24- ولقد عزمت أن تخالطه ونازعته نفسه إليها ، لولا أن رأي نور الله الحق نُصْبَ عينيه قد استضاء به ، ولم يطاوع ميل النفس ، وارتفع عن الهوى ، فامتنع عن المعصية والخيانة وثبت على طهره وعفته . وهكذا ثبتنا يوسف على الطهر والعفاف لنصرف عنه سوء الخيانة ومعصية الزنا ، إنه من عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله .
قوله تعالى : { ولقد همت به وهم بها } ، والهم هو : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه . فهمها : عزمها على المعصية والزنا . وأما همه : فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن . وعن مجاهد قال : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه ، وهذا قول أكثر المتقدمين مثل سعيد بن جبير والحسن . وقال الضحاك : جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بإحدى يديه إلى جيد يوسف وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتى جمع بينهما . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول ، والقول ما قال متقدمو هذه الأمة ، وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء عليهم السلام من غير علم . وقال السدي وابن إسحاق : لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عليه السلام عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه إلى نفسها ، فقالت : يا يوسف ما أحسن شعرك ! . قال : هو أول ما ينتثر من جسدي . قالت : ما أحسن عينيك ! قال : هي أول ما تسيل على وجهي في قبري . قالت : ما أحسن وجهك ! قال : هو للتراب يأكله وقيل : إنها قالت : إن فراش الحرير مبسوط ، فقم فاقض حاجتي . قال : إذا يذهب نصيبي من الجنة . فلم تزل تطمعه وتدعوه إلي اللذة ، وهو شاب يجد من شبق الشباب ما يجده الرجل ، وهي امرأة حسناء جميلة ، حتى لان لها مما يرى من كلفها ، وهم بها ، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره . وزعم بعض المتأخرين : أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام ، وقال : تم الكلام عند قوله : { ولقد همت به } ، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام فقال : { وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } ، على التقديم والتأخير ، أي : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، ولكنه رأى البرهان فلم يهم . وأنكره النحاة ، وقالوا : إن العرب لا تؤخر " لولا " عن الفعل ، فلا تقول : لقد قمت لولا زيد ، وهو يريد لولا زيد لقمت . وقيل : همت بيوسف أن يفترشها ، وهم بها يوسف أي : تمنى أن تكون له زوجة . وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم الدين والعلم . وقال بعضهم : إن القدر الذي فعله يوسف عليه السلام كان من الصغائر ، والصغائر تجوز على الأنبياء عليهم السلام . روي أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك حين خرج من السجن وأقرت المرأة ، قال يوسف : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبريل : هممت بها يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك : { وما أبرئ نفسي } الآية . وقال الحسن البصري : إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء عليهم السلام في القرآن ليعيرهم ، ولكن ذكرها ليبين موضع النعمة عليهم ، ولئلا ييأس أحد من رحمته . وقيل : إنه ابتلاهم بالذنوب لينفرد بالطهارة والعزة ، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية . وقيل : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء وترك الإياس من المغفرة والعفو . وقال بعض أهل الحقائق : الهم همان : هم ثابت ، وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضى ، مثل هم امرأة العزيز ، والعبد مأخوذ به ، وهم عارض وهو الخطرة ، وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم ، مثل هم يوسف عليه السلام ، فالعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد محمش الزيادي ، ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، ثنا أحمد بن يوسف السلمي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر عن همام بن منبه قال : ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها " .
قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } ، اختلفوا في ذلك البرهان : قال قتادة وأكثر المفسرين : أنه رأى صورة يعقوب ، وهو يقول له : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء ! . وقال الحسن وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقال السدي : نودي يا يوسف تواقعها ! إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوف السماء لا يطاق ، ومثلك إن تواقعها مثله إذا مات ووقع على الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفعه عن نفسه . وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وهم بها } قال : حل سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته ، فإذا بكف قد بدت بينهما بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار-11 ] فقام هاربا وقامت ، فما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهرت تلك الكف مكتوبا عليها : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } [ الإسراء-32 ] فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد فظهر ، ورأى تلك الكف مكتوبا عليها { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة-281 ] فقام هاربا وقامت ، فلما ذهب عنهما الرعب عادت وعاد ، فقال الله عز وجل لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة ، فانحط جبريل عليه السلام عاضا على أصبعه ، يقول : يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء . وروي أنه مسحه بحناحه فخرجت شهوته من أنامله . وقال محمد بن كعب القرظي : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين هم بها فرأى كتابا في حائط البيت : { لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } . وروى عطية عن ابن عباس : في البرهان أنه رأى مثال الملك . وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما : البرهان النبوة التي أودعها الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل . وعن علي بن الحسين قال : كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب ، فقال لها يوسف : لم فعلت هذا ؟ . فقالت : استحييت منه أن يراني على المعصية . فقال يوسف : أتستحين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ؟ فأنا أحق أن أستحي من ربي ، وهرب . قوله تعالى : { لولا أن رأى برهان ربه } جواب لولا محذوف ، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لواقع المعصية . { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } ، فالسوء : الإثم . وقيل : السوء القبيح . والفحشاء : الزنا .
قوله تعالى : { إنه من عبادنا المخلصين } ، قرأ أهل المدينة والكوفة : { المخلصين } بفتح اللام حيث كان إذا لم يكن بعده ذكر الدين ، زاد الكوفيون مخلصاً في سورة مريم ففتحوا . ومعنى المخلصين المختارين للنبوة ، دليله : { إنا أخلصناهم بخالصة } [ ص~ -146 ] . وقرأ الآخرون بكسر اللام ، أي : المخلصين لله الطاعة والعبادة .
{ 23 - 29 } { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها أعظم أجرا ، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة ، لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعا أو كارها ، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز ، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك ، أن { رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد ، ولا إحساس بشر .
{ وَ } زادت المصيبة ، بأن { غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ } وصار المحل خاليا ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي : افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ ، ومع هذا فهو غريب ، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته ، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو العذاب الأليم .
فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هما تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة ، و { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } أي : أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي .
فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح ، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله ، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه .
ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد ، بل نرى القرآن الكريم بحكى لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ . . . } .
وهذه الآية الكريمة من الآيات التي خلط المفسرون فيها بن الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة .
وسنبين أولا الرأى الذي نختاره في تفسيرها ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول : ألهّم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشئ ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله .
وقال : بعض العلماء : الهم نوعان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخد به صاحبه ، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس ، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه ، لأن خطور المناهى في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .
روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " .
وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها " هيْت لك " .
كما أجمعوا على أن يوسف - عليه السلام - لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم . . .
وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرراة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل .
والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله - تعالى - في قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذي دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به .
أو هو - كما يقول ابن جرير - رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به . .
والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف - عليه السلام - قصداً جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها . . .
{ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعى لهذا الميل . . .
ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله - تعالى - له على مقاومة شهوته . . . كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة .
هذا هو الرأى الذي نختاره في تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين .
فمن المفسرين القدامى الذن ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه .
وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه : ولقد همت بمخالطته ؛ " وهم بها " أى : وهم بمخالطتها { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوف تقديره ؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله . معناه : لولا أنى خفت الله لقتلته .
فإن قلت : كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية ؟
قلت : " المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب ، ميلا يشبه الهم به ، وكما تقتضيه تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يكسر ما به ، ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديؤد المسمى هما لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته ، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين "
ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه : قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : بمخالطته . . والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف بعدما باشرت مباديها . . .
والتأكيد - باللام وقد - لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه .
{ وَهَمَّ بِهَا } أى : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية . . . ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحتل التكليف ، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا ، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به . . . { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا ، وسوء سبيله .
والمراد برؤيته له : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . . .
ومن المفسرين من يرى أن المراد بهما به : الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها .
وان المراد بهمه بها : الدفاع عن نفسه برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب .
وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار ، فقد قال ما ملخصه :
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : وتالله لقد قهمت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها ، وهى في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها ، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه . . . فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها في التمنع . . مما جعلها تحاول البطش به بعد أن أذل كرامتها ، وهو انتقام معهود من مثلها ، وممن دونها في كل زمان ومكان .
وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله ، وهو قوله - تعالى - { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله - تعالى - { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } وهو إما النبوة . . . وإما معجزتها . . وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا ، وهى مراقبته لله - تعالى - ورؤيته ربه متجليا له ، ناظرا إليه .
وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف ، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذي وقع عليه منها . . . اقول : ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك ، لا أرى دليلا عليه من الآية ، لا عن طريق الإِشارة ، ولا عن طريق العبارة . . .
ولعل صاحب المنار - رحمه الله - أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف - عليه السلام - عن أن يكون قدهم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية ، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإِبعاد ، لأن خطور المناهى في الأذهان ، لا مؤاخذة عليها ، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل .
هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين في معنى الآية الكيرمة ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة . . . وإنما هي من الأوهام الإِسرائيلية التي تتنافى كل التنافى مع أخلاق عباد الله المخلصين ، الذين على رأسهم يوسف - عليه السلام .
قوله - سبحانه - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - به ، ورعايته له .
والكاف : نعت لمصدر محذوف والإِشارة بذلك إلى الإِراءة المدلول عليها بقوله { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك .
والصرف : نقل الشئ من مكان إلى مكان والمراد به هنا : الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه ، أى : أريناه مثل هذه الإِراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع في السوء - أى في المنكر والفجور والمكروه - والفحشاء - أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزن ونحوه .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } - بفتح اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا .
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمر " المخلصين " - بكسر اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا .
والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه - عليه السلام - عن السوء والفحشاء .
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود . فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب ، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته :
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) !
لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه ! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن ! - تنهي عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي ! حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي ، فجاء فضربه في صدره . . إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع !
وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل ، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك .
وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي . وقال : إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة ، وهم هو برد الاعتداء ؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر . . وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة . وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا ، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف ، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة ، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما .
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) .
هو نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم . . وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة . . ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك . فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا .
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف . وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية . وما كان يوسف سوى بشر . نعم إنه بشر مختار . ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف الطارئة ، عاد إلى الاعتصام والتأبي .
( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ) . .
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام ، وقد روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطائفة من السلف في ذلك ما ذكره ابن جرير وغيره ، والله أعلم .
وقال بعضهم : المراد بهمه بها هَمّ خَطَرات حديث{[15125]} النفس . حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ، ثم أورد{[15126]} البغوي هاهنا حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : إذا هَمّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها ، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإنما تركها من جَرّائي ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها " {[15127]} .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين{[15128]} وله ألفاظ كثيرة ، هذا منها .
وقيل : هم بضربها . وقيل : تمناها زوجة . وقيل : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : فلم يهم بها .
وفي هذا القول نظر من حيث العربية ، ذكره ابن جرير وغيره{[15129]} .
وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضا : فعن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، وأبي صالح ، والضحاك ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم : رأى صورة أبيه يعقوب ، عليه السلام ، عاضا على أصبعه بفمه{[15130]} .
وقيل عنه في رواية : فضرب في صدر يوسف .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : رأى خيال{[15131]} الملك ، يعني : سيده ، وكذا قال محمد بن إسحاق ، فيما حكاه عن بعضهم : إنما هو خيال إطفير سيده ، حين دنا من الباب{[15132]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن أبي مودود{[15133]} سمعت من محمد بن كعب القُرَظي قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [ الإسراء : 32 ]
وكذا رواه أبو مَعْشَر المدني ، عن محمد بن كعب .
وقال عبد الله بن وهب ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر قال : سمعت القرظي يقول في : " البرهان " الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } الآية [ الانفطار : 10 ] ، وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } الآية : [ يونس : 61 ] ، وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ]قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي ، وزاد آية رابعة { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا } [ الإسراء : 32 ]
وقال الأوزاعي : رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه{[15134]} عن ذلك .
قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به ، وجائز أن يكون صورة يعقوب ، وجائز أن يكون [ صورة ]{[15135]} الملك ، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك . ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك ، فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى .
قال : وقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } أي : كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه ، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } أي : من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار ، صلوات الله وسلامه عليه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
معنى الهمّ بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته، ما لم يواقع.
فأما ما كان من همّ يوسف بالمرأة وهمها به... عن مجاهد: {وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها}، قال: جلس منها مجلس الرجل من امرأته...
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا، وهو لله نبيّ؟ قيل: إن أهل العلم اختلفوا في ذلك؛
فقال بعضهم: كان ممن ابتلي من الأنبياء بخطيئة، فإنما ابتلاه الله بها ليكون من الله عزّ وجلّ على وَجَل إذا ذكرها، فيجدّ في طاعته إشفاقا منها، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته.
وقال آخرون: بل ابتلاهم الله بذلك ليعرّفهم موضع نعمته عليهم، بصفحه عنهم، وتركه عقوبته عليه في الآخرة.
وقال آخرون: بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله، وترك الإياس من عفوه عنه، إذا تابوا.
وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف، وتأوّلوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالاً مختلفة: فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف، وهمّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه، لولا أن يوسف رأى برهان ربه، وكفه ذلك عما همّ به من أذاها، لا أنها ارتدعت من قِبلَ نفسها. قالوا: والشاهد على صحة ذلك قوله: {كذلكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ}، قالوا: فالسوء: هو ما كان همّ به من أذاها، وهو غير الفحشاء.
وقال آخرون منهم: معنى الكلام: ولقد همت به. فتناهى الخبر عنها، ثم ابتدئ الخبر عن يوسف، فقيل: وهمّ بها يوسف، لولا أن رأى برهان ربه. كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف لم يهمّ بها، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها، ولكنه رأى برهان ربه، فلم يهمّ بها، كما قيل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ إلاّ قَليلاً}.
ويفسد هذين القولين أن العرب لا تقدم جواب «لولا» قبلها، لا تقول:"لقد قمت لولا زيد"، وهي تريد: "لولا زيد لقد قمت"، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله.
وقال آخرون منهم: بل قد همّت المرأة بيوسف، وهمّ يوسف بالمرأة، غير أن همهما كان تمثيلاً منهما بين الفعل والترك، لا عزما ولا إرادة، قالوا: ولا حرج في حديث النفس ولا في ذكر القلب إذا لم يكن معهما عزم ولا فعل. وأما البرهان الذي رآه يوسف، فترك من أجله مواقعة الخطيئة، فإن أهل العلم مختلفون فيه؛ فقال بعضهم: نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة... وقال آخرون: البرهان الذي رأى يوسف، فكفّ عن مواقعة الخطيئة من أجله، صورة يعقوب عليهما السلام يتوعدّه...
عن قتادة: {لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه}: رأى آية من آيات ربه، حجزه الله بها عن معصيته، ذُكر لنا أنه مُثّلَ له يعقوب حتى كلمه، فعصمه الله، ونزع كلّ شهوة كانت في مفاصله...
وقال آخرون: بل البرهان الذي رأى يوسف ما أوعد الله عزّ وجلّ على الزنا أهله...
وقال آخرون: بل رأى تمثال الملك...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أخبر عن همّ يوسف وامرأة العزيز كلّ واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من آيات الله، زجرته عن ركوب ما همّ به يوسف من الفاحشة. وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأيّ ذلك من أيّ. والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمِه.
وقوله: {كذلكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ}، يقول تعالى ذكره: كما أرينا يوسف برهاننا على الزجر عما همّ به من الفاحشة، كذلك نسبب له في كل ما عرض له من همّ يهمّ به فيما لا يرضاه، ما يزجره ويدفعه عنه، كي نصرف عنه ركوب ما حرّمنا عليه وإتيان الزنا، لنطهره من دنس ذلك.
وقوله: {إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ}، اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة: {إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ}، بفتح اللام من «المخلصين»، بتأويل: إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا. وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة: {إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلِصِينَ}، بكسر اللام، بمعنى: أن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا، فلم يشركوا بنا شيئا، ولم يعبدوا شيئا غيرنا.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بهما جماعة كثيرة من القرأة، وهما متفقتا المعنى؛ وذلك أن من أخلصه الله لنفسه فاختاره، فهو مخلص لله التوحيد والعبادة، ومن أخلص توحيد الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئا، فهو ممن أخلصه الله، فبأيتهما قرأ القارئ، فهو للصواب مصيب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(-وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) أما ما قاله أهل التأويل: إنها أسلمت له (وهم بها) أي حل سراويله، وأمثال هذا، من الخرافات فهذا كله مما لا يحل أن يقال في شيء من ذلك...
والدلالة على فساد ذلك وجوه: أحدها: قوله: (هي راودتني عن نفسي) [الآية: 26] ولو كان منه الإرادة والمراودة لم يكن ليقول ذلك عنها ويبرئ نفسه من ذلك.
والثاني: قوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) [الآية: 24] ولو كان شيء مما ذكروا من حل السراويل والجلوس بين رجليها لم يكن السوء مصروفا عنه. والثالث: قوله: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) [الآية: 52] ولو كان منه ما ذكروا لقد خانه. والرابع: قول النسوة وقولها: (آلان حصحص الحق أنا راودته عن نفسه) [الآية: 51]. هذا كله يدل أن ما قاله أهل التأويل فاسد، لا يحل أن يتكلم فيه شيء من ذلك. وليس في ظاهر الآية شيء مما قالوا من قليل ولا كثير؛ إذ ليس فيه سوى أن (همت به وهم بها)...
وأصل البرهان الحجة، أي لولا ما رأى من حجة الله، وإلا كان يهم بها، ولكن لا ندري ما تلك الحجة، والله أعلم بذلك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى (الهم) في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله: "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، أي أرادوا ذلك وعزموا عليه... ومنها: خطور الشيء بالبال، وإن لم يعزم عليه؛ كقوله: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما "والمعنى أن الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ههنا عزما لما كان الله وليهما... ومنها المقاربة يقولون: هم بكذا وكذا، أي كاد يفعله... ومنها الشهوة وميل الطباع، يقول القائل فيما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه إليه: هذا من همي، وهذا أهم الأشياء إلي...
وإذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (عليه السلام) العزم على القبيح وأجزنا باقي الوجوه، لأن كل واحد منها يليق بحال... ويمكن أن يحمل الهم في الآية على العزم، ويكون المعنى، وهم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل كنت هممت بفلان أي بأن أوقع به ضربا أو مكروها وتكون الفائدة على هذا الوجه في قوله "لولا ان رأى برهان ربه "مع أن الدفع عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها، إنه لماهم بدفعها أراه الله برهانا على أنه إن أقدم على ما يهم به، أهلكه أهلها وقتلوه، وأنها تدعي عليه المراودة لها على القبيح، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه أو ظن القبيح واعتقاده فيه...
ويكون التقدير ولقد همت به، وهم بدفعها، لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك... وإنما حمل همها على الفاحشة وهمه على غير ذلك، لأن الدليل دل من جهة العقل والشرع على أن الأنبياء لا يجوز عليهم فعل القبائح، ولم يدل على أنه لا يجوز عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح، قال الله تعالى "وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه". وقوله حاكيا عنها؟ "الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين" وقال: "قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم" وأجمعت الأمة من المفسرين وأصحاب الأخبار على أنها همت بالمعصية، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة أن يوسف لم يهم بالفاحشة، ولا عزم عليها؛ منها: قوله: "كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء"، "وقوله: "إنه من عبادنا المخلصين" ومن ارتكب الفاحشة لا يوصف بذلك...
ووجه آخر في الآية: إذا حمل الهم على أن المراد به العزم، وهو أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك، وقُتلت لولا أني خلصتك، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت، وإن لم يكن وقع هلاك ولا قتل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وفي تعيين ذلك البرهان- ما الذي كان؟ -تكلُّفٌ غيرُ محمودٍ إذ لا سبيل إليه إلا بالخَبَرِ المقطوع به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} معناه ولقد همت بمخالطته {وَهَمَّ بِهَا} وهمّ بمخالطتها {لَوْلا أَن رأى بُرْهَانَ رَبّهِ} جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف؛ لأنّ قوله: {وَهَمَّ بِهَا} يدل عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أني خفت الله، معناه لولا أني خفت الله لقتلته...
فإن قلت: كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصدٌ إليها؟ قلت المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم. وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين...
ولو وُجِدَت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكِرَت توبته واستغفاره، كما نُعِيَت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب، وعلى ذي النون، وذُكِرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أُولي القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ إذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك: {ولقد همت به} أي أوقعت الهم، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها {وهمَّ بها} كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب {لولا أن رءآ} أي بعين قلبه {برهان ربه} الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي لهمّ بها، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها لتوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء، وأن السجن أحب إليه من ذلك، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} [يوسف:25] -الآية، من مطلق الإرادة، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد "لولا "في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص:10] أي لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب "لولا" المحذوف بما لا دليل عليه من سابق الكلام ولا لاحقه- نبه على ذلك الإمام أبو حيان، وسبقه إلى ذلك الإمام الرازي وقال: إن هذا قول المحققين من المفسرين، وأشبع في إقامة الدلائل على هذا بما يطرب الأسماع، وقدم ما يدل على جواب الشرط ليكون أول ما يقرع السمع ما يدل على أنه كان في غاية القدرة على الفعل، وأنه ما منعه منه إلاّ العلم بالله، فكأنه قيل: إن هذا التثبيت عظيم، فقيل إشارة إلى أنه لازم له كما هو شأن العصمة: {كذلك} أي مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر {لنصرف عنه السوء} أي الهمّ بالزنا وغيره {والفحشاء} أي الزنا وغيره، فكأنه قيل: لِمَ فعل به هذا؟ فقيل {إنه من عبادنا} أي الذين عظمناهم بما لنا من العظمة {المخلصين *} أي هو في عداد الذين هم خير صرف، لا يخالطهم غش...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَهَمَّ بِهَا} أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصداً اختيارياً لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم اتصافه عليه السلام به، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به كما قيل، وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد: حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولقد همت به} أي وتالله لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها، وهي في نظرها سيدته وهو عبدها، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة، ومراودة عن نفسها لا مراوِدة، حتى إن حماة الأنوف من كبراء الرجال، ليطئطئون الرؤوس للفقيرات الحسان ربات الجمال، ويبذلون لهن ما يعتزون به من الجاه والمال...
ولكن هذا العبد العبراني الخارق للطبيعة البشرية في حسنه وجماله، وفي جلاله وكماله، وفي إبائه وتألهه، قد عكس القضية، وخرق نظام الطبيعة والعوائد بين الجنسين، فأخرج المرأة من طبع أنوثتها في إدلالها وتمنعها، وهبط بالسيدة المالكة من عزة سيادتها وسلطانها، ودهور الأميرة [الأرستقراطية] من عرش عظمتها وتكبرها، وأذلها لعبدها وخادمها، بما هونه عليها: قرب الوساد، وطول السواد والخلوة من وراء الأستار والأبواب، حتى إنها لتراوده عن نفسه في مخدع دارها، فيصد عنها علوا ونفارا، ثم تصارحه بالدعوة إلى نفسها فيزداد عتوا واستكبارا، معتزا عليها بالديانة والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده وهو سيدها وزوجها وحقه عليها أعظم، إن هذا الاحتقار لا يطاق، ولا علاج لهذا الفاتن المتمرد إلا تذليله بالانتقام، هذا ما ثار في نفس هذه المرأة المفتونة بطبيعة الحال [كما يقال] وشرعت في تنفيذه أو كادت، بأن همت بالبطش به في ثورة غضبها، وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان، وأكثر بما ترويه لنا منه قضايا المحاكم وصحف الأخبار، وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله وهو قوله تعالى:
{وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه، ما هو مصداق قوله تعالى: {والله غالب على أمره} [يوسف: 21] وهو إما النبوة التي تلي الحكم والعلم اللذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد، وشاهده قوله تعالى {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [النساء: 174] وإما معجزتها كما قال تعالى لموسى في آيتي العصا واليد {فذانك برهانان من ربك} [القصص: 32] وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا وهي مراقبته لله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه، وفاقا لما قاله أخوه محمد خاتم في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فيوسف قد رأى هذا البرهان في نفسه، لا صورة أبيه متمثلة في سقف الدار، ولا صورة سيده العزيز في الجدار، ولا صورة ملك يعظه بآيات من القرآن، وأمثال هذه الصور التي رسمتها أخيلة بعض رواة التفسير المأثور بما لا يدل عليه دليل من اللغة ولا العقل ولا الطبع ولا الشرع، ولم يرو في خبر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح ولا فيما دونها، وما قلناه هو المتبادر من اللغة ووقائع القصة، ومقتضى ما وصف الله به يوسف في هذا السياق وغيره من السورة ولا سيما قوله في أوله {وكذلك نجزي المحسنين} [الأنعام: 84] وما فسر النبي صلى الله عليه وسلم به الإحسان، وقوله في تعليله.
{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} أي كذلك فعلنا وتصرفنا في أمره لنصرف عنه دواعي ما أرادته به أخيرا من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء، بحصانة أو عصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه، فلا يصيبه شيء يخرجه من جماعة المحسنين الذين شهدنا له بأنه منهم، إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو في رده عليها بأنهم لا يفلحون وشهادته حق.
{إنه من عبادنا المخلصين} بفتح اللام وهم آباؤهم الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب وقال فيهم 83: 45 {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [ص: 45-47] وقد قلنا في أول القصة، إن يوسف هو الحلقة الرابعة في سلسلتهم الذهبية، وإن أباه بشره بذلك بعد أن قص عليه رؤياه إذ قال له: {وكذلك يجتبيك ربك} فالاجتباء هو الاصطفاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر [المخلصين] بكسر اللام، والقراءتان متفقتان متلازمتان فهم مخلصون لله في إيمانهم به وحبهم وعبادتهم له، ومخلصون عنده بالولاية والنبوة والعناية والوقاية من كل ما يبعدهم عنه ويسخطه عليهم، والجملة تعليل لصرف الله السوء والفحشاء عنه، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء فإنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما، وهمه لأول وهلة بدفع صيالها هم بأمر مشروع وجد مقتضيه مقترنا بالمانع منه وهو رؤيته برهان ربه فلم ينفذه، فكان الفرق بين همها وهمه أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها من خيبتها وإهانته لها فلما رأى أمارى وثوبها عليه استعد للدفاع عن نفسه وهم به، فكان موقفهما موقف المواثبة، والاستعداد للمضاربة، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر هي مثله، فألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي تم به حكمته سبحانه وتعالى فيما أعده له فلجأ إلى الفرار ترجيحا للمانع على المقتضى، وتبعته هي مرجحة للمقتضى على المانع حتى صار جزما، واستبقا باب الدار، وكان من أمرهما ما يأتي بيانه في الآية التالية، وتقدم عليه رأي الجمهور في الهم من الجانبين.
رأي الجمهور في همت به وهم بها وبيان بطلانه:
ذهب الجمهور المخدوعون بالروايات إلى أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا مانع منها، وهم هو بمثل ذلك ولولا أن رأى برهان ربه لاقترفها، ولم يستح بعضهم أن يروي من أخباره اهتياجه وتهوكه فيه ووصف انهماكه وإسرافه في تنفيذه، وتهتك المرأة في تبذلها بين يديه، ما لا يقع مثله إلا من أوقح الفساق المسرفين المستهترين، الذين طال عليهم عهد استباحة الفواحش وألفتها حتى خلعوا العذار، وتجردوا من جلابيب الحياء، وأمسوا عراة من لباس التقوى وحلل الآداب، كأهل مدنية هذا العصر من الرجال والنساء في مواخير البغاء السرية، وما يقرب منه في حمامات البحر الجهرية، حتى كادوا يعيدون للعام فجور مدينة [بومباي] الرومانية، التي خسف الله بها وأمطر عليها من براكين النار مثلما أمطر على قرية قوم لوط من قبلها، فإن مثل هذا الذي افتروه في قصة هذا النبي الكريم لا يقع مثله ممن ابتلي بالمعصية أول مرة من سليمي الفطرة، ولا من سذج الأعراب الذين لم تغلبهم سورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وإيمانهم وحيائهم من نظر ربهم إليهم، فضلا عن نبي عصمه الله ووصفه بما وصف وشهد له بما شهد.
وقد بلغ ببعضهم [كالسدي] الجهل بالدين والوقاحة وقلة الأدب أن يزعموا أن يوسف عليه السلام لم ير برهانا واحدا بل رأى عدة براهين من رؤية والده متمثلا له منكرا عليه، وتكرار وعظه له، ومن رؤية بعض الملائكة ونزولهم عليه بأشد زواجر القرآن بآيات من سوره، فلم تنهه عن غيّه، حتى كان أن خرجت شهوته من أظافره، ومعنى هذا أنه لم يكف إلا عجزا عن الإمضاء، أفبهذا صرف الله عنه السوء والفحشاء، وكان من عباد الله الملخصين، وأنبيائه المصطفين المجتبين الأخيار؟
ولئن كان عقلاء المفسرين أنكروا هذه الروايات الإسرائيلية الحمقاء، حماية لعقيدة عصمة الأنبياء، فإنه لم يكن يسلم أحد من تأثير بعضها في أنفسهم، وتسليمهم لهم أن الهم من الجانبين كان بمعنى العزم على الفاحشة، إلا من خالف قواعد اللغة فقال إن قوله تعالى: {وهمّ بها} جواب لقوله {لولا أن رأى برهان ربه} ومن قال إن جوابه محذوف دل عليه ما قبله، فهو على هذين القولين لم يهم بشيء، وهو خلاف المتبادر من العبارة أو ظاهرها، وتأوله بعضهم بأن همه بالفاحشة بمقتضى الداعية الفطرية لا ينافي العصمة وإنما ينافيها طاعتها بدليل ما صح في الحديث أن من هم بسيئة ولم يفعلها لم تكتب عليه، وأن امتناعه عنها بترجيح داعية الإيمان وطاعة الله تعالى مع طغيانها وإلحاحها الطبيعي عليه أدل على الإيمان والطاعة من كونه لم يفعلها كراهة لها وعزوفا عنها لقبحها، ولهم تأويلات من هذا ولقد كانوا لولا تأثير الرواية في غنى عنها.
والتأويل الأخير أوله مقبول وآخره مردود، فههنا مرتبتان إحداهما الكف عن المعصية جهادا للنفس وكبحا لها خوفا من الله تعالى، وهي مرتبة الصالحين الأبرار، ومرتبة الكراهة لها والاشمئزاز منها حياء من الله ومراقبة له واستغراقا في شهوده، وهي مرتبة الصديقين والنبيين الأخيار، الذين إذا عرضت لهم الشهوة المستلذة بالطبع، بالصورة المحرمة في الشرع، عارضها من وجدان الإيمان، وتجلي الرحمان، ما تغلب به روحانيتهم الملكية، على طبيعتهم الحيوانية، وهذا مما قد يحصل لمن دون الأنبياء منهم، فكيف بمن يرون برهان ربهم بأعين قلوبهم، وينعكس نوره عن بصائرهم فيلوح لأبصارهم، كما أشرنا إليه في تفسيره آنفا؟
ولهذه المرتبة درجات منها فقد الشهوة الطبيعية في هذه الحال، أو فقد الشعور بالقدرة على وضعها في الموضع المحرم مع وجودها على أشدها، ولا عجب فقوى النفس وانفعالاتها الوجدانية تتنازع فيغلب أقواها أضعفها... وتوجيه النفس إلى الشيء أو عنه هو صاحب السلطان الأعلى على الإرادة، وتربية الإرادة هي أصل التخلق بالفضائل والتخلي عن الرذائل باتفاق الحكماء والصوفية، ويسمي هؤلاء سالك طريق الحق مريدا، والواصل إلى غايته مرادا، أي مجتبى مختارا، وهو لا يكون على كماله إلا لأصحاب الإيمان اليقيني الوجداني، ومن ذاق عرف، ومن حرم انحرف...
ردّ قول الجمهور في تفسير همها وهمه عليه السلام:
فأنا أرد على جميع من فسروا هم المرأة بغير ما اخترته لا همه وحده، وأقول لولا الغرور بالروايات الباطلة لم يخطر لأحد منهم غيره، أرد عليهم بعبارة القرآن في مدلولها اللغوي فهو حجة عليهم فأقول:
أجمع أهل اللغة على أن الهم إنما يكون بالأعمال، لا بالشخوص والأعيان وتحقيق معناه أنه مقاربة فعل تعارض فيه المانع والمقتضي فلم يقع لرجحان المانع، وهو الموافق لقول علماء الأصول في التعارض الأعم، ولكن رجحان المانع هنا قد يكون بإرادة صاحب الهم ومنه هم يوسف، وقد يكون من غيره ومنه هم هذه المرأة: كان همهما واحدا وهو البطش بالضرب أو ما في معناه، وكان المانع منه إرادته هو وعجزها هي بهربه، وهاك الشواهد على القسمين.
حكى الله عن المشركين في سورتي الأنفال والتوبة أنهم {هموا بإخراج الرسول} [التوبة: 13] صلى الله عليه وسلم من بلده مكة، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم خافوا أن يستجيب له غيرهم من العرب فيقوى أمره فرجحوا المانع بإرادتهم، وحكى عن المنافقين أنهم {هموا بما لم ينالوا} إذ حاولوا أن يشردوا به بعيره في العقبة منصرفه من غزوة تبوك، فلم ينالوا مرادهم عجزا منهم وحفظا من ربه له صلى الله عليه وسلم وفي معناه قوله تعالى له {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك} [النساء: 113] ولكنه قدم هنا لولا فكان دليلا على أنهم فكروا في ذلك وما قاربوا وقال في بعض المؤمنين {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [آل عمران: 122] أي تتركا المضي مع الرسول للقتال يوم أحد جبنا وإتباعا لعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين، ولكن غلب عليهما داعي الإيمان فلم تفشلا وهو المعبر عنه بقوله تعالى: {والله وليهما} فرجحتا المانع من الفشل بالمقتضي للجهاد.
وفي المسند والصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يأمر رجلا يصلي بالناس ثم يأمر من يحرق على المتخلفين عن صلاة الجمعة بيوتهم- وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي "ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم) يعني صلى الله عليه وسلم إنهم يستحقون هذا حتى كاد يفعله ولكنه امتنع ترجيحا للمانع على المقتضى.
إذا علم هذا فمن الجلي أنه لا يصح تفسير [ولقد همت به] بهذا المعنى الذي أثبتناه بشواهد الكتاب والسنة إلا بما قررناه، وأن ما قاله الجمهور باطل لمخالفته له، بل للغة القرآن وهدايته، وإنما خدعتهم به الروايات الباطلة، وبيانه من وجوه:
أولها: أن الهم لا يكون إلا بفعل الهام، والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه، وهذا التمكين هو الذي يثبت به دخول الزوجية الذي تستحق فيه المرأة النفقة من زوجها كما هو مقرر في الفقه.
ثانيها: أن يوسف عليه السلام لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمي قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه هما لها، فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته أيضا.
ثالثها: لو أن ذلك وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: "ولقد هم بها وهمت به "لأن الأول هو المقدم بالطبع والوضع وهو الهم الحقيقي، والهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه.
رابعها: أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصح أن يقال إنها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا إنه كان قبولا لطلبه ومواتاة له، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، وهو الذي يصح فيما حققناه من إرادة تأديبه بالضرب على أهون تقدير، فهذا هو المتبادر من نص اللغة ومن السياق وأقربه قوله عز وجل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته:
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)!
لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن -أي نعم من القرآن!- تنهى عن مثل هذا المنكر، وهو لا يرعوي! حتى أرسل الله جبريل يقول له: أدرك عبدي، فجاء فضربه في صدره.. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع!
وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل، وهم بها هم النفس، ثم تجلى له برهان ربه فترك.
وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي. وقال: إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة، وهم هو برد الاعتداء؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر.. وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص.
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما.
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه).
هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم.. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة.. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك. فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا.
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي.