{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ } ظاهرة وباطنة ، { فَمِنَ اللَّهِ } لا أحد يشركه فيها ، { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ } من فقر ومرض وشدة { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي : تضجون بالدعاء والتضرع ؛ لعلمكم أنه لا يدفع الضر والشدة إلا هو ، فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون ، وصرف ما تكرهون ، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده .
ثم بين - سبحانه - أن كل نعمة فى هذا الكون ، هو - سبحانه - مصدرها وموجدها ، فقال : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله . . } .
أي : وكل نعمة عندكم كعافية في أبدانكم ، ونماء في مالكم ، وكثرة في أولادكم ، وصلاح في بالكم . . فهي من الله - تعالى - وحده .
فالمراد بالنعمة هنا ، النعم الكثيرة التي أنعم بها - سبحانه - على الناس ؛ لأنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معينة ، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع - اعتمادا على القرينة - من أبلغ الأساليب الكلامية ، و " ما " موصولة مبتدأ ، متضمنة معنى الشرط . وقوله { فمن الله } خبرها .
وقوله { من نعمة } بيان لما اشتملت عليه " ما " من إبهام .
وقوله - سبحانه - { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } بيان لطبيعة الإِنسان ، ولموقفه من خالقه - عز وجل - والضر : يشمل المرض ، والبلاء ، والفقر ، وكل ما يتضرر منه الإِنسان .
وقوله { تجأرون } من الجؤار بمعنى - رفع الصوت بالاستغاثة وطلب العون ، يقال : جأر فلان يجأر جأرا وجؤارا ، إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث وأصله : صياح الوحش .
ومنعم واحد : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) . وفطرتكم تلجأ إليه وحده ساعة العسرة والضيق ، وتنتفي عنها أوهام الشرك والوثنية فلا تتوجه إلا إليه دون شريك : ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) وتصرخون لينجيكم مما أنتم فيه .
وهكذا يتفرد سبحانه وتعالى بالألوهية والملك والدين والنعمة والتوجه ؛ وتشهد فطرة البشر بهذا كله حين يصهرها الضر وينفض عنها أو شاب الشرك .
ثم أخبر أنه مالك النفع والضر ، وأن ما بالعبد من رزق ونعمة{[16487]} وعافية ونصر فمن فضله عليه{[16488]} وإحسانه إليه .
{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي : لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو ، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه ، وتسألونه ، وتلحون في الرغبة مستغيثين به{[16489]} كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } [ الإسراء : 67 ] ،
القول في تأويل قوله تعالى { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمّ إِذَا مَسّكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } .
اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله : فَمِنَ اللّهِ ، فقال بعض البصريين : دخلت الفاء ؛ لأن «ما » بمنزلة «من » فجعل الخبر بالفاء . وقال بعض الكوفيين : «ما » في معنى جزاء ، ولها فعل مضمر ، كأنك قلت : ما يكن بكم من نعمة فمن الله ؛ لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم ، إن ظهر فهو جزم ، وإن لم يظهر فهو مضمر كما قال الشاعر :
إن العَقْلُ في أموَالِنا لا نَضِقْ بِهِ *** ذِرَاعا وَإنْ صَبْرا فنَعْرِفُ للصّبْرِ
وقال : أراد : إن يكن العقل فأضمره . قال : وإن جعلت «ما بكم » في معنى «الذي » جاز ، وجعلت صلته «بكم » و «ما » في موضع رفع بقوله : فَمِنَ اللّهِ ، وأدخل الفاء كما قال : إنّ المَوْتَ الّذِي تَفِرّونَ مِنْهُ فإنّه مُلاقِيكُمْ ، وكل اسم وصل مثل «من » و «ما » و «الذي » ، فقد يجوز دخول الفاء في خبره ؛ لأنه مضارع للجزاء ، والجزاء قد يجاب بالفاء ، ولا يجوز أخوك فهو قائم ، لأنه اسم غير موصول ، وكذلك تقول : مالك لي ، فإن قلت : مالك ، جاز أن تقول : مالك فهو لي ، وإن ألقيت الفاء فصواب .
وتأويل الكلام : ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة وفي أموالكم من نماء ، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره ؛ لأن ذلك إليه وبيده . ثُمّ إذَا مَسّكُمُ الضّرّ يقول : إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض وعلة عارضة وشدّة من عيش ، فإلَيْهِ تَجْأَرُونَ ، يقول : فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ، ليكشف ذلك عنكم . وأصله : من جؤار الثور ، يقال منه : جأر الثور يجأر جُؤارا ، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره ، ومنه قول الأعشى :
وَما أيْبُلِيّ عَلى هَيْكَلٍ *** بَناهُ وَصَلّبَ فِيهِ وصَارَا
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي *** كِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُؤَارا
يعني بالجؤار : الصياح ، إما بالدعاء وإما بالقراءة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فإلَيْهِ تَجأَرُونَ قال : تضرعون دعاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : الضّرّ : السّقْم .
والواو في قوله { وما بكم } يجوز أن تكون واو ابتداء ، ويجوز أن تكون واو الحال ، ويكون الكلام متصلاً بقول { أفغير الله تتقون } ، كأنه يقال على جهة التوبيخ : أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه ، والباء في قوله : { بكم } متعلقة بفعل تقديره : وما نزل ، أو ألم ، ونحو هذا ، و { ما } بمعنى الذي ، والفاء في قوله : { فمن الله } ، دخلت بسبب الإبهام الذي في { ما } ، التي هي بمعنى الذي ، فأشبه الكلام الشرط{[7339]} ، ومعنى الآية : التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه ، إنما هو في نعمة الله وأفضاله ، إيجاده داخل في ذلك فما بعده ، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض ، لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى .
عطف خبر على خبر . وهو انتقال من الاستدلال بمصنوعات الله الكائنة في ذات الإنسان وفيما يحيط به من الموجودات إلى الاستدلال بما ساق الله من النعم ، فمن الناس معرضون عن التّدبر فيها وعن شكرها وهم الكافرون ، فكان في الأدلّة الماضية القصد إلى الاستدلال ابتداء متبوعاً بالامتنان .
وتغيّر الأسلوب هنا فصار المقصود الأول هو الامتنان بالنّعم مُدمجاً فيه الاعتبار بالخلق . فالخطاب موجّه إلى الأمّة كلّها ، ولذلك جاء عقبه قوله تعالى : { إذا فريق منكم بربّهم يشركون } .
وابتدىء بالنّعم على وجه العموم إجمالاً ثم ذكرت مهمات منها .
والخطاب موجّه إلى المشركين تذكيراً لهم بأن الله هو ربّهم لا غيره لأنه هو المنعم .
وموقع قوله تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } هنا أنه لما أبطل في الآية السابقة وجود إلهين اثنين ( أحدهما فعله الخير والآخر فعله الشرّ ) أعقبه هنا بأن الخير والضر من تصرفات الله تعالى ، وهو يعطي النّعمة وهو كاشف الضرّ .
والباء للملابسة ، أي ما لابسكم واستقرّ عندكم ، و { من نعمة } لبيان إبهام { ما } الموصولة .
و ( مِن ) في قوله تعالى : { فمن الله } ابتدائية ، أي واصلة إليكم من الله ، أي من عطاء الله ، لأن النّعمة لا تصدر عن ذات الله ولكن عن صفة قدرته أو عن صفة فعله عند مثبتي صفات الأفعال . ولما كان { ما بكم من نعمة } مُفيداً للعموم كان الإخبار عنه بأنه من عند الله مغنياً عن الإتيان بصيغة قصر .
و{ ثمّ } في قوله تعالى : { ثم إذا مسكم الضر } للتّراخي الرتبي كما هو شأنها الغالب في عطفها الجملَ ، لأن اللجأ إلى الله عند حصول الضرّ أعجب إخباراً من الإخبار بأن النّعم كلّها من الله ، ومضمون الجملة المعطوفة أبعد في النظر من مضمون المعطوف عليها .
والمقصود : تقرير أن الله تعالى هو مدبّر أسباب ما بهم من خير وشرّ ، وأنه لا إله يخلق إلا هو ، وأنهم لا يلتجئون إلا إليه إذا أصابهم ضرّ ، وهو ضد النّعمة .
ومسّ الضرّ : حلوله . استعير المسّ للحصول الخفيف للإشارة إلى ضيق صبر الإنسان بحيث إنه يجأر إلى الله بحصول أدنى شيء من الضرّ له . وتقدم استعمال المسّ في الإصابة الخفيفة في قوله تعالى { وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو } في سورة الأنعام ( 17 ) .
و { تجأرون } تصرُخون بالتضرّع . والمصدر : الجؤار ، بصيغة أسماء الأصوات .