33- ولكلٍّ من الرجال والنساء جعلنا مستحقين لتركتهم يكونون خلفاء لهم ، وهم الوالدان والأقربون والذين عقد المتوفى لهم عقداً مقتضاه أن يرثوه إذا مات من غير قرابة ، وينصروه إذا احتاج إلى نصرتهم في مقابل ذلك ، فآتوا كل ذي حق حقه ولا تنقصوه شيئاً ، إن الله كان رقيباً على كل شيء ، حاضراً معكم ، يشهد ما تتصرفون به .
قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي } . أي : ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا موالي ، أي : عصبة يعطون .
قوله تعالى : { مما ترك الوالدان والأقربون } ، الوالدان والأقربون هم المورثون ، وقيل : معناه ( ولكل جعلنا موالي ) . أي : ورثة ، ( مما ترك ) . أي : من الذين تركوهم ، ويكون " ما " بمعنى " من " ثم فسر الموالي فقال : ( الوالدان والأقربون ) . أي هم الوالدان والأقربون ، فعلى هذا القول : { الوالدان والأقربون } هم الوارثون .
قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم } ، قرأ أهل الكوفة { عقدت } بلا ألف ، أي : عقدت لهم أيمانكم ، وقرأ الآخرون : { عقدت أيمانكم } . والمعاقدة : المحالفة ، والمعاهدة ، والأيمان جمع يمين ، من اليد والقسم ، وذلك أنهم كانوا عند المحالفة يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد . ومحالفتهم أن الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من مال الحليف ، وكان ذلك في ابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى : { فآتوهم نصيبهم } أي : أعطوهم حظهم من الميراث ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأحزاب :6 ] . وقال إبراهيم ومجاهد : أراد ( فآتوهم نصيبهم ) من النصر والرفد ، ولا ميراث لهم ، وعلى هذا تكون هذه الآية غير منسوخة لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } [ المائدة :1 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم فتح مكة : { لا تحدثوا حلفاً في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا فيه فإنه لم يزيده الإسلام إلا شدة } . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أنزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار حين قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون الرحم فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي } نسخت ، ثم قال : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } من النصر ، والرفادة ، والنصيحة . وقد ذهب الميراث فيوصي له . وقال سعيد بن المسيب : كانوا يتوارثون التبني وهذه الآية فيه ثم نسخ . { إن الله كان على كل شيء شهيداً }
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }
أي : { وَلِكُلٍّ } من الناس { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي : يتولونه ويتولاهم بالتعزز والنصرة والمعاونة على الأمور . { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وهذا يشمل سائر الأقارب من الأصول والفروع والحواشي ، هؤلاء الموالي من القرابة .
ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة والاشتراك بالأموال وغير ذلك . وكل هذا من نعم الله على عباده ، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا .
قال تعالى : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله . والميراث للأقارب الأدنين من الموالي .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } أي : مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور ، وبصره لحركات عباده ، وسمعه لجميع أصواتهم .
ثم قال - تعالى { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } .
والمضاف إلى كل هنا محذوف عوض عنه التنوين . والتقدير ولكل إنسان أو لكل قوم أو لكل من مات ، أو لكل من الرجال والنساء .
والموالى : جمع مولى . لفظ مشترك بين معان ، فيقال للسيد المعتق لعبده مولى ، لأنه ولى نعمته فى عتقه له . ويقال للعبد العتيق مولى لاتصال ولاية مولاه فى إنعامه عليه كما يقال لكل من الحليف والنصير والقريب مولى . ويقال لعصبة الشخص موالى .
قال الفخر الرازى : والمراد بالموالى هنا العصبة . ويؤكد ذلك ما رواه أبو صالح عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولى بالمؤمنين . من مات وترك مالا فماله للموالى العصبة . ومن ترك كلا فأنا وليه " وقال - عليه الصلاة والسلام - " اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر " .
هذا ، وللمفسرين فى تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متعددة منها أن المعنى :
1- ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا ورثة عصبة ، يرثون مما تركه الوالدان والأقربون من المال .
2- أو المعنى : ولكل من مات من الرجال والنساء جعلنا مالى أى ورثة يقتسمون تركته عن طريق الإِرث ، ولا حق للحليف فيها لأنه ليس من عصبة هذا الميت .
3- أو المعنى : ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالى أى ورثة يلونه ويجوزونه بعد أن يأخذ أصحاب الفروض نصيبهم .
وعلى هذه الوجوه يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من مواليهم أى عصبتهم .
4- قال الفخر الرازى : ويمكن أن تفسر الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الورثة ، فيكون المعنى :
ولكل واحد جعلنا ورثة فى تركته . ثم كأنه قيل : ومن هؤلاء الورثة ؟ فقيل . هم الوالدان والأقربون . وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله { مِمَّا تَرَكَ } :
هذا وتفسير الآية الكريمة بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من عصبتهم هو الأولى ، لأنه هو الظاهر فى معنى الآية ، وعليه سار جمهور المفسرين ، فقد قال ابن جرير : " فالموالى ها هنا : الورثة . ويعنى بقوله { مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } مما تركه والداه وأقرباؤه من الميراث . فتأويل الكلام ، ولكل منكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون مما ترك والداه وأقرباؤه من ميراثهم .
وقال صاحب الكشاف : قوله { مِمَّا تَرَكَ } تبين لكل . أى : ولكل شئ مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا موالى أى ورثة يلونه ويحرزونه ، أو ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون . على أن { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } صفة لكل ، والضمير الراجع إلى كل محذوف ، والكلام مبتدأ أو خبر . كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله . أى حظ من رزق الله .
وقال القرطبى : بين الله - تعالى - أن لكل إنسان ورثة وموالى ، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ولا يتمن مال غيره .
وقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر . وجئ بالفاء فى الخبر وهو قوله { فَآتُوهُمْ } لتضمن المبتدأ معنى الشرط .
وقوله { عَقَدَتْ } من العقد وهو الشد والربط والتوكيد والتغليظ ، ومنه قولهم : عقد العهد يعقده ، أى : شدة وأكده .
والأيمان : جمع يمين والمراد به هنا أيديهم اليمنى ، وإسناد العقد إليها على سبيل المجاز ، لأنهم كانوا عندما يؤثقون عقدا يضع كل واحد منهم يده فى يد الآخر ، ليكون ذلك علامة على انبرام العقد وتأكيده . ومن هنا قيل للعقود الصفقات لأن كل عاقد يصفق بيمنه على يميمن الآخر .
ويصح أن يكون المراد بالأيمان هنا الأقسام التى كانوا يقسمونها ويحلفونها عند التعاقد على شئ يهمهم أمره .
وقد قرأ عصام وحمزة والكسائى { عقدت أيمانكم } وقرأ الياقون { عاقدت أيمانكم } وعلى كلتا القراءتين فالمفعول محذوف أى والذين عقدت حلفهم أيمانكم أو عاقدتهم أيمانكم .
وللعلماه فى المرد بقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أقوال منها :
1- أن المراد بهم الحلفاء وهم موالى الموالاة وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ ، وقد ورد فى ذلك آثار منها ما أخرجه ابن جرير وغيره من قتادة قال : قوله تعالى - : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } كان الرجل يعاقد الرجل فى الجاهلية فيقول : دمى دمك ، وهدمى هدمك . . أى مهدومى مهدومك وترثنى وأرثك ، وتلطب بى وأطلب بك ، فجعل له السدس من جميع المال في الإِسلام ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم .
فنسخ ذلك بعد فى سورة الأنفال فقال الله - تعالى - { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } 2- ويرى بعضهم أن المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبنى ، وكانوا يتوارثون بسبب ذلك ، ثم نسخه بآية سورة الأنفال السابقة .
3- ويرى فريق ثالث أن المراد بهم إخوان المؤاخاة ، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يؤاخى بين الرجلين من أصحابه وكانت تلك المؤاخاة سببا فى التوارث ثم نسخ ذلك بآية الآنفال السابقة .
4- وقال أبو مسلم الأصفهانى : المراد بهم الأزواج ، إذ النكاح يسمى عقدا .
والذى نراه أولى هو القول الأول لكثرة الآثار التى تؤيده ، ولأنه هو الذى رجحه جمهور المفسرين ، وعليه يكون المعنى : والذين عقدت حلفهم أيمانكم وهو الذين تحالفتم معهم على التناصير وغيره { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أى فأعطوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود .
قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة . وأولى الأقوال بالصواب فى تأويل قوله - تعالى - { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قول من قال : والذين عقدت أيمانكم على المحالفة ، وهم الحلفاء ، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها : أن عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق على نحو ما قد ذكرنا من الروايات فى ذلك .
وقال ابن كثير : وقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أى والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم فى الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم فى تلك العقود والمعاهدات . وقد كان هذا فى ابتداء الإِسلام ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا من عاقدوا ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } أى إن الله - تعالى - كان وما زال عالما بجميع الأشياء ، ومطلعا على جبلها وخفيها ، وسيجازى الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب . وسيجازى الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب . وسيجازى الذين ينحرفون عنها بما يستحقون من عقاب .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به الوعد لمن أطاع الله والوعيد لمن عصاه .
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة ؛ وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث . هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة . بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه :
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ؛ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
بعد أن ذكر أن للرجال نصيبًا مما اكتسبوا ، وللنساء نصيبًا مما اكتسبن . . وبين - فيما سلف - أنصبة الذكور والإناث في الميراث . . ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه . يرثونه مما آل اليه من الوالدين والأقربين . . فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلا بعد جيل . يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون ؛ ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين . . وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي ؛ وأنها لا تقف عند جيل ؛ ولا تتركز في بيت ولا فرد . . إنما هو التوارث المستمر ، والتداول المستمر ، وحركة التوزيع الدائبة ؛ وما يتبعها من تعديل في المالكين ، وتعديل في المقادير ، بين الحين والحين . .
ثم عطف على العقود ، التي أقرتها الشريعة الإسلامية والتي تجعل الإرث يذهب أحيانًا إلى غير الأقرباء وهي عقود الموالاة . . وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعًا من هذه العقود :
الأول عقد ولاء العتق ، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق - بعد عتقه - بمنزلة العضو في أسرة مولاه [ مولى العتق ] فيدفع عنه المولى الدية ، إذا ارتكب جناية توجب الدية - كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب - ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة . .
والثاني عقد الموالاة . وهو النظام الذي يبيح لغير العربي - إذا لم يكن له وارث من أقاربه - أن يرتبط بعقد مع عربي هو [ مولى الموالاة ] . فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه . يدفع عنه المولى الدية - إذا ارتكب جناية توجب الدية - ويرثه إذا مات .
والنوع الثالث ، هو الذي عقده النبي [ ص ] أول العهد بالمدينة ، بين المهاجرين والأنصار . فكان المهاجر يرث الأنصاري ، مع أهله - كواحد منهم - أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة . .
والنوع الرابع . . كان في الجاهلية ، يعاقد الرجل الرجل ، ويقول : " وترثني وأرثك " . .
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود ؛ وبخاصة النوعين الثالث والرابع . بتقرير أن الميراث سببه القرابة . والقرابة وحدها . ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها . فأمضاها على ألا يجدد سواها . وقال الله سبحانه :
( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) .
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه :
إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
" لا حلف في الإسلام . وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " [ رواه أحمد ومسلم ] .
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية ، في علاجه لها - بدون أثر رجعي - فهكذا صنع في الربا حين أبطله . أبطله منذ نزول النص ، وترك لهم ما سلف منه ؛ ولم يأمر برد الفوائد الربوية . وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص ، ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد . فأما هنا فقد احترم تلك العقود ؛ على ألا ينشأ منها جديد . لما يتعلق بها - فوق الجانب المالي - من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة . فترك هذه العقود القائمة تنفذ ؛ وشدد في الوفاء بها ؛ وقطع الطريق على الجديد منها ؛ قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج !
وفي هذا التصرف يبدو التيسير ، كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول ، في علاج الأمور في المجتمع . حيث كان الإسلام يصوغ ملامح المجتمع المسلم يومًا بعد يوم ؛ ويمحو ويلغي ملامح الجاهلية في كل توجيه وكل تشريع .
{ وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ } : ولكلكم أيها الناس جعلنا موالي ، يقول : ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم . والعرب تسمي ابن العمّ المولى ، ومنه قول الشاعر :
وَمَوْلًى رَمَيْنا حَوْلَهُ وَهُوَ مُدْغِلٌ ***بِأعْرَاضِنا والمُنْدِياتُ سُرُوعُ
يعني بذلك : وابن عمّ رمينا حوله . ومنه قول الفضل بن العباس :
مَهْلاً بِنَى عَمّنا مَهْلاً مَوالِينا ***لا تُظْهرِنّ لنَا ما كانَ مَدْفُونا
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا إدريس ، قال : حدثنا طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ } قال : ورثة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ } قال : الموالي : العصبة ، يعني : الورثة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ } قال : الموالي : العصبة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد قوله : { وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ } قال : هم الأولياء .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ } يقول : عصبة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ } قال : الموالي : أولياء الأب أو الأخ أو ابن الأخ أو غيرهما من العصبة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ } أما موالي : فهم أهل الميراث .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ } قال : الموالي : العصبة هم كانوا في الجاهلية الموالي ، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم أسما ، فقال الله تبارك وتعالى : { فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ } فسموا الموالي . قال : والمولى اليوم موليان : مولى يرث ويورث فهؤلاء ذوو الأرحام ، ومولى يورث ولا يرث فهؤلاء العَتَاقة¹ وقال : ألا ترون قول زكرياء : { وَإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي } ؟ فالموالي ههنا : الورثة ويعني بقوله : { مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } : مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث .
فتأويل الكلام : ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون به مما ترك والده وأقرباؤه من ميراثهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } .
اختلفت القراءة في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ } بمعنى : والذين عقدت أيمانكم الحلف بينكم وبينهم ، وهي قراءة عامة قراء الكوفيين . وقرأ ذلك آخرون : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » بمعنى : والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم الحلِف بينكم وبينهم .
قال أبو جعفر : والذي نقول به في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة أمصار المسلمين بمعنى واحد وفي دلالة قوله : { أيمَانُكُمْ } على أنها أيمان العاقدين والمعقود عليهم الحلف ، مستغنى عن الدلالة على ذلك بقراءة قوله «عقدت » ، «عاقدت » ، وذلك أن الذين قرءوا ذلك «عاقدت » ، قالوا : لا يكون عقد الحلف إلا من فريقين ، ولا بدّ لنا من دلالة في الكلام على أن ذلك كذلك ، وأغفلوا موضع دلالة قوله : «أيمانكم » ، على أن معنى ذلك : أيمانكم وأيمان المعقود عليهم ، وأن العقد إنما هو صفة للأيمان دون العاقدين الحلف ، حتى زعم بعضهم أن ذلك إذا قرىء : { عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ } فالكلام محتاج إلى ضمير صلة في الكلام حتى يكون الكلام معناه : والذين عقدت لهم أيمانكم ذهابا منه عن الوجه الذي قلنا في ذلك من أن الأيمان معنىّ بها أيمان الفريقين وأما «عاقدت أيمانكم » ، فإنه في تأويل : عاقدت أيمان هؤلاء أيمان هؤلاء الحلف ، فهما متقاربان في المعنى ، وإن كانت قراءة من قرأ ذلك : { عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ } بغير ألف ، أصحّ معنى من قراءة من قرأه : «عَاقَدَتْ » للذي ذكرنا من الدلالة على المعنىّ في صفة الأيمان بالعقد على أنها أيمان الفريقين من الدلالة على ذلك بغيره . وأما معنى قوله : { عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ } فإنه وصلت وشدّتْ ووكّدت أيمانكم ، يعني : مواثيقكم التي واثق بعضهم بعضا ، فآتوهم نصيبهم .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى النصيب الذي أمر الله أهل الحلف أن يؤتي بعضهم بعضا في الإسلام ، فقال بعضهم : هو نصيبه من الميراث لأنهم في الجاهلية كانوا يتوارثون ، فأوجب الله في الإسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف ، وبمثله في الإسلام من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية ، ثم نسخ ذلك بما فرض من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، في قوله : { وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنّ اللّهَ كانَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدا } قال : كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بنيهما نسب ، فيرث أحدهما الاَخر ، فنسخ الله ذلك في الأنفال ، فقال : { وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعضٍ في كِتابِ اللّهِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قول الله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » قال : كان الرجال يعاقد الرجل فيرثه ، وعاقد أبو بكر رضي الله عنه مولى فورثه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، ثني معاوية ، عن علي بن طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الاَخر ، فأنزل الله : { وأُلُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ في كِتَابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُهَاجِرِينَ إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُم مَعْرُوفا } يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز ن ثلث مال الميت ، وذلك هو المعروف .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدا » كان الرجل يعاقد الرجلَ في الجاهلية ، فيقول : دمى دمك ، وهَدَمي هَدَمُ ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك . فجعل له السدس من جميع المال في الإسلاك ، ثم يقسم أهل الميرات ميراثهم ، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال ، فقال الله : { وأولُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ في كِتَابِ اللّهِ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : «وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » قال : كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول : دمى دمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك¹ فلما جاء الإسلام ، بقي منهم ناس ، فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس ، ثم نسخ ذلك بالميراث ، فقال : { وأولُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحاجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، قال : سمعت قتادة يقول في قوله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل في الجاهلية ، فيقول : هدمى هدمك ، ودمي دمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك . فجعل له السدس من جميع المال ، ثم يقتسم أهل الميراث ميراثهم ، فنسخ ذلك بعد الأنفال ، فقال : { وأولُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ في كِتَابِ اللّهِ } فصارت المواريث لذوي الأرحام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ، قال : هذا حلف كان في الجاهلية ، كان الرجل يقول للرجل : ترثني وأرثك ، وتنصرني وأنصرك ، وتعقل عني وأعقل عنك .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » كان الرجل يتبع الرجل فيعاقده : إن متّ فلك مثل ما يرث بعض ولدي وهذا منسوخ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : «وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأقْرَبُونَ وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ » فإن الرجل في الجاهلية قد كان يلحق به الرجل ، فيكون تابعه ، فإذا مات الرجل صار لأهله وأقاربه الميراث ، وبقي تابعه ليس له شيء ، فأنزل الله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » فكان يعطَى من ميراثه ، فأنزل الله بعد ذلك : { وأُولُوا الأرْحامٍ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ في كِتاب اللّهِ } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، فكان بعضهم يرث بعضا بتلك المؤاخات ثم نسخ الله ذلك بالفرائض ، وبقوله : { وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِىَ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا إدريس بن يزيد ، قال : حدثنا طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه ، للأخوّة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت هذه الاَية : { وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ } نسخت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكْم » الذين عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } إذا لم يأت رحم يحول بينهم ، قال : وهو لا يكون اليوم ، إنما كان في نفر آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانقطع ذلك ، ولا يكون هذا لأحد إلا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان آخى بين المهاجرين والأنصار واليوم لا يؤاخي بين أحد .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في أهل العقد بالحلف ، ولكنهم أمروا أن يؤتي بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك دون الميراث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا إدريس الأودي ، قال : حدثنا طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : «وَالّذِين عَقَدَتْ إيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ » من النصر والنصيحة والرفادة ، ويوصي لهم ، وقد ذهب الميراث .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ } قال : كان حِلْفٌ في الجاهلية ، فأمروا في الإسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والنصرة والمشورة ، ولا ميراث .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال في هذه الاَية : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » من العون والنصر والخلف .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله الله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » قال : كان هذا حلفا في الجاهلية ، فما كان الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والولاء والمشورة ، ولا ميراث .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : ابن جريج : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو الحلف عقدت أيمانكم ، قال : وأتوهم نصيبهم ، قال : النصر .
حدثني زكريا بن يحيى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : ابن جريج : أخبرني عطاء ، قال : هو الحلف ، قال : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قال : العقل والنصر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » قال : لهم نصيبهم من النصر والرفادة والعقل . .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ » قال : هم الحلفاء .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن خصيف ، عن عكرمة ، مثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » أما عاقدت أيمانكم فالحلف كان الرجل في الجاهلية ينزل في القوم فيحالفونه على أنه منهم يواسونه بأنفسهم ، فإذا كان لهم حقّ أو قتال كان مثلهم ، وإذا كان له حقّ أو نصرة خذلوه¹ فلما جاء الإسلام سألوا عنه ، وأبي الله إلا أن يشدده ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمْ يَزِدِ الإسْلامُ الحُلَفاءَ إلاّ شِدّةً » .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية ، فأمروا بالإسلام أن يوصوا لهم عند الموت وصية . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : ثنى سعيد بن المسيب ، أن الله قال : «وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِىَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » قال سعيد بن المسيب : إنما نزلت هذه الاَية في الذين كانوا يتبنون رجالاً غير أبنائهم ويورثونهم ، فأنزل الله فيهم ، فجعل لهم نصيبا في الوصية ، وردّ الميراث إلى الموالي في ذوي الرحم والعصبة ، وأبي الله للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبّناهم ، ولكن الله جعل لهم نصيبا في الوصية .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيَمانُكُمْ } قول من قال : والذين عقدت أيمانكم على المحالفة ، وهم الحلفاء ، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها أن عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق ، على نحو ما قد ذكرنا من الرواية في ذلك . فإذ كان الله جلّ ثناؤه إنما وصف الذين عقدت أيمانهم ما عقدوه بها بينهم دون من لم يعقد عقد ما بينهم أيمانهم ، وكانت مؤاخاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بين من آخى بينه وبينه من المهاجرين والأنصار ، لم تكن بينهم بأيمانهم ، وكذلك التبني¹ كان معلوما أن الصواب من القول في ذلك قول من قال : هو الحلف دون غيره لما وصفنا من العلة .
وأما قوله : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } فإن أولى التأويلين به ، ما عليه الجميع مجمعون من حكمه الثابت ، وذلك إيتاء أهل الحلف الذي كان في الجاهلية دون الإسلام بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة والرأي دون الميراث ، وذلك لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «لا حِلْفَ في الإسْلامِ ، وما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجَاهِلِيّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً » .
حدثنا بذلك أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل بن يونس ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا حِلْفَ في الإسْلامِ ، وكُلّ حِلْف كانَ في الجاهِلِيَةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً ، وَما يَسُرّني أنّ لي حُمْرَ النّعَمِ وأنّى نَقَضْتُ الحِلْفَ الّذِي كانَ فِي دَارِ النّدْوَةِ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم الضبيّ : أن قيس بن عاصم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، فقال : «لا حِلْفَ فِي الإسْلامِ ، وَلَكنْ تَمَسّكُوا بِحِلْفِ الجاهِلِيّةِ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحلف قال : فقال : «ما كانَ مِنْ حِلْفِ فِي الجاهِلِيّةِ فَتَمَسّكُوا بِهِ وَلا حِلْفَ فِي الإسْلامِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن داود بن أبي عبد الله ، عن ابن جدعان ، عمن حدثه ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «لا حِلْفَ فِي الإسْلامِ ، وَما كانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الجاهِلِيّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً » .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا حسين المعلم . وحدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حسين المعلم . وحدثنا حاتم بن بكر الضبيّ ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن حسين المعلم ، قال : حدثنا أبي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : «فُوا بِحِلْفٍ ، فإنّهُ لا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً ، وَلا تُحْدِثُوا حِلْفا في الإسْلامِ » .
حدثنا أبو كريب وعبدة بن عبد الله الصفار ، قالا : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا زكريا بن أبي زائدة قال : ثنى سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لا حِلْفَ فِي الإسْلامِ ، وأيّمَا حِلْفٍ كانَ فِي الجاهِلِيّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً » .
حدثنا حميد بن مسعدة ومحمد بن عبد الأعلى ، قالا : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «شَهِدْتُ حِلْفَ المُطَيّبِينَ وأنا غُلامٌ مَعَ عُمُومَتِي ، فَمَا أُحِبّ أنّ لي حُمْرَ النّعَمِ وأَنّي أنْكُثُهْ » زاد يعقوب في حديثه عن ابن علية ، قال : وقال الزهري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمْ يُصِبِ الإسْلامُ حِلْفا إلاّ زَادَهُ شِدّةً » قال : «ولا حِلْفَ في الإسْلامِ » ، قال : وقد ألّف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح ، قام خطيبا في الناس ، فقال : «يا أيّها النّاسُ ما كانَ مِنْ حِلْف في الجاهِلِيّةِ فإنّ الإسْلامَ لَمْ يَزِدْهُ إلاّ شِدّةً ، وَلا حِلْفَ فِي الإسْلام » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا أبو كريب قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا سليمان بن بلال ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الحرث عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه .
فإذ كان ما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا ، وكانت الاَية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ ، غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ مع اختلاف المختلفين فيه ، ولوجوب حكمها ونفي النسخ عنه وجه صحيح إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في غير موضع من كتبنا الدلالة على صحة القول بذلك ، فالواجب أن يكون الصحيح من القول في تأويل قوله : { وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ } هو ما ذكرنا من التأويل ، وهو أن قوله : { عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ } مِن الحلف ، وقوله : { فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ } من النصرة والمعونة والنصيحة والرأي على ما أمره به من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي ذكرناه عنه ، دون قول من قال : معنى قوله : { فآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ } من الميراث ، وإن ذلك كان حكما ، ثم نسخ بقوله : { وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتاب اللّهِ } دون ما سوى القول الذي قلناه في تأويل ذلك . وإذا صحّ ما قلنا في ذلك وجب أن تكون الاَية محكمة لا منسوخة .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ كانَ عَلى كُلّ شَيّءٍ شَهِيدا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرأي ، فإن الله شاهد على ما تفعلون من ذلك وعلى غيره من أفعالكم ، مراع لكل ذلك حافظ ، حتى يجازي جميعكم على جميع ذلك جزاءه ، أما المحسن منكم المتبع أمري وطاعتي فبالحسنى ، وأما المسيء منكم المخالف أمري ونهى فبالسوأي . ومعنى قوله : { شَهِيدا } : ذو شهادة على ذلك .
روي ( أن أم سلمة قالت : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث ليتنا كنا رجالا ) فنزلت .
{ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } أي ولكل تركة جعلنا وراثا يلونها ويحرزونها ، ومما ترك بيان لكل مع الفصل بالعامل . أو لكل ميت جعلنا وراثا مما ترك على أن من صلة موالي . لأنه في معنى الوارث . وفي ترك ضمير كل والوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالي ، وفيه خروج الأولاد فإن الأقربون لا يتناولهم كما لا يتناول الوالدين ، أو لكل قوم جعلناهم موالي حظ مما ترك الوالدان والأقربون ، على إن جعلنا موالي صفة كل والراجع إليه محذوف على هذا فالجملة من مبتدأ وخبر . { والذين عقدت أيمانكم } موالى الموالاة ، كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقد على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث . أو الأزواج على أن العقد عقد النكاح وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط وخبره . { فآتوهم نصيبهم } أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك : زيدا فاضربه ، أو معطوف على الوالدان ، وقوله فآتوهم جملة مسببة عن الجملة المتقدمة مؤكدة لها ، والضمير للموالي . وقرأ الكوفيون { عقدت } بمعنى عقدت عهودهم إيمانكم فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه ثم حذف كما حذف في القراءة الأخرى . { إن الله كان على كل شيء شهيدا } تهديد على منع نصيبهم .
«كل » إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر ، فهي بمثابة قبل وبعد ، ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل ، على حد قبل وبعد ، فالمقدر هنا على قول فرقة ، ولكل أحد وعلى قول فرقة «ولكل شيء » يعني : التركة ، والمولى في كلام العرب : لفظة يشترك فيها القريب القرابة ، والصديق ، والحليف ، والمعتَق ، والمعتِق ، والوارث ، والعبد ، فيما حكى ابن سيده ، ويحسن هنا من هذا الاشتراك الورثة ، لأنها تصلح على تأويل «ولكل أحد » ، وعلى تأويل ، «ولكل شيء » وبذلك فسر قتادة والسدي وابن عباس وغيرهم : أن «الموالي » : العصبة والورثة ، قال ابن زيد : لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيهاً ، وذلك في قول الله تعالى : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم }{[3992]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد سمي قوم من العجم ببني العم ، و { مما } متعلقة «بشيء » ، تقديره ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة ، وهي متعلقة على تأويل «ولكل أحد » بفعل مضمر تقديره : ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون ، ويحتمل على هذا أن تتعلق «من » ب { موالي } ، وقوله : { والذين } رفع بالابتداء والخبر في قوله : { فآتوهم } وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر «عاقدت » على المفاعلة أي : أيمان هؤلاء عاقدت أولئك ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقَدت » بتخفيف القاف على حذف مفعول ، تقديره : عقدت إيمانكم حلفهم أو ذمتهم ، وقرأ حمزة في رواية على ابن كيشة{[3993]} عنه «عقّدت » مشددة القاف ، واختلف المتأولون في من المراد ب { الذين } ، فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم : هم الأحلاف ، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف فشدد الله ذلك بهذه الآية ، ثم نسخه بآية الأنفال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله }{[3994]} وقال ابن عباس أيضاً : هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم ، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم .
قال القاضي أبو محمد : وورد لابن عباس : أن المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم ، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فنزلت الآية في ذلك ناسخة ، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة ، أو من المال على جهة الندب في الوصية ، وقال سعيد بن المسيب : هم الأبناء الذين كانوا يتبنون ، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث ، وقال ابن عباس أيضاً : هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث ، وروي عن الحسن : أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان ، و { شهيداً } معناه : أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة ، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة .
الجملة معطوفة على جملة { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] باعتبار كونه جامعاً لمعنى النهي عن الطمع في مال صاحب المال ، قُصد منها استكمال تبيين من لهم حقّ في المال .
وشأنُ ( كُلّ ) إذا حذف ما تضاف إليه أن يعوّض التنوين عن المحذوف ، فإن جرى في الكلام ما يدلّ على المضاف إليه المحذوف قُدّر المحذوف من لفظه أو معناه ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولكل وجهة } في سورة البقرة ( 148 ) ، وكذلك هنا فيجوز أن يكون المحذوف ممّا دلّ عليه قوله - قبله - { للرجال نصيب وللنساء نصيب } [ النساء : 7 ] فيقدّر : ولكلّ الرجال والنساء جعلنا موالَي ، أو لكلّ تاركٍ جعلنا موالي .
ويجوز أن يقدّر : ولكلّ أحد أو شيء جعلنا موالي .
والجعل من قوله : { جعلنا } هو الجعل التشريعي أي شَرعْنا لكلّ موالي لهم حقّ في ماله كما في قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } [ الإسراء : 33 ] .
والموالي جمعُ مَولى وهو محلّ الوَلْيِ ، أي القرب ، وهو مَحلّ مجازي وقرب مجازي . والولاء اسم المصدر للوَلْي المجازي .
وفي نظم الآية تقادير جديرة بالاعتبار ، وجامعة لمعان من التشريع :
الأوّل : ولِكلّ تاركٍ ، أي تارك مالا جعلنا موالي ، أي أهل ولاء له ، أي قرب ، أي ورثة . ويتعلّق { مما ترك } بما في موالي من معنى يَلُونه ، أي يرثونه ، ومِن للتبعيض ، أي يرثون ممّا ترك . وما صدق ( ما ) الموصولة هو المال ، والصلة قرينة على كون المراد بالموالي الميراث ، وكون المضاف إليه ( كلّ ) هو الهالك أو التارك . { ولكل } متعلّق ب ( جعلنا ) ، قدّم على متعلّقه للاهتمام .
وقوله : { الوالدان } استئناف بياني بيّن به المراد في ( موالي ) ، ويصلح أن يبيّن به كلّ المقدّر له مضاف . تقديره : لكلّ تارك . وتبيين كلا اللفظين سواءٌ في المعنى ، لأنّ التارك : والد أو قريب ، والموالي : والدون أو قرابة . وفي ذِكر { الوالدان } غنية عن ذكر الأبناء لتلازمهما ، فإن كان الوالدان من الورثة فالهالك ولد وإلاّ فالهالك والد . والتعريف في { الوالدان والأقربون } عوض عن مضاف إليه أي : والداهم وأقربوهم ، والمضاف إليه المحذوفُ يدلّ عليه الموالي ، وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } [ النساء : 32 ] ، أي ولكلّ من الصنفين جعلنا موالي يرثونه ، وهو الجَعل الذي في آيات المواريث .
والتقدير الثاني : ولكلّ شيء ممّا تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي قوماً يلونه بالإرث ، أي يرثونه ، أي يكون تراثاً لهم ، فيكون المضاف إليه المحذوف اسماً نكرة عامّا يبيّن نوعه المقام ، ويكون { مما ترك } بيانا لما في تنوين ( كلّ ) من الإبهام ، ويكون { والأقربون } فاعلا ( لتَرَك ) .
وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله : { ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] أي في الأموال ، أي ولكلّ من الذين فضّلنا بعضهم على بعض جعلنا موالي يؤول إليهم المال ، فلا تتمنّوا ما ليس لكم فيه حقّ في حياة أصحابه ، ولا ما جعلناه للموالي بعد موت أصحابه .
التقدير الثالث : ولكلّ منكم جعلنا موالي ، أي عاصبين من الذين تركهم الوالدان ، مثل الأعمام والأجداد والأخوالِ ، فإنّهم قرباء الأبوين ، وممّا تركهم الأقربون مثل أبناء الأعمام وأبنائهم وإن تعدّدوا ، وأبناء الأخوات كذلك ، فإنّهم قرباء الأقربين ، فتكون الآية مشيرة إلى إرجاع الأموال إلى العصبة عند الجمهور ، وإلى ذوي الأرحام عند بعض الفقهاء ، وذلك إذا انعدم الورثة الذين في آية المواريث السابقة ، وهو حكم مجمل بيّنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأوْلى رجلٍ ذكر » وقوله : « ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم » رواه أبو داود والنسائي ، وقوله : « الخال وارثُ من لا وارث له » أخرجه أبو داود والترمذي ، وقوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] ، وبذلك أخذ أبو حنيفة ، وأحمد ، وعليه ف ( ما ) الموصولة في قوله : { مما ترك } بمعنى ( من ) الموصولة ، ولا بدع في ذلك . وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله تعالى بعد آية المواريث { تلك حدود الله } [ البقرة : 187 ] فتكون تكملة لآية المواريث .
التقدير الرابع : ولكلّ منكم أيّها المخاطبون بقولنا : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] جعلنا موالي ، أي شَرَعْنا أحكام الولاء لمن هم موال لكم ، فحكم الولاء الذي تركه لكم أهاليكم : الوالدان والأقربون ، أي أهل الولاء القديم في القبيلة المنجرّ من حلف قديم ، أو بحكم الولاء الذي عاقدتْه الأيمان ، أي الأحلاف بينكم وبينهم أيّها المخاطبون ، وهو الولاء الجديد الشامل للتبنّي المحدث ، وللحلف المحدث ، مثل المؤاخاة التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار . فإنّ الولاء منه ولاء قديم في القبائل ، ومنه ما يتعاقد عليه الحاضرون ، كما اشار إليه أبو تمّام .
أعطيت لي دية القتيل وليس لي *** عقل ولا حلف هناك قَدِيمُ
وعلى هذا التقدير يكون { والذين عاقدت أيمانكم } معطوفة على { الوالدان والأقربون } وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله تعالى : { تلك حدود الله } [ البقرة : 187 ] فتكون هذه الآية تكملة لآيات المواريث .
وللمفسّرين تقادير أخرى لا تلائم بعض أجزاء النظم إلا بتعسّف فلا ينبغي التعريج عليها .
وقوله : { والذين عاقدت أيمانكم } قيل معطوف على قوله : { الوالدان والأقربون } ، وقيل هو جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كأنّه قيل : من هم الموالي ؟ فقيل : { الوالدان والأقربون } الخ ، على أنّ قوله : { فأتاهم نصيبهم } خبر عن قوله : { والذين عاقدت } . وأدخلت الفاء في الخبر لتضمّن الموصول معنى الشرط ، ورجّح هذا بأنّ المشهور أنّ الوقت على قوله : { والأقربون } وليس على قوله : { أيمانكم } . والمعاقدة : حصول العقد من الجانبين ، أي الذين تعاقدتم معهم على أن يكونوا بمنزلة الأبناء أو بمنزلة الإخْوَة أو بمنزلة أبناء العمّ .
والأيمان جمع يَمين : إمّا بمعنى اليد ، أسند العقد إلى الأيدي مجازاً لأنّها تقارن المتعاقديِن لأنّهم يضعون أيدي بعضهم في أيدي الآخرين ، علامة على انبرام العقد ، ومن أجل ذلك سمّي العقد صَفقة أيضاً ؛ لأنّه يصفّق فيه اليَدُ على اليد ، فيكون من باب { أو ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 3 ] ؛ وإمَّا بمعنى القَسَم لأنّ ذلك كان يَصحبه قَسَم ، ومن أجل ذلك سمّي حِلْفا ، وصاحبه حَليفاً . وإسناد العقد إلى الأيمان بهذا المعنى مجاز أيضاً ؛ لأنّ القسم هو سبب انعقاد الحلف .
والمراد ب { الذين عاقَدَتْ أيمانكم } : قيل موالي الحلف الذي كان العرب يفعلونه في الجاهلية ، وهو أن يَحالف الرجل الآخر فيقول له « دمي دَمُك وهَدْمي هَدْمُك أي إسقاط أحدهما للدم الذي يستحقّه يمضي على الآخر وثَأرِي ثَأرُكَ وحَرْبي حَرْبُك وسلْمي سلْمُك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك » . وقد جمع هذين الصنفين من الموالي الحُصَين بن الحُمَاممِ من شعراء الحماسة في قوله :
مواليكمُ مولَى الوِلاَدَةِ منكمُ . . . ومولَى اليمين حَابِس قد تُقِسِّمَا
قيل : كانوا جعلوا للمولى السدس في تركة الميت ، فأقرّته هذه الآية ، ثم نسختها آية الأنفال : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن جبير ، ولعلّ مرادهم أنّ المسلمين جعلوا للمولَى السدس وصية لأنّ أهل الجاهلية لم تكن عندهم مواريث معيّنة . وقيل : نزلت هذه الآية في ميراث الإخوة الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم من المهاجرين والأنصار في أول الهجرة ، فكانوا يتوارثون بذلك دون ذوي الأرحام ، ثم نسخ الله ذلك بآية الأنفال ، فتكون هذه الآية منسوخة . وفي أسباب النزول للواحدي ، عن سعيد بن المسيّب ، أنّها نزلت في التبنّي الذي كان في الجاهلية ، فكان المتبنَّي يرث المتبنِّي ( بالكسر ) مثل تبنّي النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة الكلبي ، وتبنّي الأسود بن عبد يغوث المقداد الكَندي ، المشهور بالمقداد بن الأسود ، وتبنّي الخطاب بن نُفَيل عامراً بنَ ربيعة ، وتبنّي أبي حُذيفة بن عتبة بن ربيعة سالماً بن معقل الأصطخري ، المشهور بسالمٍ مولى أبي حذيفة ، ثم نسخ بالمواريث . وعلى القول بأنّ { والذين عاقدت أيمانكم } جملة مستأنفة فالآية غير منسوخة ؛ فقال ابن عباس في رواية ابن جبير عنه في « البخاري » هي ناسخة لتوريث المتآخِين من المهاجرين والأنصار ، لأنّ قوله : { مما ترك الوالدان والأقربون } حَصَر الميراث في القرابة ، فتعيّن على هذا أنّ قوله : { فأتوهم نصيبهم } أي نصيب الذين عاقدت أيمانُكم من النصر والمعونة ، أو فآتوهم نصيبهم بالوصية ، وقد ذهب الميراث . وقال سعيد بن المسيّب : نزلت في التبنّي أمراً بالوصية للمتبنَّى . وعن الحسن أنّها في شأن الموصَى له إذا مات قبل موت المُوصي أن تجعل الوصية لأقاربه لزوماً .
وقرأ الجمهور : { عاقدت } بألف بعد العين . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : { عَقَدَتْ بدون ألف ومع تخفيف القاف .
والفاءُ في قوله : { فأتوهم نصيبهم } فاءُ الفصيحةِ على جعل قوله : { والذين عاقدت أيمانكم } معطوفاً على { الوالدان والأقربون } ، أو هي زائدة في الخبر إن جعل { والذين عقدت } مبتدأً على تضمين الموصول معنى الشرطية . والأمر في الضمير المجرور على الوجهين ظاهر .