ففى الجملة الكريمة استعارة تمثيلية حيث شبه - سبحانه - الحالة الحاصلة من تمسك المؤمنين بدينه وبكتابه وبعهوده وبوحدة كلمتهم ، بالحالة الحاصلة من تمسك جماعة بحبل وثيق مأمون الانقطاع ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط أو نحوهما .
وإضافة الحبل إلى الله - تعالى - قرينة على هذا التمثيل .
وقوله { جَمِيعاً } حال من ضمير الجماعة فى قوله { واعتصموا } .
فالجملة الكريمة تأمر المسلمين جميعا أن يعتصموا بعهود الله وبدينه . وبكتابه ، وأن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وأن ينبذوا التفرق والاختلاف الذى يؤدى إلى ضعفهم وفشلهم .
قال الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : واعلم أن كل من يمشى على طريق دقيق يخاف أن ينزلق رجله ، فإنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبى ذلك الطريق أمن من الخوف . ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق ، وقد انزلقت أرجل كثيرة من الخلق عنه ، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل هنا : كل شىء يمكن التوصل به إلى الحق فى طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة فمنهم من قال المراد به عهد الله . . ومنهم من قال المراد به القرآن ، فقد جاء فى الحديث " هو حبل الله المتين " ومنهم من قال المراد به طاعة الله . . . وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا من أنه لما كان النازل فى البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط فى جهنم ، جعل ذلك حبلا لله وأمروا بالاعتصام به . ثم أمرهم - سبحانه - بتذكر نعم الله عليهم فقال : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } .
قوله { شَفَا حُفْرَةٍ } الشفا طرف الشىء وحرفه مثل شفا البئر ، وشفا الحفرة ومنه يقال : فلان أشفى على الشىء إذا اشرف عليه ، كأنه بلغ شفاه أى حده وحرفه .
والمعنى : واذكروا أيها المؤمنون وتنبهوا بعقولكم وقلوبكم إلى نعمة الله علكم بتأليف نفوسكم ورأب صدوعكم ، فقد كنتم فى الجاهلية أعداء متقاتلين متنازعين ، فألف بين قلوبكم بأخوة الإسلام فاصبحتم متحابين متناصحين متوادين وكنتم على وشك الوقوع فى النار بسبب اخلافكم وضلالكم فمن الله عليكم وأنقذكم من التردى فيها بهدايتكم إلى الحق عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أرسله ربه رحمة للعالمين . إذا فمن الواجب عليكم وفاء لهذه النعم أن تشكروا الله عليها وأن تطيعوا رسولكم صلى الله عليه وسلم وأن تتمسكوا بعرى المحبة والمودة والأخوة فيما بينكم .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } إلخ . هذا السياق فى شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة فى الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام . فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين فى ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها إذ هداهم للإيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم فى القسمة بما رآه ، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ، الم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ، وكنتم متفرقين فالفكم الله بى ، وعالة فأغناكم الله بى ؟ فكانوا كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله آَمَنّ " .
وفى هذه الاية الكريمة تصوير بديع مؤثر لحالة المسلمين قبل الإسلام وحالتهم بعد الإسلام .
فقد صور - سبحانه - حالهم وترديهم فى الكفر والاختلاف والتقاتل قبل أن يدخلوا فى الإسلام بحال من يكون على حافة حفرة من النار يوشك أن يقع فيها .
وصور هدايته لهم إلى سبيل الحق والمحبة والإخاء بدخولهم فى الإسلام عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم بحالة من يبعد غيره عن التردى فى النار وينقذه من الوقوع فيها .
قال صاحب الكشاف : " والضمير المجرور فى قوله { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } يعود للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة - فاكتسب التأنيث من المضاف إليه - كما قال : كما شرقت صدر القناة من الدم . . . وشفا الحفرة وشفتها : حرفها بالتذكير والتأنيث .
فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار " فمثلت حياتهم التى يتوقع بعدها الوقوع فى النار بالقعود على حرفها ، مشفين - أى مشرفين - على الوقوع فيها " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
أى كهذا البيان الواضح الذى سمعتموه فى هذه الآيات ، يبين الله لكم دائما من آياته ودلائله وحججه ما يسعدكم فى الدنيا والآخرة ، و ما يأخذ بيدكم إلى وسائل الهداية وأسبابها ، رجاء أن تكونوا ممن رضى الله عنهم وأرضاهم بسبب اهتدائهم إلى الصراط المستقيم .
وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } قيل { بِحَبْلِ اللَّهِ } أي : بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 112 ] أي بعهد وذمة{[5440]} وقيل : { بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } يعني : القرآن ، كما في حديث الحارث الأعور ، عن علِيّ مرفوعا في صفة القرآن : " هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ " .
وقد وَرَدَ في ذلك حديث خاص بهذا المعنى ، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أسباط بن {[5441]}محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي ، عن عطية عن [ أبي ]{[5442]} سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كِتَابُ اللهِ ، هو حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ " {[5443]} .
وروى ابن مَرْدُويَه من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَريّ ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ " {[5444]} .
وُروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك . [ وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ، يا عبد الله ، بهذا الطريق هلم إلى الطريق ، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن ]{[5445]} .
وقوله : { وَلا تَفَرَّقُوا } أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة{[5446]} وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف{[5447]} كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا ، يَرْضى لَكُمْ : أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا : قيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ " {[5448]} .
وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ ، عند اتفاقهم ، من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا ، وخِيفَ عليهم الافتراق ، والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة{[5449]} ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وقوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ] {[5450]} } إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج ، فإنه كانت{[5451]} بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحَنٌ وذُحُول{[5452]} طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]{[5453]} } [ الأنفال : 62 ] وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم ، فأبعدهم{[5454]} الله منها : أنْ هَدَاهُم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ ، فَعتَبَ من عتب{[5455]} منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله ، فخطبهم فقال : " يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي ، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي ، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمنّ .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم{[5456]} ما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول : " أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ ؟ " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح ، رضي الله عنهم {[5457]} وذكر عِكْرِمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفْك . والله أعلم .
{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وتعلقوا بأسباب الله جميعا . يريد بذلك تعالى ذكره : وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحقّ والتسليم لأمر الله . وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الاعتصام . وأما الحبل ، فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ، ولذلك سمي الأمان حبلاً ، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
وإذَا تُجَوّزُها حِبالُ قَبِيلةَ *** أخذَتَ مِنَ الأُخْرَى إليكَ حِبالَها
ومنه قول الله عزّ وجلّ : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله : { واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : الجماعة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوّام ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : حبل الله : الجماعة .
وقال آخرون : عَنَى بذلك القرآن ، والعهد الذي عهد فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به : هذا القرآن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : بعهد الله وأمره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله ، قال : إن الصراط محتضر تحضره الشياطين ، ينادون : يا عبد الله هلمّ هذا الطريق ! ليصدّوا عن سبيل الله . فاعتصموا بحبل الله ، فإن حبل الله هو كتاب الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، عن أسباط ، عن السديّ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } أما حبل الله : فكتاب الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بِحَبْلِ الله } : بعهد الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { بِحَبْلِ الله } قال : العهد .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : حبل الله : القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : القرآن .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كِتاب اللّهِ ، هُوَ حَبْلُ الله المَمْدُودُ مِنَ السّماءِ إلى الأرْضِ » .
وقال آخرون : بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } يقول : اعتصموا بالإخلاص لله وحده .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : الحبل : الإسلام . وقرأ { وَلا تَفَرّقُوا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَفَرّقُوا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلا تَفَرّقُوا } : ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } أن الله عزّ وجلّ قد كره لكم الفرقة وقدّم إليكم فيها ، وحذّركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة ، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم ، ولا قوّة إلا بالله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلا تَفَرّقُوا } : لا تعادوا عليه ، يقول : على الإخلاص لله ، وكونوا عليه إخوانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، أن الأوزاعي حدثه ، أن يزيد الرقاشي حدثه ، أنه سمع أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ بَنِي إسْرائِيلَ افْتَرَقَتْ على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَإنّ أُمّتِي سَتَفْتَرِقُ على اثْنَيْنِ وَسبعينَ فِرْقَةً كلّهمْ فِي النّارِ إلاّ وَاحِدَةً » . قال : فقيل يا رسول الله ، وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : «الجَمَاعَة » { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا وَلا تَفَرّقُوا } .
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي يحدّث عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطنة المري ، عن عبد الله أنه قال : يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به ، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطنة ، قال : سمعت ابن مسعود وهو يخطب ، وهو يقول : يا أيها الناس ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا إسماعيل بن حفص الاَملي ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام ، قال : حدثنا مجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن ثابت بن قطنة المري ، قال : قال عبد الله : عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ثم ذكر نحوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } : واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام .
واختلف أهل العربية في قوله : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } ، ثم فسر بقوله : { فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف ، كما تقول : أمْسَكَ الحائط أن يميل .
وقال بعض نحويي الكوفة : قوله { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } تابع قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطعة منها .
والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } متصل بقوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطع عنه .
وتأويل ذلك : واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء : أي بشرككم ، يقتل بعضكم بعضا ، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ } كنتم تذابحون فيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام ، فآخى به بينكم ، وألف به بينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو ، إن الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذاب !
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } : يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فألّف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخوانا .
فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الاَية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتماع كلمتهم عليها ، والعداوة التي كانت بينهم ، التي قال الله عزّ وجلّ : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام ، يزعم العلماء بأيام العرب ، أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم . ثم إن الله عزّ وجلّ أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فذكّرهم جلّ ثناؤه إذ وعظهم عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا ، وخوّف بعضهم من بعض ، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخوانا . وكان سببُ ذلك ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا . قال : وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه . قال : فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعلّ الذي معك مثل الذي معي ! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَما الّذِي مَعَكَ ؟ » قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعْرِضْها عَليّ ! » فعرضها عليه ، فقال : «إنّ هَذَا الكَلامَ حَسَنٌ ، مَعِي أفْضَلُ مِنْ هَذَا ، قُرآنٌ أنْزَلَهُ اللّهُ عَلّي هُدًى وَنُورٌ » . قال : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه ، وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج ، فإن كان قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم ، وكان قتله قبل يوم بُعاث .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني الحسين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل : أن محمود بن أسد أحد بني عبد الأشهل ، قال : لما قدم أبو الجيش أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم ، فقال : «هَلْ لَكُمْ إلى خَيْرٍ ممّا جِئْتُمْ لَهُ ؟ » قالُوا : وَما ذَاكَ ؟ قال : «أنا رَسُولُ اللّهِ بَعَثَنِي إلى العِبادِ أدْعُوهُمْ إلى اللّهِ أنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا ، وأَنْزَلَ عَلّي الكِتابَ » . ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ! قال : فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج . قال : ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال : فلما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم . فبينا هو عند العقبة ، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله لهم خيرا . قال ابن حميد : قال سلمة : قال محمد بن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : «مَنْ أنْتُمْ ؟ » قالوا : نفر من الخزرج ، قال : «أمِنْ مَوَالىَ يَهُودَ ؟ » قالوا : نعم ، قال : «أفَلا تَجْلِسُونَ حتى أُكَلّمَكُمْ ؟ » قالوا : بلى . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك ، أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبيا الاَن مبعوث قد أظلّ زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله عزّ وجلّ ، قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلموا والله إنه للنبيّ الذي توعدكم به يهود ، ولا يسبقُنكم إليه ! فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه ، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، وسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجل أعزّ منك ! ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، راجعين إلى بلادهم ، قد آمنوا وصدّقوا ، وهم فيما ذكر لي ستة نفر . قال : فلما قدموا المدينة على قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة : أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار ، فآمنوا به وصدّقوه ، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بين قومنا حربا ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد . فوعدوه العام المقبل ، وقالوا : يا رسول الله نذهب ، فلعلّ الله أن يصلح تلك الحرب ! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلح الله عزّ وجلّ تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح¹ وهو يوم بُعاث فلقوه من العام المقبل سبعين رجلاً قد آمنوا ، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا ، فذلك حين يقول : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } ففي حرب { فَألّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، بنحوه ، وزاد فيه : فلما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الحيان ، فقال بعضهم لبعض : موعدكم الحرة ! فخرجوا إليها ، فنزلت هذه الاَية : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } . . . الاَية ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا ، وحتى إن لهم لخنينا ، يعني البكاء .
وسمير الذي زعم السديّ أن قوله { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } عنى به حربه ، هو سمير بن زيد بن مالك أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله :
إنّ سُمَيرا أرَى عَشِيرَتَهُ *** قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا
إنْ يَكُنِ الظّنّ صَادِقي ببني النّ *** جّارِ لم يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا
وقد ذكر علماء الأنصار أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها الأوس والخزرج وأولها كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي ، يقال له : الحر بن سمير ، من مزينة ، وكان حليفا لمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك معنى قول السديّ : حرب ابن سمير .
وأما قوله : { فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } فإنه يعني : فأصبحتم بتأليف الله عزّ وجلّ بينكم بالإسلام وكلمة الحقّ والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر ، إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم ، ولا تحاسد . كما :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } ، وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ } : وكنتم يا معشر المؤمنين من الأوس والخزرج على حرف حفرة من النار ، وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام ، يقول تعالى ذكره : وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه ، قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام ، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم ، فتكونوا من الخالدين فيها ، فانقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له . وشفا الحفرة : طرفها وحرفها ، مثل شفا الركية والبئر ، ومنه قول الراجز :
نحْنُ حَفَرْنا للحَجيج سَجْلَهْ *** نابِتَةً فوقَ شَفَاهَا بَقْلَهْ
يعني فوق حرفها ، يقال : هذا شفا هذه الركية مقصور ، وهما شفواها . وقال : { فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } : يعني فأنقذكم من الحفرة ، فردّ الخبر إلى الحفرة ، وقد ابتدأ الخبر عن الشفا ، لأن الشفا من الحفرة ، فجاز ذلك ، إذ كان الخبر عن الشفا على السبيل التي ذكرها في هذه الاَية خبرا عن الحفرة ، كما قال جرير بن عطية :
رأتْ مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كما أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
فذكر مرّ السنين ، ثم رجع إلى الخبر عن السنين . وكما قال العجاج :
طُولُ اللّيالي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي *** طَوَيْنَ طُولي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
وقد بينت العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ } كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً ، وأشقاه عيشا ، وأبينه ضلالة ، وأعراه جلودا ، وأجوعه بطونا ، مكعومين على رأس حجر بين الأسدين : فارس ، والروم ، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات رُدّي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض ، كانوا فيها أصغر حظا ، وأدقّ فيها شأنا منهم ، حتى جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام ، فورّثكم به الكتاب ، وأحلّ لكم به دار الجهاد ، ووضع لكم به من الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا نعمه ، فإن ربكم منعم يحبّ الشاكرين ، وإن أهل الشكر في مزيد الله ، فتعالى ربنا وتبارك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قوله : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ } يقول : كنتم على الكفر بالله ، { فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } : من ذلك ، وهداكم إلى الإسلام .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : كنتم على طرف النار من مات منكم أُوبق في النار ، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فاستنقذكم به من تلك الحفرة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا حسن بن حيّ : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } قال : عصبية .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : كذلك كما بين لكم ربكم في هذه الاَيات أيها المؤمنون من الأوس والخزرج ، من غِلّ اليهود ، الذي يضمرونه لكم ، وغشهم لكم ، وأمره إياكم بما أمركم به فيها ، ونهيه لكم عما نهاكم عنه ، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم ، والتي صرتم إليها في إسلامكم ، يعرّفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم ، وصنائعه لديكم ، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . { لَعَلّكم تهتدون } يعني : لتهتدوا إلى سبيل الرشاد ، وتسلكوها فلا تضلوا عنها .
{ واعتصموا بحبل الله جميعا } بدين الإسلام ، أو بكتابه لقوله عليه السلام : " القرآن حبل الله المتين " . استعار له الحبل من حيث أن التمسك به سبب للنجاة من الردي ، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز . { جميعا } مجتمعين عليه { ولا تفرقوا } أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب ، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا ، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة . { واذكروا نعمة الله عليكم } التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل . { إذ كنتم أعداء } في الجاهلية متقاتلين . { فألف بين قلوبكم } بالإسلام . { فأصبحتم بنعمته إخوانا } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله . وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم . { وكنتم على شفا حفرة من النار } مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم ، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار . { فأنقذكم منها } بالإسلام ، والضمير للحفرة ، أو للنار أو للشفا . وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة ، وأصله شفو فقلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث . { كذلك } مثل ذلك التبيين . { يبين الله لكم آياته } دلائله . { لعلكم تهتدون } إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه .
وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } معناه تمنعوا وتحصنوا به ، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد ، وبارتقاء القنن ، وبغير ذلك ما هو منعة ، ومنه الأعصم في الجبل ، ومنه عصمة النكاح ، و «الحبل » في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به ، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ، ونسبة بينهما ، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئاً بشيء ، وتسمى العهود والمواثيق حبالاً ، ومنه قول الأعشى{[3382]} :
وإذَا تَجَوَّزَها حِبالُ قَبِيلَةٍ . . . أَخَذَتْ مِنَ الأَدْنَى إِلَيْكَ حِبَالهَا
إني بحبلِكِ واصلٌ حبلي{[3383]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول الله تعالى : { إلا بحبل من الله وحبل من الناس }{[3384]} واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية { بحبل الله } ، فقال ابن مسعود : «حبل الله » الجماعة ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبيعن فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله : وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده وقال : الجماعة وقرأ ، { واعتصموا بحبل الله جميعاً }{[3385]} » ، وقال ابن مسعود في خطبة : عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به ، وقال قتادة رحمه الله : «حبل الله » الذي أمر بالاعتصام به هوا لقرآن ، وقال السدي : «حبل الله » كتاب الله ، وقاله أيضاً ابن مسعود والضحاك ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض »{[3386]} ، وقال أبو العالية : «حبل الله » في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد : «حبل الله » هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض ، وقوله تعالى : { جميعاً } حال من الضمير في قوله ، { اعتصموا } ، فالمعنى : كونوا في اعتصامكم مجتمعين : { ولا تفرقوا } يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلاف أمتي رحمة »{[3387]} ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج ، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها ، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة ، وحينئذ نزلت هذه الآية ، فهي في الأوس والخزرج ، كانت بينهم عداوة وحروب ، منها يوم بعاث وغيره ، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة ، حتى رفعها الله بالإسلام ، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجاً ، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم ، وتلا عليهم القرآن ، كما كان يصنع مع قبائل العرب ، فآمنوا به وأراد الخروج معهم ، فقالوا يا رسول الله : إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب ، خفنا أن لا يتم ما نريده منك ، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ، ونداخل الناس ، وموعدنا وإياك العام القابل ، فمضوا وفعلوا ، وجاءت الأنصار في العام القابل ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، فيهم خمسة من الستة الأولين ، ثم جاؤوا من العام الثالث ، فكانت بيعة العقبة ، الكبرى ، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيباً ، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام{[3388]} ، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين ، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب ، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما رأى النفر من الأنصار محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه ، والوجه الآخر ، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم ، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان ، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة ، وذكرهم بها ، وقوله تعالى : { فأصبحتم } عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع{[3389]} : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
و «الإخوان » جمع أخ ، ويجمع إخوة ، وهذان أشهر الجمع فيه ، على ان سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع ، وليس ببناء جمع لأن فعلاً لا يجمع على فعلة ، قال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، والأخ في النسب يجمع إخوة : هكذا كثر استعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }{[3390]} وفيه ، { أو بني إخوانهن }{[3391]} ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب ، ويقالان في الدين ، و «الشفا » حرف كل جرم له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه ، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى ، كقوله { شفا جرف }{[3392]} وإلى الأسفل كقوله { شفا حفرة } ، ويثنى شفوان ، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام ، والضمير في { منها } عائد على النار ، أو على «الحفرة » ، العود على الأقرب أحسن ، وقال بعض الناس حكاه الطبري : إن الضمير عائد على «الشفا » ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، فالآية كقول جرير :
رَأَتْ مَرَّ السنينِ أَخَذْنَ مِنّي . . . كَمَا أَخذَ السّرارُ مِنَ الهِلاَلِ{[3393]}
قال القاضي : وليس الأمر كما ذكر ، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم تجد معاداً للضمير إلا «الشفا » ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى : { كذلك يبين لكم آياته } إشارة إلى ما بين في هذه الآيات ، أي فكذلك يبين لكم غيرها ، وقوله ، { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء{[3394]} .
قوله : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم ، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم ، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء . والاعتصام افتعال من عَصَم وهو طلب ما يعصم أي يمنع .
والحَبْل : ما يشدّ به للارتقاء ، أو التدلّي ، أو للنَّجاة من غَرَق ، أو نحوه ، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط ، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التَّمثيل .
وقوله : { جميعاً } حال وهو الّذي رجّح إرادة التَّمثيل ، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كُلّ مسلم في حال انفراده اعتصاماً بهذا الدّين ، بل المقصود الأمر باعتصام الأمَّة كُلّها ، ويحصل في ضِمن ذلك أمرُ كُلّ واحد بالتَّمسك بهذا الدّين ، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة ، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني ، ويجوز أن يستعار الاعتصام للتَّوثيق بالدّين وعهوده ، وعدم الانفصال عنه ، ويستعار الحبل للدّين والعهود كقوله : { إلاّ بحَبْل من الله وحبْل من النَّاس } [ آل عمران : 112 ] ويكون كُلّ من الاستعارتين ترشيحاً للأخرى ، لأنّ مبنى التَّرشيح على اعتبار تقوية التَّشبيه في نفس السامع ، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار ، بقطع النَّظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى ، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلاّ قُوّة . وليست الاستعارة بوضع اللَّفظ في معنى جديد حتَّى يَتَوهّم متوهّم أنّ تلك الدّلالة الجديدة ، الحاصلة في الاستعارة الثَّانية ، صارت غير ملائمة لِمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى ، وإنَّما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسناً . وقريب من هذا التوريةُ ، فإنّ فيها حُسناً بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره ، ولا شكّ أنَّه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخَر مقصوداً ، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحاً في الأمر بالاجتماع على الدّين بل ظاهره أنّه أمر للمؤمنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إلى أمر كُلّ واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصّيغة ويصير قوله : { جميعاً } محتملاً لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة .
وقوله : { ولا تفرقوا } تأكيد لمضمون اعتصموا جميعاً كقولهم : ذممت ولم تُحْمَد . على الوجه الأول في تفسير { واعتصموا بحبل الله جميعاً } . وأمّا على الوجه الثَّاني فيكون قوله : { ولا تفرّقوا } أمراً ثانياً للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين ، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى : { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } في سورة [ الأنعام : 140 ] وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النَّهي عن ضدّه .
وقوله : { واذكروا نعمت الله عليكم } تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة ، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى ، الّذي اختار لهم هذا الدّين ، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق . والتَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل . قال تعالى حكاية عن هود : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] وقال عن شعيب : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم } [ الأعراف : 86 ] وقال الله لموسى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] . وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية ، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين ، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار .
والظرفية في قوله : { إذ كنتم أعداء } معتبر فيها التَّعقيب من قوله : { فألف بين قلوبكم } إذ النعمة لم تكن عند العداوة ، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة .
والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة ، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب ، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة ، ومنها كان يوم بعاث ، والعرب كانوا في حروب وغارات{[211]} بل وسائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء بعضهم لبعض ، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب ، ولا تباعد مواطن ، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم ، وإصلاح ذات بينهم ، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر{[212]} فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوان .
والإخوان جمع الأخ ، مثل الإخوة ، وقيل : يختصّ الإخوان بالأخ المجازي والإخوة بالأخِ الحقيقي ، وليس بصحيح قال تعالى : { أو بيوت إخوانكم } [ النور : 61 ] وقال : { إنَّما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] وليس يصحّ أن يكون للمعنى المجازي صيغة خاصّة في الجمع أو المفرد وإلا لبطل كون اللَّفظ مجازاً وصار مشتركاً ، لكن للاستعمال أن يُغلّب إطلاق إحدى الصيغتين الموضوعتين لمعنى واحد فيغلّبها في المعنى المجازي والأخرى في الحقيقي .
وقد امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها : فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتَّفاني والتقاتل ، وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخُوّة ولا يدرِك الفرقَ بين الحالتين إلا من كانوا في السُّوأى فأصبحوا في الحُسنى ، والنَّاس إذا كانوا في حالة بُؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم ، وذلّت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه ، ولا يتفطّنوا لوخيم عواقبه ، حتَّى إذا هُيّىء لهم الصّلاح ، وأخذ يتطرّق إليهم استفاقوا من شقوتهم ، وعلموا سوء حالتهم ، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت : { إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } .
وقوله : { بنعمته } الباء فيه للملابسة بمعنى ( مع ) أي أصبحتم إخواناً مصاحبين نعمة من الله وهي نعمة الأخوَّة ، كقول الفضل بن عبَّاس بن عتبة اللهبي :
كُلُّ له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نَقْلِيكُم وتَقْلُونَا
وقوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } عطف على { كنتم أعداء } فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات .
والشَّفا مثل الشَّفَة هو حرف القليب وَطرفه ، وألِفُه مبدلة من واو . وأما واو شفة فقد حذفت وعوضت عنها الهاء مثل سنة وعِزّة إلاّ أنهم لم يجمعوه على شفوات ولا على شَفِينَ بل قالوا شفاه كأنَّهم اعتدوا بالهاء كالأصل .
فأرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله :
* تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم *
بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة ، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً ، وأسرعُها ، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما : نعمة الأخوة بعد العداوة ، ونعمة السلامة بعد الخطر ، كما قال أبو الطيب :
* نَجاة من البأساءِ بعدَ وقوع *
والإنقاذ من حالتين شنيعتين . وقال جمهور المفسرين : أراد نار جهنَّم . وعلى قولهم هذا يكون قوله : { شفا حفرة } مستعاراً للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول . والنَّارُ حقيقة ، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى : { حفرة } إذ ليست جهنّم حفرة بل هي عالم عظيم للعذاب . وورد في الحديث « فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان » لكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النّظر . ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها . وقيل : أراد نار الحرب وهو بعيد جداً لأنّ نار الحرب لا توقد في حُفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيداً كما قال الحارث :
وبعينيك أوقدَتْ هند النَّارَ *** عِشــاء تُلْوي بها العَليَاء
فتنورتَ نَارها من بعيـد *** بخَزَازَى أيَّان منك الصِلاء
ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها .
والضّمير في { منها } للنَّار على التَّقادير الثَّلاثة . ويجوز على التَّقدير الأول أن يكون لشَفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث لاكتسابه التَّأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى :
وتَشْرَقَ بالقَوْلِ الذي قد أذعتَه *** كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم
وقوله : { كذلك يبين الله لكم آياته } نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد ، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم ، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم . والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح . والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم ، كقول الحرث بن حلزة :
مَنْ لنا عنده من الخَيْر آيا *** تٌ ثلاث في كلّهن القضاء
ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية . وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان .