114- إن الذين يخفون أحاديث يحدثون بها أنفسهم أو يتحدثون بها فيما بينهم ، لا خير في هذه الأحاديث في الكثير ، لأن الشر يفرخ في الخفاء ، لكن إذا كان التحدث للأمر بصدقة يعطونها ، أو للعزم على القيام بعمل غير مستنكر ، أو تدبير إصلاح بين الناس ، فإن ذلك خير ، ومن يفعله طلباً لرضا اللَّه - سبحانه - فإن اللَّه - تعالى - يعطيه جزاءً كبيراً على عمله في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } ، يعني : قوم طعمة ، وقال مجاهد : الآية عامة في حق جميع الناس ، والنجوى : هي الإسرار في التدبير ، وقيل : النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سراً كان أو جهراً ، فمعنى الآية : لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم .
قوله تعالى : { إلا من أمر بصدقة } أي : إلا في نجوى من أمر بصدقة ، فالنجوى يكون متصلا ، وقيل : هاهنا : الرجال المتناجون ، كما قال تعالى { وإذ هم نجوى } [ الإسراء :47 ] { إلا من أمر بصدقة } وقيل هذا استثناء منقطع ، يعني لكن من أمر بصدقة أي : حث عليها .
قوله تعالى : { أو معروف } ، أي : بطاعة الله ، وما يعرفه الشرع ، وأعمال البر كلها معروف ، لأن العقول تعرفها .
قوله تعالى : { أو إصلاح بين الناس } .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم هو ابن أبي الجعد عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟ قال : قلنا بلى ، قال : إصلاح ذات البين ، وإن إفساد ذات البين هي الحالقة ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أمه أم مكتوم بنت عقبة ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس الكذاب من أصلح بين الناس فقال خيراً ، أو نمى خيراً ) .
قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي : هذه الأشياء التي ذكرها .
قوله تعالى : { ابتغاء مرضاة الله } ، أي : طلب رضاه .
قوله تعالى : { فسوف نؤتيه } ، في الآخرة .
قوله تعالى : { أجراً عظيماً } ، قرأ أبو عمرو وحمزة { يؤتيه } بالياء ، يعني : يؤتيه الله ، وقرأ الآخرون بالنون .
{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ }
أي : لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون ، وإذا لم يكن فيه خير ، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح ، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه .
ثم استثنى تعالى فقال : { إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ } من مال أو علم أو أي نفع كان ، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة " الحديث .
{ أَوْ مَعْرُوفٍ ْ } وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه ، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر ، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف ، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر . وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور ، والمنكر بترك المنهي .
{ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ } والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين ، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره ، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض ، بل وفي الأديان كما قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ } وقال تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ } الآية .
وقال تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ } والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة ، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله .
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ } . فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير ، كما دل على ذلك الاستثناء .
ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص ، ولهذا قال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ } فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير ، ليحصل له بذلك الأجر العظيم ، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين ، وليتم له الأجر ، سواء تم مقصوده أم لا ، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن كثيرا من كلام الناس لا خير فيه ، وأن العاقل هو الذى يحرص على القول النافع والعمل الطيب . وأن الذين يتبعون الطريق المخالف لطريق الحق سينالهم عذاب شديد من خالقهم فقال - سبحانه - : { لاَّ خَيْرَ فِي . . . . وَسَآءَتْ مَصِيراً } .
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 114 ) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 115 )
وقوله - تعالى - : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } إشارة إلى ما جبل عليه كثير من الناس من إخفاء الأقوال أو الأعمال التى فيها شر ومضرة ، ومن إعلان الأقوال أو الأفاعل التى من ورائها خير ومنفعة . وقوله { نَّجْوَاهُمْ } أى : مما يتناجى به الناس ويتكلمون فيه . والنجوى : اسم مصدر بمعنى المسارة . يقال : نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة . أى : ساررته بكلام على انفراد . وأصله : أن تعلو بمن تناجيه بسر معين فى نجوة من من الأرض . أى فى مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله . وقيل : أصله من النجاة ، لأن الإِسرار بالشئ فيه معاونة على النجاة . وتطلق النجوى على القوم المتناجين كما فى قوله - تعالى - { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى } والضمير فى قوله { مِّن نَّجْوَاهُمْ } يعود إلى الناس جميعا ، ويدخل فيه أولئك الذين كانوا يختانون أنفسهم ومن على شاكلتهم دخولا أوليا .
والمعروف - كما يقول الآلوسى - هو كل ما عرفه الشرع واستحسنه ، فيشمل جميع أنواع البر كقرض وإغاثة ملهوف وإرشاد ضال إلى غير ذلك . ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله - تعالى - { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } .
والمعنى : لا خير فى كثير من الكلام الذى يناجى فيه الناس ، ويتحدثون به سرا ، إلا فى نجوى من أمر غيره سرا بصدقة يزكى بها ماله ، وينفع بها المحتاج إليها ، أو من غيره بالإِكثار من أعمال البر ، أو القيام بالإِصلاح بين الناس المتخاصمين لكى يعودوا إلى ما كانوا عليه من الأفة والإِخاء والصفاء .
قال الجمل : وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } . فى هذا الاستثناء قولان :
والثانى : أنه منقطع . وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يراد بها الصمدر كالدعوى فتكون بمعنى التناجى أى التحدث . وأن يراد بها القوم المتناجون إطلاقا للمصدر على الواقع منه مجازا . فعلى الأولى يكون منقطعا ، لأن من أمر ليس مناجاة ، فكأنه قيل : لكن من أمر بصدقة ففى نجواه الخير وإن جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلا . وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } . إما منصوب على الاستثناء المنقطع إن جعلته منقطعا فى لغة الحجازيين . أو على أصل الاستثناء إن جعلته متصلا . وإما مجرور على البدل من كثير ، أو من نجواهم ، أو صفة لأحدهما .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أخرجت من التناجيى المذموم ثلاث خصال هى جماع الخير ، وذلك لأن الصدقة التى يخرجها الإِنسان تكون سببا فى تزكية ماله ، وحسن ثوابه ، ونشر المحبة والمودة بين الناس .
والتعبير بقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } يفيد الدعوة إليها ، والحث على بذلها سرا ما دامت المصلحة تقتضى ذلك .
أما المعروف وهو النوع الثانى من التناجى المحمود فهو - كما يقول القرطبى لفظ يعم كل أعمال البر . ففى الحديث الشريف " كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " وقال على بن أبى طالب : ( لا يزهدنك فى المعروف كفر من كفره ، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الجاحد ) .
وقال الماوردى : ينبغى لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته ، ويبادر به خيفة عجزه ، وليعلم أنه من فرض زمانه ، وغنائم إمكانه ، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه ، فكم من واثق بالقدرة ففاتت فأعقبت ندما .
وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لكل شئ ثمرة وثمرة المعروف السراح " - أى التعجيل - ومن شرط المعروف ترك الامتنان به ، وترك الإِعجاب بفعله . لما يهما من إسقاط الشكر ، وإحباط الأجر . قال بعض الشعراء :
زاد معروفك عندى عظما . . . أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته . . . وهو عند الناس مشهور خطير
والأمة التى يفشو فيها قول المعروف وفعله ، تسودها السعادة ، وتظلها المحبة والمودة والرحمة . وأما الإِصلاح بين الناس فهو فريضة اجتماعية يقوم بها من صفت نفوسهم وقويت عزائمهم ، ورسخ إيمانهم .
وقد حض القرآن على الإِصلاح بين الناس سواء أكانوا جماعات أم أفرادا لأن التخاصم والتنازع يؤدى إى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس . قال - تعالى - : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى تحض على الاصلاح بين الناس ومن ذلك ما رواه ابن مردويه عن محمد بن يزيد بن حنيش : قال دلنا على سفيان الثورى نعوده . فدخل علينا سعيد بن حسان فقلا له الثورى الحديث الذى كنت حدثتنيه عن أم صالح أردده على . فقال : حدثتنى أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له . إلا ذكر الله - تعالى - أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر " فقال سفيان : أو ما سمعت الله فى كتابه يقول : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } . فهو هذا بعينه .
وروى الجماعة - سوى ابن ماجه - عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذى يصلح بين الناس فينمى خيرا أو يقول خيرا " وقالت : لم أسمعه يرخص فى شئ مما يقوله الناس إلا فى ثلاث : فى الحرب . والإِصلاح بين الناس . وحديث الرجل امرأته وحديث المراة زوجها .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن أبى الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى . يا رسول الله ! ! قال إصلاح ذات البين " قال " وفساد ذات البين هو الحالقة " .
ففى هذه الأحاديث الشريفة دعوة قوية إلى الاصلاح بين الناس حتى يعيشوا فى أمان واطمئنان .
وبذلك نرى أن هذه الأمور الثلاثة التى أخرجها الله - تعالى - من التناجى المذموم هى جماع الخير الإِنسانى والاجتماعى .
وقد أشار الإِمام الرازى إلى ذلك بقوله : هذه الآية وإن نزلت فى مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها فى المعنى عامة . والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه - تعالى - ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع : الأمر بالصدقة . والأمر بالمعروف . والاصلاح بين الناس .
وإنما ذكر الله - تعالى - هذه الأقسام الثلاثة ، لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة . أما إيصال الخير : فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال . وإليه الإِشارة بقوله : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } . وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل لاقوة العملية بالأفعال الحسنة . ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف . وإليه الإشارة بقوله { أَوْ مَعْرُوفٍ } وأما إزالة الضرر فإليها الإشِارة { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة فى هذه الآية .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة من يقوم بفعل هذه الفضائل فقال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
أى : ومن يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس ، قاصدا بفعله رضا الله وحسن مثوبته ، فسوف نؤتيه أجراً عظيما لا يعرف مقداره غلا الله - تعالى - وقال - سبحانه - ومن يفعل ذلك ولم يقل ومن يأمر بذلك كما جاء فى صدر الآية . لأن المقصود الترغيب فى هذا الفعل الحسن ، لأن الآمر بالخير إذا دخل فى زمرة الخيرين كان الفاعل أحرى بالدخول فى زمرتهم .
وفى تقييد الفعل بكونه ابتغاء مرضاة الله ، تحريض على إخلاص النية ، لأن الأعمال بالنيات ، وإذا صاحب الرياء الأعمال أبطلها ومحق بركتها .
والتعبير بسوف هنا لتأكيد الوقوع فى المستقبل . أى . فسوف نؤتيه أجراً لا يحيط به نطاق الوصف ، ولن نبخصه شيئا من حقه حتى ولو كان هذا الشئ بالغاً النهاية فى الصغر .
( لا خير في كثير من نجواهم . إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس . ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله ، فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا ) . .
لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى ؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيدا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة المسلمة ، لتبيت أمرا . . وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه ، فيعرضه على النبى [ ص ] مسارة إن كان أمرا شخصيا لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس . أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة ، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص .
والحكمة في هذه الخطة ، هو ألا تتكون " جيوب " في الجماعة المسلمة ؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها ، أو بأفكارها واتجاهاتها . وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرا بليل ، وتواجه به الجماعة أمرا مقررا من قبل ؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها - وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول .
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها . .
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة ، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة . وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتوحا ؛ تعرض مشكلاته - التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيره ؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن - عرضا عاما . وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء . لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره ، إلا الذين يتأمرون عليه ! أو على مبدأ من مبادئه - من المنافقين غالبا - وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع .
وهذه حقيقة تنفعنا . فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظاهرة ، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر ، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات !
والنص القرآني هنا يستثني نوعا من النجوى . . هو في الحقيقة ليس منها ، وإن كان له شكلها :
( إلا من أمر بصدقة أو معروف ، أو إصلاح بين الناس ) . .
وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير ، فيقول له : هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين . أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه . أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعا . . وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور ، وتتفق فيما بينها سرا على النهوض بهذا الأمر . فهذا ليس نجوى ولا تآمرا . ومن ثم سماه " أمرًا " وإن كان له شكل النجوى ، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له . .
على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله :
( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) . .
فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان ، أو الإصلاح بين فلان وعلان . ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه - والله رجل طيب - ! يحض على الصدقة والمعروف ، ويسعى في الإصلاح بين الناس ! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله ، بهذا الخير . فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به . والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه ، ويكتبه له في سجل السيئات !
يقول تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } يعني : كلام الناس { إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } أي : إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مَرْدُويه :
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيس{[8306]} قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده - وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتني{[8307]} به عن أم صالح اردُدْه علي . فقال : حدثتني أم صالح ، عن صَفية بنت شَيْبة ، عن أم حَبيبَة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له ما{[8308]} خلا أمرا{[8309]} بمعروف أو نهيا{[8310]} عن منكر [ أو ذكر الله عز وجل " ، قال سفيان : فناشدته{[8311]} ]{[8312]} فقال محمد بن يزيد : ما أشد هذا الحديث ؟ فقال سفيان : وما شدة هذا الحديث ؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة ، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { والْعَصْرِ . إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . [ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ]{[8313]} } [ سورة العصر ] ، فهو هذا بعينه .
وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس{[8314]} عن سعيد بن حسان ، به . ولم يذكرا أقوال{[8315]} الثوري إلى آخرها ، ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خُنَيس{[8316]} . {[8317]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا صالح بن كَيْسان ، حدثنا محمد بن مسلم بن عُبَيد الله بن شهاب : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذي{[8318]} يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا - أو يقول خيرًا " وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها . قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد رواه الجماعة ، سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن الزهري ، به نحوه{[8319]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرة{[8320]} عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة ، والصيام والصدقة ؟ " قالوا : بلى . قال : " إصلاح ذات البين " قال : " وفساد ذات البين هي الحالقة " .
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، وقال الترمذي : حسن صحيح{[8321]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سُرَيج{[8322]} بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، حدثنا أبي ، عن حميد ، عن أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب : " ألا أدلك على تجارة ؟ " قال : بلى : قال : " تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا " ثم قال البزار : وعبد الرحمن بن عبد الله العُمَري لَيّن ، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها{[8323]} .
ولهذا قال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ } أي : مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابًا كثيرًا واسعًا .
{ لا خير في كثير من نجواهم } من متناجيهم كقوله تعالى : { وإذ هم نجوى } أو من تناجيهم فقوله : { إلا من أمر بصدقة أو معروف } على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل . وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به . { أو إصلاح بين الناس } أو إصلاح ذات البين . { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه ، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى ، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحق به من الله أجرا . ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا . وقرأ حمزة وأبو عمرو " يؤتيه " بالياء .
لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة ، ولا الأحوال التي حذّرت منها ، من تناج وتحاوُر ، سِرّا وجهراً ، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها ، لذلك كان المقام حقيقاً بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه ، لأنّ في ذلك تعليماً وتربية وتشريعاً ، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم ، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة ، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين ، وكان التناجي فاشياً لمقاصد مختلفة ، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا ، أي خوفاً ، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهلِ الكتاب ، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو { ألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى } [ المجادلة : 8 ] الآيات ، وقوله : { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } [ الإسراء : 47 ] وقوله : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم } [ البقرة : 14 ] ، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضاً ، فقال : { لا خير في كثير من نجواهم } . فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لإفادة حكم النجوى ، والمناسبةُ قد تبيّنت .
والنجوى مصدر ، هي المسَارّة في الحديث ، وهي مشتقّة من النجو ، وهو المكان المستتر الذي المفضِي إليه ينجو من طالبه ، ويطلق النجوى على المناجين ، وفي القرآن { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } ، وهو وصف بالمصدر والآية تحتمل المعنيين . والضمير الذي أضيف إليه { نجوى } ضمير جماعة الناس كلّهم ، نظير قوله تعالى : { ألا إنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } إلى قوله : { وما يُعلنون } في سورة هود ( 5 ) ، وليس عائداً إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله : { يستخفون من الناس } [ النساء : 108 ] إلى هنا ؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلاّ فيما يختصّ بقضيتهم ، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله : { إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } . وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة ، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة ، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه ، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره ، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث . فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم ، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره ، كما قال صالح بن عبد القدوس :
الستر دون الفاحشات ولا *** يَغشاك دون الخير مِنْ ستْرِ
وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة ، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال : { ألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهو عنه } [ المجادلة : 8 ] وقال : { إنّما النجوى من الشيطان ليُحزن الذين آمنوا } [ المجادلة : 10 ] .
وقد ظهر من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين ، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلاّ على أهل الريَب والشبهات ، بحيث لا تصير دأباً إلاّ لأولئك ، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى .
ومعنى { لا خير } أنّه شرّ ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه ، لعدم الاعتداد بالواسطة ، كقوله تعالى : { فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال } [ يونس : 32 ] ، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ .
وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو مُتناجيِهم ، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلاً من نجواهم فيه خير ، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع . والاستثناء في قوله : { إلاّ من أمر بصدقة } على تقدير مضاف ، أي : إلاّ نجوى من أمر ، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين ، وهو مستثنى من { كثير } ، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير ، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم . أمّا القسم الذي أخرجَته الصفة ، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع ، وليس فيها ضرر ، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة ، أو نكاح أو نحو ذلك .
وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور : الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس . وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير ، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة ، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم ، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء ، فبَقي ما عدا ذلك من نجواهم ، وهو الكثير ، موصوفاً بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل ، وأنْ لا داعي إلى جعله منقطعاً . والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة ، ولو تناجى فيها مَن غالب أمره قصد الشرّ .
وقوله : { ومن يفعل ذلك } إلخ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله . فدلّ على أنّ كونها خيراً وصف ثابت لها لما فيها من المنافع ، ولأنّها مأمور بها في الشرع ، إلاّ أنّ الثواب لا يحصل إلاّ عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث : « إنما الأعمال بالنيات » . وقرأ الجمهور : ( نُؤتيه ) بنون العظمة على الالتفات من الغيبة في قوله : { مرضاة الله } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا خير في كثير من نجواهم}، يعني قوم طعمة قيس بن زيد، وكنانة بن أبي الحقيق، وأبو رافع، وكلهم يهود، حين تناجوا في أمر طعمة، ثم استثنى، فقال: {إلا من أمر بصدقة أو معروف}، يعني القرض، {أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}: جزاء عظيما...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}: لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا. {إلاّ مَنْ أمَرَ بصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ}؛ والمعروف: هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البرّ والخير.
{أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاسِ}: وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به. ثم أخبر جلّ ثناؤه بما وعد من فعل ذلك، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله، يعني طلب رضا الله بفعله ذلك¹ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}: فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما، ولا حدّ لمبلغ ما سمى الله عظيما يعلمه سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فكأنه قال {لا خير في كثير} منهم إلا من يرجع أمره إلى ما ذكر، فيصير إلى خير. وقد يحتمل أن قوما يرجع نجواهم إلى خير، وهم أقلهم. ومن فعل النجوى على أن الفعل ربما يكون فعل خير، وإن كانوا أهل النفاق والكفر. لكن بين أنه غير مقبول إلا أن يبتغي مرضاة الله. وذلك لا يكون إلا أن يؤمنوا...
النَّجْوَى هو: الإسرار؛ فأبان تعالى أنه لا خير في كثير مما يتسارّون به إلا أن يكون ذلك أمراً بصدقة أو أمراً بمعروف أو إصلاح بين الناس، وكلّ أعمال البِرِّ معروف لاعتراف العقول بها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبَه إلى غيره؛ ففضيلة الصَدَقَة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه،... وأمّا المعروف: فكلُّ حَسَنٍ في الشرع فهو معروف،... {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ} غيرَ سائلٍ به مالاً أو حائزٍ لنفسه به حالاً فعن قريب يبلغ رتبة الإمامة في طريق الله، وهذا هو الأجر الموعود في هذه الآية...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف} ومعناه: أن لا تتكلم فيما لا يعنيك، وتقتصر على المهم، ففيه النجاة. [كتاب الأربعين في أصول الدين: 83-84]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} من تناجي الناس {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} إلا نجوى من أمر، على أنه مجرور بدل من كثير، كما تقول: لا خير في قيامهم إلا قيام زيد. ويجوز أن يكون منصوباً على الانقطاع، بمعنى: ولكن من أمر بصدقة، ففي نجواه الخير. وقيل: المعروف: القرض. وقيل إغاثة الملهوف. وقيل هو عامّ في كل جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة: الواجب، وبالمعروف: ما يتصدق به على سبيل التطوّع... وشرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوي فاعل الخير عبادة الله والتقرّب به إليه، وأن يبتغي به وجهه خالصاً. لأن الأعمال بالنيات.
فإن قلت: كيف قال: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك}؟ قلت: قد ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله، لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل. ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر الأفعال.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في {نجواهم} عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة،... و «المعروف»: لفظ يعم الصدقة والإصلاح، ولكن خُصَّا بالذكر اهتماماً بهما، إذ هما عظيماً الغناء في مصالح العباد...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ بِكْرٌ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ فِيهَا ذِكْرٌ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ.
وَالثَّانِي: النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَبَعْدَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَالسَّعْيِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَفِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى مَصْدَرًا، كَالْبَلْوَى وَالْعَدْوَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْمُنْتَجِينَ كَمَا قَالَ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}.
فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُنْتَجِينَ فَقَوْلُهُ: {إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} اسْتِثْنَاءُ شَخْصٍ مِنْ شَخْصٍ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ: إلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ النَّجْوَى:
ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ».
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ، وَهُوَ ضَرَرٌ؛ وَالضَّرَرُ لَا يَحِلُّ بِإِجْمَاعٍ، وَبِالنَّصِّ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَمُخْلِصٍ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ يَتَوَقَّعُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حِيلَةٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ؛ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ.
وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ النَّهْيِ وَتَمَادِي الْأَمْرِ وَعُمُومُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ. «مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ». وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَدَعَا رَابِعًا، وَأَوْقَفَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ رَيْثَمَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ يَعْنِي أَرْبَعٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عُلِمَتْ بِالنَّظَرِ اطَّرَدَتْ حَيْثُمَا وُجِدَتْ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا أَيْنَمَا كَانَتْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ تَحْزِينُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ كَانَ التَّحْزِينُ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ آكَدَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّلٌ بِتَحْزِينِ الْوَاحِدِ فَإِذَا اسْتَأْذَنَهُ فَأَذِنَ لَهُ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله {إلا من أمر بصدقة} وإما أن يكون من الخيرات الروحانية، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله {أو معروف} وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله {أو إصلاح بين الناس} فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية...
[والآية] من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي، ويحسن فيه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} أي نجوى جميع المناجين {إلا من} أي نحوى من {أمر بصدقة} ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال، عمم بقوله: {أو معروف} أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها. ولما كان إصلاح ذات البين أمراً جليلاً، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله: {أو إصلاح بين الناس} أي عامة، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنباً... ولما كان التقدير: فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير، وله عليها أجر؛ عطف عليه قوله: {من يفعل ذلك} أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء {ابتغاء مرضاة الله} الذي له صفات الكمال، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية {فسوف نؤتيه} أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أجراَ عظيماً}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والحكمة في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر هي أن العادة الغالبة وسنة الفطرة المتبعة هي استحباب إظهار الخير والتحدث به في الملأ، وإن الشر والإثم هو الذي يخفى، ويذكر في السر والنجوى، وفي الحديث الشريف: (الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس) وقلما يكتم الناس شيئا من الخير المطلق المتفق على كونه خيرا، وإنما الغالب في كتمان بعض الخير وإسراره وجعل الحديث فيه نجوى أن يكون ذلك الخير خيرا للمتناجين وشرا لغيرهم أو مؤذيا له ولو من بعض الوجوه...
وهنالك أمور من الخير تتوقف خيريتها أو كمال الخير فيها وخلوه من الشوائب على كتمانه وجعل التعاون عليه سرا والحديث فيه نجوى، وهو ما ذكره الله تعالى من هذه الأمور الثلاثة. فما استثناها الله تعالى من النجوى التي لا خير في أكثرها إلا لأنها يحتاج فيها إلى النجوى...
وأما المعروف فقد يخفى وجه استثنائه...
ولما كان الشرع مهذبا للنفوس ومرشدا للعقول، ومقوما لما مال وانْآد من أحكام الفطرة البشرية بسوء اجتهاد الناس، صار أعرف المعروف ما أرشد إليه أو أقره واستحسنه، وأنكر المنكر ما نهى عنه وذمه وكرهه، فالذي يؤمر بالمعروف على مسمع من الناس يستاء في الغالب من الآمر، ولا سيما إذا كان من أقرانه حقيقة أو ادعاء، لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل، واتهاما له بالتقصير أو الجهل، وإشرافا عليه بالتعليم والتهذيب، من أجل هذا كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، وأقرب إلى القبول والإمضاء، وكان من هداية اللطيف الخبير أن يدخله في هذا الاستثناء، ليكف عنه محبو الاستعلاء، ولا يتأثم به من يعرفون فائدة الإخفاء...
وأما الإصلاح بين الناس فهو أيضا من الخير الذي قد يترتب على إظهاره والتحدث به في الملأ شر كبير، وضرر مستطير، فينقلب الإصلاح المطلوب إفسادا،...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة. فهو أولا نزلت بعض آياته تعليقا وتعقيبا على الأحداث التي تلت حادث اليهودي. من ارتداد "بشير
ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية؛ بتفوقها التربوي والتنظيمي؛ وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي؛ وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها.. وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها، ويتولاه المنهج القرآني كله..
(لا خير في كثير من نجواهم. إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله، فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا)..
لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيدا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة المسلمة، لتبيت أمرا.. وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبى صلى الله عليه وسلم مسارة إن كان أمرا شخصيا لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس. أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص.
والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون "جيوب "في الجماعة المسلمة؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها. وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرا بليل، وتواجه به الجماعة أمرا مقررا من قبل؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها -وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول.
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها..
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة. وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتوحا؛ تعرض مشكلاته- التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيره؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن -عرضا عاما. وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء. لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره، إلا الذين يتأمرون عليه! أو على مبدأ من مبادئه- من المنافقين غالبا -وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع.
وهذه حقيقة تنفعنا. فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات!
والنص القرآني هنا يستثني نوعا من النجوى.. هو في الحقيقة ليس منها، وإن كان له شكلها:
(إلا من أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس)..
وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير، فيقول له: هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين. أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه. أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعا.. وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور، وتتفق فيما بينها سرا على النهوض بهذا الأمر. فهذا ليس نجوى ولا تآمرا. ومن ثم سماه "أمرًا "وإن كان له شكل النجوى، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له..
على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله:
(ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما)..
فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان، أو الإصلاح بين فلان وعلان. ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه- والله رجل طيب -! يحض على الصدقة والمعروف، ويسعى في الإصلاح بين الناس! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله، بهذا الخير. فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به. والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه، ويكتبه له في سجل السيئات!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة، ولا الأحوال التي حذّرت منها، من تناج وتحاوُر، سِرّا وجهراً، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها، لذلك كان المقام حقيقاً بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه، لأنّ في ذلك تعليماً وتربية وتشريعاً، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين، وكان التناجي فاشياً لمقاصد مختلفة، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا، أي خوفاً، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهلِ الكتاب، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو {ألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى} [المجادلة: 8] الآيات، وقوله: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} [الإسراء: 47] وقوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} [البقرة: 14]، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضاً، فقال: {لا خير في كثير من نجواهم}. فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لإفادة حكم النجوى، والمناسبةُ قد تبيّنت...
وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث. فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
التفسير العام لكلمة الصدقة نقول: كل ما يقدم من معونة إنسانية بالبدن أو المال عطاء أو تركا، وكل ما يتسامح فيه الإنسان: تأليفا لقلب محب يكون صدقة بل إن بعض العلماء جعلها تعم كل أبواب الخير، ومن ذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم:"كل معروف صدقة"...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
تبين [الآية] أن أكثر ما يتناوله الناس في أحاديثهم من القيل والقال لا خير فيه، ولا فائدة من ورائه، وأن أحسن الحديث الذي ينبغي أن يشغل المسلمون أنفسهم به هو حديث البر والمعروف وإصلاح ذات البين، وذلك بقصد حضهم على الاتجاه وجهة الخير، وتنفيرهم من الاتجاه وجهة الشر، فيما يتبادلونه من آراء وأفكار، حيث إن الفكر عادة هو الذي يدفع إلى العمل، فإذا كانت أحاديث الناس ومحاوراتهم تنحو نحو الهدم اتجهت أعمالهم للهدم لا محالة، وعلى العكس من ذلك إذا كانت مشاغلهم الفكرية تنحو نحو البناء اتجهت أعمالهم إلى البناء بدل الهدم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لقد كانت حادثة السرقة، التي تقدم الحديث عنها، منطلقاً للحديث عن عدة مبادئ تتصل بخصوصياتها وترتبط بالقضايا العامة للناس؛ ومن هذه المبادئ موضوع التناجي الذي يمثل الحديث بين شخصين أو أكثر، والذي يأخذ طابع السريّة والتخفّي حذراً من اطلاع أحد آخر عليه. وقد جاءت هذه الآية لتتحدث عن الموضوع في مستوى القاعدة، فأطلقت الحكم في البداية على سبيل العموم: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ}، لأن السرية في الحديث في المجتمع الذي يرتكز على أسس العصبية أو يخضع لبعض أعراف الجاهلية ورواسبها، قد تلتقي غالباً بالأفكار الشريرة التي يخشى أصحابها من اطّلاع الناس عليها، فيحاولون أن يستفيدوا من أجواء السرية التي تشعرهم بالأمن والطمأنينة في الحديث عن كل ما يريدون من أوضاع التآمر على الإسلام والمسلمين. أما الذين يفكرون بالخير، فإنهم لا يخافون من تحمُّل مسؤوليته، ولا يحاذرون من الإعلان عنه أمام الناس، لأنه يلتقي بالجانب المشرق من حياة الأمة، وبالأجواء الطاهرة من قضاياها وأمانيها. فليست هناك أية مشكلة طبيعية من هذه الناحية، إلا في بعض الحالات التي يحتاج فيها الإنسان إلى الإسرار، حذراً من أعداء الأمة الذين يريدون تعطيل فرص الصلاح والإصلاح للناس. وهذا هو ما استثناه القرآن في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ...}
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد أشارت الآيات السابقة إِلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إِلى هذا الأمر بشيء من التفصيل، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً، لأنّها مشتقة من المادة «نجوة» أي بمعنى الأرض المرتفعة، وبما أنّ الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها، وأن الجلسات السرية والهمس يتمّان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في الأراضي المحيطة بها سمّيت هذه الأخيرة بالنجوى.
ويرى بعضهم أنّ كلمة «النجوى» مشتقة من مادة «النجاة» أي التحرر، وبمعنى أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل، وإن الاجتماع السري أو الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين.
والآية هنا تذكر أنّ أغلب الاجتماعات السرّية التي يعقدها أولئك تهدف إِلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إِذ تقول: (لا خير في كثير من نجواهم).
ولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عملا مذموماً أو حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإِنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: (إِلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إِصلاح بين الناس).
فإِذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة الله، فإِنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً، حيث تقول الآية: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).
وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّية من حيث المبدأ بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: (إِنّما النجوى من الشيطان...) والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالباً ما تحدث لأغراض سيئة، وحيث أنّ عمل الخير والشيء النافع والإِيجابي لا يحتاج في العادة إِلى أن يكون أو يبقى سرّياً أو مكتوماً عن الناس، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى، أو في اجتماعات سرّية.
ولمّا كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإِنسان على الاستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير، لذلك ورد الاستثناء بصورة مكررة في القرآن، كما في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصية الرّسول وتناجوا بالبرّ والتقوى...).
والنجوى إِذا حصلت ابتدأ في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأفضل أن لا يبادر الإِنسان إِلى النجوى إِلاّ إِذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.
وبديهي أنّ سمعة الإِنسان تستلزم أحياناً اتباع أُسلوب النجوى، ومن جملة هذه الموارد تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية، التي أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه المعونات.
والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حيث أنّ هذا الأمر لو تمّ أحياناً بصورة علنية لأصبح سبباً في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بين الناس الحاضرين، وقد يصبح سبباً في أن يمتنع عن قبول ذلك ويقاوم هذا الأمر الذي عبّرت عنه الآية بالمعروف.
والحالة الأخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإِصلاح بين الناس، الذي يقتضي أن يكون سرياً أحياناً لضمان تحقيقه، إِذ من الممكن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنية لحال دون حدوث الإِصلاح، لذلك يجب أن يتمّ الإِصلاح بالتحدث إِلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية، أي بطريق النجوى.
إِذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر الحديث عنها، وكذلك في حالات مشابهة.
والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه هو أنّها تأتي كلها ضمن معنى «الصدقة» وذلك لأنّ من يأمر بالمعروف إِنّما يدفع زكاة علمه، ومن يسعى في إِصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس.
وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «إِنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم».