المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

حثت هذه السور الكريمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ، وتعظيمه لله تعالى ، وترك ما لا يصح أن يصدر منه ، وتحدثت عن نفخ الصور وشدة العذاب على الكافرين ، وأمرته صلى الله عليه وسلم أن يترك من جحد فضله عليه ثم يطمع في الزيادة بدون اعتراف ولا شكر ، وبينت كيف كان تفكير ذلك الجاحد وإنكاره للقرآن ، وفصلت كيف يكون عذابه في سقر التي وصفت بما يزعج ويخيف ، وذكرت الأنفس بما تكسب من خير أو شر ، وأخبرت عن حال أصحاب اليمين وتبكيتهم للمجرمين بسؤالهم عما سلكهم في سقر ، وختمت بالحديث عن القرآن بأنه لمن شاء أن يتذكر وأن من يتذكر به هم أهل التقوى وأهل المغفرة .

1 - يا أيها المتدثر بثيابه قم من مضجعك فحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، وخُصَّ ربك - وحده - بالتعظيم ، وثيابك فطهرها بالماء من النجاسة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المدثر

مكية وآياتها ست وخمسون

{ يا أيها المدثر } أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : " سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ؟ قال : { يا أيها المدثر } ، قلت : يقولون : { اقرأ باسم ربك الذي خلق }( العلق - 1 ) ؟ قال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل الذي قلت ، فقال جابر : لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت من خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال : فدثروني وصبوا علي ماء بارداً ، قال فنزلت : { يا أيها المدثر* قم فأنذر * وربك فكبر } " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، عن عقيل قال ابن شهاب : سمعت أبا سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله قال : " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي ، قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فخشيت منه رعبا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى :{ يا أيها المدثر * قم فأنذر } إلى قوله : { فاهجر } قال أبو سلمة : والرجز الأوثان ، ثم حمي الوحي وتتابع " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المدثر [ وهي ] مكية

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }

تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة ، والصبر على أذى قومه ، وأمره هنا بإعلان الدعوة{[1274]} ، والصدع بالإنذار ، فقال : { قُمِ }


[1274]:- في ب: بالإعلان بالدعوة.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المدثر

مقدمة وتمهيد

1- سورة " المدثر " من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ويغلب على الظن أن نزولها كان بعد نزول صدر سورة " اقرأ " .

ويشهد لذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة –رضي الله عنها- : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الوحي وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال له : [ اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق . ] .

وروى الشيخان –أيضا- وغيرهما ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ؟ فقال : يأيها المدثر . قلت : يقولون : اقرأ باسم ربك . .

فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، فقال : يأيها المدثر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري : هبطت الوادي ، فنوديت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا . . فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرجعت على أهلي فقلت : دثروني ، دثروني ، فنزلت [ يأيها المدثر ، قم فأنذر . ] .

قال الآلوسي ما ملخصه : وظاهر هذا الحديث يقتضي نزول هذه السورة قبل سورة اقرأ ، مع أن المروي في الصحيحين عن عائشة أن سورة " اقرأ " أول ما نزل على الإطلاق ، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة ، حتى قال بعضهم وهو الصحيح .

وللجمع بين هذين الحديثين وجوه منها : أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة ، بما نزل بعد فترة الوحي ، لا أولية مطلقة كما هو الحال بالنسبة لسورة اقرأ . أو أن السؤال في حديث جابر ، كان عن نزول سورة كاملة ، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها . أو أن جابرا قد قال ذلك باجتهاده ، ويقدم على هذا الاجتهاد ما ذكرته عائشة من أن أول ما نزل على الإطلاق ، هو صدر سورة اقرأ . . ( {[1]} ) .

أقول : وفي هذا الحديث ما يدل على أن الملك قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل رؤيته في هذه المرة ، وفي غار حراء بدأ الوحي ونزل قول الله تعالى : " اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . " وذلك يدل على أن " اقرأ " أول ما نزل على الإطلاق ، وهو ما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها .

وعلى أية حال فسورة المدثر تعتبر من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن ، كما يرى ذلك من تدبر آياتها التي تحض الرسول صلى الله عليه وسلم على إنذار الناس بدعوته .

وعدد آياتها : ست وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وخمس وخمسون في البصري .

ومن أهم مقاصدها : تكريم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمره بتبليغ ما أوحاه الله –تعالى- إليه إلى الناس ، وتسليته عما أصابه من أذى ، وتهديد أعدائه بأشد ألوان العقاب ، وبيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، والرد عليهم بما يبطل دعاواهم . .

قد افتتح الله - تعالى - سورة المدثر ، بالملاطفة والمؤانسة فى النداء والخطاب ، كما افتتح سورة المزمل . والمدثر اسم فاعل من تدثر فلان ، إذا لبس الدثار ، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذى يلى البدن ، ومنه حديث : " الأنصار شعار والناس دثار " .

قال القرطبى : قوله - تعالى - : { ياأيها المدثر } ملاطفة فى الخطاب من الكريم إلى الحبيب ، إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه ، كما تقدم فى سورة المزمل . ومثله قول النبى صلى الله عليه وسلم لِعَلىٍّ إذ نام فى المسجد " قم أبا تراب " .

وكان قد خرج مغاضبا لفاطمة - رضى الله عنها - ، فسقط رداؤه وأصابه التراب . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ليلة الخندق " قم يا نومان " .

والمراد بالقيام فى قوله - تعالى - : قم فأنذر ، المسارعة والمبادرة والتصميم على تنفيذ ما أمره - سبحانه - به ، والإِنذار هو الإِخبار الذى يصاحبه التخويف .

أى : قم - أيها الرسول الكريم - وانهض من مضجعك ، وبادر بعزيمة وتصميم ، على إنذار الناس وتخويفهم من سوء عاقبتهم ، إذا ما استمروا فى كفرهم ، وبلغ رسالة ربك إليهم دون أن تخشى أحدا منهم ، ومرهم بأن يخلصوا له - تعالى - العبادة والطاعة .

والتعبير بالفاء فى قوله : { فَأَنذِرْ } للإِشعار بوجوب الإِسراع بهذا الإِنذار بدون تردد .

وقال : فأنذر ، دون فبشر ، لأن الإِنذار هو المناسب فى ابتداء تبليغ الناس دعوة الحق حتى يرجعوا عما هم فيه من ضلال .

ومفعول أنذر محذوف . أى : قم فأنذر الناس ، ومرهم بإخلاص العبادة لله .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المدثر مكية وآياتها ست وخمسون

ينطبق على هذه السورة من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها ما سبق ذكره عن سورة " المزمل " . فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة وإيذاء المشركين للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] .

قال البخاري ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ? فقال : ( يا أيها المدثر ) . . قلت : يقولون( اقرأ باسم ربك الذي خلق )فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل ما قلت لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فرأيت شيئا . فأتيت خديجة فقلت : " دثروني وصبوا علي ماءا باردا " قال : فدثروني وصبوا علي ماءا باردا . قال : فنزلت : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر ) " . .

وقد رواه مسلم من طريق عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة . قال : أخبرني جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحدث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه ، " فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثيت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر . قم فأنذر . . . - إلى - والرجز فاهجر " قال أبو سلمة : والرجز الأوثان . ثم حمي الوحي وتتابع " . . ورواه البخاري من هذا الوجه أيضا . . وهذا لفظ البخاري .

وعلق ابن كثير في التفسير على هذا الحديث بقوله : " وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله : " فإذا الملك الذي جاءني بحراء " وهو جبريل ، حين أتاه بقوله . . . ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم . . ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا . ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة " . .

فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثناالحسن بن بشر البجلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مليكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل ? فقال بعضهم : ساحر . وقال بعضهم : ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن . وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر . وقال بعضهم : ليس بشاعر . وقال بعضهم بل سحر يؤثر . فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر . فبلغ ذلك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فحزن ، وقنع رأسه ، وتدثر . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) . .

وتكاد تكون هذه الرواية هي ذاتها التي رويت عن سورة " المزمل " . . مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بشيء عن أيتهما هي التي نزلت أولا . والتي نزلت بهذه المناسبة أو تلك .

غير أن النظر في النص القرآني ذاته يوحي بأن مطلع هذه السورة إلى قوله تعالى : ( ولربك فاصبر )ربما يكون قد نزل مبكرا في أوائل أيام الدعوة . شأنه شأن مطلع سورة المزمل إلى قوله تعالى : ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . . وهذا وذلك لإعداد نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للنهوض بالتبعة الكبرى ، ومواجهة قريش بعد ذلك بالدعوة جهارا وكافة ، مما سيترتب عليه مشاق كثيرة متنوعة ، تحتاج مواجهتها إلى إعداد نفسي سابق . . ويكون ما تلا ذلك في سورة المدثر ، وما تلا هذا في سورة المزمل ، قد نزلا بعد فترة بمناسبة تكذيب القوم وعنادهم ، وإيذائهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالاتهام الكاذب والكيد اللئيم .

إلا أن هذا الاحتمال لا ينفي الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون كل من المطلعين قد نزل متصلا بما تلاه في هذه السورة وفي تلك ، بمناسبة واحدة ، هي التكذيب ، واغتمام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للكيد الذي كادته قريش ودبرته . . ويكون الشأن في السورتين هو الشأن في سورة القلم على النحو الذي بيناه هناك .

وأيا ما كان السبب والمناسبة فقد تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لهذا الأمر الجلل ؛ وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر ) . . مع توجيهه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم ، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه الله إليه : ( وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) . . وكان ختام التوجيه هنا بالصبر كما كان هناك في سورة المزمل !

وتضمنت السورة بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذبين بالآخرة ، وبحرب الله المباشرة ، كما تضمنت سورة المزمل سواء : ( فإذا نقر في الناقور ، فذلك يومئذ يوم عسير ، على الكافرين غير يسير . ذرني ومن خلقت وحيدا . وجعلت له مالا ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا ، ثم يطمع أن أزيد . كلا ! إنه كان لآياتنا عنيدا . سأرهقه صعودا ) . .

وتعين سورة المدثر أحد المكذبين بصفته ، وترسم مشهدا من مشاهد كيده - على نحو ما ورد في سورة القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا ، قيل : إنه الوليد بن المغيرة - [ كما سيأتي تفصيل الروايات عند مواجهة النص ] وتذكر سبب حرب الله سبحانه وتعالى له : ( إنه فكر وقدر . فقتل ! كيف قدر ? ثم قتل : كيف قدر ? ثم نظر ، ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر ) . . ثم تذكر مصيره : ( سأصليه سقر . وما أدراك ما سقر ، لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . عليها تسعة عشر ) . .

وبمناسبة مشهد سقر . والقائمين عليها التسعة عشر . وما أثاره هذا العدد من بلبلة وفتنة وتساؤل وشك واستهزاء في أوساط المشركين وضعاف الإيمان ، تتحدث السورة عن حكمة الله في ذكر هذا العدد ، ثم تفتح كوة على حقيقة غيب الله ، واختصاصه بهذا الغيب . وهي كوة تلقي ضوءا على جانب من التصور الإيماني لحقيقة غيب الله المكنون : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) . .

ثم يصل أمر الآخرة وسقر ومن عليها بمشاهد كونية حاضرة ، ليجمع على القلوب إيحاء هذه وتلك في معرض الإيقاظ والتحذير : ( كلا والقمر . والليل إذ أدبر . والصبح إذا أسفر . إنها لإحدى الكبر . نذيرا للبشر . لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) . .

كما يعرض مقام المجرمين ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذبون اعترافا طويلا بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع : ( كل نفس بما كسبت رهينة . إلا أصحاب اليمين . في جنات يتساءلون عن المجرمين . ما سلككم في سقر ? قالوا : لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين . وكنا نكذب بيوم الدين . حتى أتانا اليقين . فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) . .

وفي ظل هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يتساءل مستنكرا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهدا ساخرا يثير الضحك والزراية من نفارهم الحيواني الشموس : ( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة ! ) .

ويكشف عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكر الناصح . ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) . . فهو الحسد للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة ! والسبب الدفين الآخر هو قلة التقوى : ( كلا ! بل لا يخافون الآخرة ) . .

وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه : ( كلا ! إنه تذكرة . فمن شاء ذكره )ورد الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره : ( وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) . .

وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش ؛ كما كافح العناد والكيد والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب . . والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة واتجاهات سورة المزمل ، وسورة القلم ، مما يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة . . وذلك باستثناء الشطر الثاني من سورة المزمل ، وقد نزل لشأن خاص بالرياضة الروحية للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه كما تقدم .

وهذه السورة قصيرة الآيات . سريعة الجريان . منوعة الفواصل والقوافي . يتئد إيقاعها أحيانا ، ويجري لاهثا أحيانا ! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر . . وتصوير مشهد سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . . ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة !

وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقا خاصا ؛ ولا سيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة : المدثر . أنذر . فكبر . . وعودتها بعد فترة : قدر . بسر . استكبر . سقر . . . وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص . عند قوله : ( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة ) . . ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر . وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر ! وهكذا . . .

والآن نأخذ في الاستعراض التفصيلي للسورة :

( يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) . .

إنه النداء العلوي الجليل ، للأمر العظيم الثقيل . . نذارة هذه البشرية وإيقاظها ، وتخليصها من الشر في الدنيا ، ومن النار في الآخرة ؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان . . وهو واجب ثقيل شاق ، حين يناط بفرد من البشر - مهما يكن نبيا رسولا - فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والإلتواء والتفصي من هذا الأمر ، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود !

( يا أيها المدثر . قم فأنذر ) . . والإنذار هو أظهر ما في الرسالة ، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون . وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد ، وهم لا ينقصون في ملكه شيئا حين يضلون ، ولا يزيدون في ملكه شيئا حين يهتدون . غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة ، ومن الشر الموبق في الدنيا . وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المدثر

وهي مكية .

ثبت في صحيح البخاري [ من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ]{[29456]} عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }

وخالفه{[29457]} الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } كما سيأتي [ بيان ]{[29458]} ذلك هناك .

قال البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا وَكِيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ، قال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } قلت : يقولون : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ؟ فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بحرَاء ، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا . فرفعت رأسي فرأيت شيئًا ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني . وصبوا علي ماء باردا . قال : فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال : فنزلت { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } {[29459]}

هكذا ساقه من هذا الوجه . وقد رواه مسلم{[29460]} من طريق عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي : " فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجَثَثْتُ{[29461]} منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي ، فقلت : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } إلى : { فَاهْجُرْ } -

قال أبو سلمة : والرجز : الأوثان - ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع " .

هذا لفظ البخاري{[29462]} وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا ، لقوله : " فإذا الملك الذي جاءني{[29463]} بحراء " ، وهو جبريل حين أتاه بقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا . ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا حجاج ، حدثنا لَيْث ، حدثنا عُقَيل ، عن ابن شهاب{[29464]} قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثم فتر الوحي عني فترة ، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قِبَل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني [ بحراء الآن ]{[29465]} قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجُثت{[29466]} منه فَرَقًا ، حتى هَوَيت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت لهم : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ثم حمي الوحي [ بعدُ ]{[29467]} وتتابع " . أخرجاه من حديث الزهري ، به{[29468]} .

وقال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر{[29469]} البَجَلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا . قال : ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم : ساحر . وقال بعضهم ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن . وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر . وقال بعضهم ليس بشاعر . وقال بعضهم : [ بل ]{[29470]} سحر يُؤثر . فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه ، وتَدَثَّر ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } {[29471]} .


[29456]:- (1) زيادة من م.
[29457]:- (2) في م: "وخالف".
[29458]:- (3) زيادة من م.
[29459]:- (4) صحيح البخاري برقم (4922).
[29460]:- (5) صحيح مسلم برقم (161).
[29461]:- (6) في م: "فجثيت".
[29462]:- (1) صحيح البخاري برقم (4926).
[29463]:- (2) في م: "الذي كان".
[29464]:- (3) في أ: "ابن هشام".
[29465]:- (4) زيادة من م، أ، والمسند.
[29466]:- (5) في م: "فجثيت".
[29467]:- (6) زيادة من المسند.
[29468]:- (7) المسند (3/325)، وصحيح البخاري برقم (4926)، وصحيح مسلم برقم (161).
[29469]:- (8) في أ: الحسن بن بشير".
[29470]:- (9) زيادة من م.
[29471]:- (10) المعجم الكبير للطبراني (11/125)، وقال الهيثمي في المجمع (7/131): "وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو ضعيف".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبّكَ فَكَبّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ * وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ } .

يقول جلّ ثناؤه : يا أيّها المُدّثّرُ : يا أيها المتدثر بثيابه عند نومه .

وذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك ، وهو متدثر بقطيفة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم يا أيّها المُدّثّرُ قال : كان متدثرا في قطيفة .

وذُكر أن هذه الاَية أوّل شيء نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه قيل له : يا أيّها المُدّثّرُ ، كما :

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي : «بَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْت صَوْتا مِنَ السّماءِ فَرَفَعْتُ رأسِي ، فإذَا المَلَك الّذِي جاءَنِي بِحِرَاءَ جالِسٌ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقا ، وجِئْتُ أهْلي فَقُلْتُ : زَمّلُونِي زَمّلُوني ، فدَثّرُونِي » فأنزل الله : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبّرْ . . . إلى قوله : وَالرّجْزَ فاهْجُرْ قال : ثم تتابع الوحي .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : ثني يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة : أيّ القرآن أُنزل أوّل ، فقال : يا أيّها المُدّثّرُ فقلت : يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذي خَلَقَ ، فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله : أيّ القرآن أنزل أوّل ؟ فقال : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقلت يقولون : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ فقال : لا أخبرك إلا ما حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «جاورت في حِراء فلما قضيت جواري هبطت ، فاستبطنت الوادي ، فنوديت ، فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدّامي ، فلم أر شيئا ، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ، فخشيت منه » هكذا قال عثمان بن عمرو ، إنما هو : «فجثثت منه ، ولقيت خديجة ، فقلت : دثروني ، فدثروني ، وصبوا عليّ ماءً ، فأنزل الله عليّ : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْدِرْ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عليّ بن مبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة عن أوّل ما نزل من القرآن ، قال : نزلت يا أيّها المُدّثّرُ أوّل قال : قلت : إنهم يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ، فقال : سألت جابر بن عبد الله ، فقال : لا أحدّثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «جاوَرْتُ بِحِرَاءً فلمّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ ، فَسَمِعْتُ صَوْتا ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِيِني فَلَمْ أرَ شَيْئا ، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَرَفَعْتُ رأسي فرأيْتُ شَيْئا ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ ، فَقُلْتُ : دَثّرُونِي وَصبّوا عَليّ ماء بارِدا ، فنزلت يا أيّها المُدّثّرُ .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة ، فحزن حزنا ، فجعل يعدو إلى شواهق رؤوس الجبال ليتردّي منها ، فكلما أوفي بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول : إنك نبيّ الله ، فيسكن جأشه ، وتسكن نفسه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّث عن ذلك ، قال : «بَيْنَما أنا أمْشِي يَوْما إذْ رأيْتُ المَلَكَ الّذِي كان يأتِيني بِحرَاءَ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ ، فَجُثِثْتُ مِنْهُ رُعْبا ، فَرَجَعْتُ إلى خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : زَمّلُونِي ، فزمّلناه » : أي فدثرناه ، فأنزل الله يا أيّها المُدّثّرُ ، قُمْ فأنْذِرْ ، وَرَبّكَ فَكَبّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال الزهري : فكان أوّل شيء أنزل عليه : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ . . . حتى بلغ ما لَمْ يَعْلَمْ .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يا أيها النائم في ثيابه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ قال : يا أيها النائم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ يقول : المتدثر في ثيابه .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : يا أيها المتدثر النبوّة وأثقالها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : وسُئل داود عن هذه الاَية : يا أيّها المُدّثّرُ فحدثنا عن عكرمة أنه قال : دثّرت هذا الأمر فقم به .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المدثر مكية وآيها خمس وخمسون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها المدثر أي المتدثر وهو لابس الدثار روي أنه صلى الله عليه وسلم قال كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئا فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت فرجعت إلى خديجة فقلت دثروني فنزل جبريل وقال يا أيها المدثر ولذلك قيل هي أول سورة نزلت وقيل تأذى من قريش فتغطى بثوبه مفكرا أو كان نائما مدثرا فنزلت وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية أو المختفي فإنه كان بحراء كالمختفي فيه على سبيل الاستعارة وقرئ المدثر أي الذي دثر هذا الأمر وعصب به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية بإجماع من أهل التأويل .

اختلف القراء في { المدثر } على نحو ما ذكرناه في { المزمل } [ المزمل : 1 ] ، وفي حرف أبيّ بن كعب { المدثر } ومعناه المتدثر بثيابه ، و «الدثار » ، ما يتغطى الإنسان به من الثياب ، واختلف الناس لم ناداه ب { المدثر } ، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال : زملوني زملوني نزلت { يا أيها المدثر }{[11408]} ، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله . وروي أنه كان يدثر في قطيفة . وقال آخرون : معناه أيها النائم . وقال عكرمة معناه { يا أيها المدثر } للنبوة وأثقالها ، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو { يا أيها المدثر } الآيات . وقال الزهري والجمهور هو { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] وهذا هو الأصح . وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك{[11409]} .


[11408]:أخرجه البخاري عن وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال: (يا أيها المدثر)، قلت: يقولون: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، قال: فدثروني وصبو علي ماء باردان فنزلت (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر)، هكذا ساقه البخاري من هذا الوجه، ورواه مسلم من طريق عقيل ، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء ،فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فُجِئْثُت منه – أي خفت وفزعت- حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني زملوني، فأنزل (يا أيها المدثر قم فأنذر ...إلى.... فاهجر). وهذا السياق هو المحفوظ ، ويقتضي أن الوحي قد نزل أولا بقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، لقوله في الحديث (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)، ثم حدثت فترة، ثم نزل الوحي وتتابع. وذكر الإمام السيوطي في "الدر المنثور" أن هذا الحديث قد أخرجه الطيالسي وعبد الرزاق، وأحمد، والبخاري، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، ورواية أحمد في مسنده (3/325) تشبه في لفظها رواية مسلم، وقد أخرج البخاري أيضا الحديث من طريق عقيل بلفظ مسلم.
[11409]:هذا الحديث طويل أخرجه البخاري في كتاب (بدء الوحي) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا فقارىء، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قال : ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء؟ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم)، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة:كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق...) إلى آخر الحديث، وقد أورد الإمام السيوطي هذا الحديث في "الدر المنثور" وذكر أن ممن أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه، والبيهقي من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذا الحديث واضح الدلالة على أن قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) هو أول ما نزل من القرآن كما ذكر ابن عطية رحمه الله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

تسمى في كتب التفسير { سورة المدثر } وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس .

وأريد بالمدثر النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحالة التي ندي بها ، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها .

وأما تسمية باللفظ الذي وقع فيها ، ونظيره ما تقدم في تسمية { سورة المزمل } ، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها .

وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني . وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } الخ نزل بالمدينة اه . ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي .

قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة { اقرأ باسم ربك } وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى { ما لم يعلم } ثم قالت : ثم فتر الوحي . فلم تذكر نزول وحي بعد آيات { اقرأ باسم ربك } .

وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض . وحاصل ما يجتمع من طرقه : قال جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت : دثروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا . قال النووي : صب الماء لتسكين الفزع . فأنزل الله { يا أيها المدثر } إلى { والرجز فأهجر } ثم حمي الوحي وتتابع اهـ .

ووقع في صحيح مسلم عن جابر أنها أول القرآن سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة .

وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد : أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر رابعة .

وقال جابر بن زيد : نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة . ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع .

وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة .

والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسة أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم : فرضت أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل كانت سنتين ونصفا ، وقيل : أربعين يوما ، وقيل : خمسة عشر يوما ، والأصح أنها كانت أربعين يوما . فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته .

وعد أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمس وخمسين وعدها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين .

أغراضها

جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة .

وإعلان وحدانية الله بالإلهية .

والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي .

ونبذ الأصنام .

والإكثار من الصدقات .

والأمر بالصبر .

وإنذار المشركين بهول البعث .

وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق .

ووصف أهوال جهنم .

والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها .

وتحدي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها .

وتأييسهم من التخلص من العذاب .

وتمثيل ضلالهم في الدنيا .

ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء .

نوديّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة . وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال : دثروني دثروني ، أو قال : زملوني ، أو قال : زملوني فدثروني ، على اختلاف الروايات ، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت : { يا أيها المدثر } .

وقد مضى عند قوله تعالى : { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف .

و{ المدثر } : اسم فاعل من تدثّر ، إذا لبس الدِّثَار ، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادَّعى .

والدِّثار : بكسر الدال : الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِراً للجسد الذي يسمى شعاراً . وفي الحديث " الأنصار شِعَار والناسُ دِثَار " .

فالوصف ب { المدثر } حقيقة ، وقيل هو مجاز على معنى : المدثر بالنبوءة ، كما يقال : ارتدى بالمجد وتأزَّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى : { يا أيها المزمل ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها .