المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

2- هذا هو الكتاب الكامل وهو القرآن الذي ننزله لا يرتاب عاقل منصف في كونه من عند الله ، ولا في صدق ما اشتمل عليه من حقائق وأحكام ، وفيه الهداية الكاملة للذين يستعدون لطلب الحق ، ويتوقُّون الضرر وأسباب العقاب .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } أي هذا الكتاب وهو القرآن ، وقيل : هذا فيه مضمر ، أي هذا ذلك الكتاب . قال الفراء : كان الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، فلما أنزل القرآن قال : هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك ، وهذا للتقريب وذلك للتبعيد . وقال ابن كيسان : إن الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سوراً كذب بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال ذلك الكتاب ، يعنى ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه . والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب ، كما يقال للمخلوق خلق ، وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه . وأصل الكتاب : الضم والجمع ، ويقال للجند : كتيبة لاجتماعها ، وسمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى أحرف .

قوله تعالى : { لا ريب فيه } . أي لا شك فيه ، أنه من عند الله وأنه الحق والصدق ، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه لقوله تعالى ( فلا رفث ولا فسوق ) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ، قرأ ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يلها ساكن ، ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسرة ياء ، وإن كان غيرها يشبعها بالضم واواً . ووافقه حفص في قوله ( فيه مهاناً ) فأشبعه .

قوله تعالى : { هدى للمتقين } . يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر و ابن كثير و حمزة و الكسائي ، زاد حمزة و الكسائي عند الياء ، وزاد حمزة عند الواو ، والآخرون لا يدغمونها ، ويخفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين ، ( هدى للمتقين ) ، أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى ، وقيل هو نصب على الحال أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين ، والهدى ما يهتدي به الإنسان ، ( للمتقين ) أي للمؤمنين . قال ابن عباس : المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش ، وهو مأخوذ من الاتقاء وأصله الحجز بين الشيئين ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده . وفي الحديث : " كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم " أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو ، فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب .

قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار : حدثني عن التقوى ؟ فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم . قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت وشمرت ، قال كعب : وذلك التقوى . وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذراً لما به بأس .

وقال عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرم الله ، وأداء ما افترض الله ، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير . وقيل هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وفي الحديث : " جماع التقوى في قوله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الآية " وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد . وتخصيص المتقين

بالذكر تشريف لهم ، أو لأنهم هم المنتفعون بالهدى .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

وقوله { ذَلِكَ الْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة ، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم ، والحق المبين . ف { لَا رَيْبَ فِيهِ } ولا شك بوجه من الوجوه .

ونفي الريب عنه ، يستلزم ضده ، إذ ضد الريب والشك اليقين ، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب . وهذه قاعدة مفيدة ، أن النفي المقصود به المدح ، لا بد أن يكون متضمنا لضده ، وهو الكمال ، لأن النفي عدم ، والعدم المحض لا مدح فيه .

فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } والهدى : ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه ، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة . وقال { هُدًى } وحذف المعمول ، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ، ولا للشيء الفلاني ، لإرادة العموم ، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين ، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ، ومبين للحق من الباطل ، والصحيح من الضعيف ، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم ، في دنياهم وأخراهم .

وقال في موضع آخر : { هُدًى لِلنَّاسِ } فعمم . وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق . فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا ، ولم يقبلوا هدى الله ، فقامت عليهم به الحجة ، ولم ينتفعوا به لشقائهم ، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر ، لحصول الهداية ، وهو التقوى التي حقيقتها : اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه ، بامتثال أوامره ، واجتناب النواهي ، فاهتدوا به ، وانتفعوا غاية الانتفاع . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية ، والآيات الكونية .

ولأن الهداية نوعان : هداية البيان ، وهداية التوفيق . فالمتقون حصلت لهم الهدايتان ، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق . وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ، ليست هداية حقيقية [ تامة ] .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

ثم قال - تعالى - : { ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } .

{ ذَلِكَ } اسم إشارة واللام للبعد حقيقة في الحس ، مجازاً في الرتبة ، والكاف للخطاب ، والمشار إليه - على الراجح - الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى - { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أخبرني عن تأليف { ذَلِكَ الكتاب } مع { الاما } قلت : إن جعلت { الاما } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه . أن يكون { الاما } مبتدأ و { ذَلِكَ } مبتدأ ثانياً ، و { الكتاب } خبره . والجملة خبر المبتدأ الأول .

ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً ، كما تقول : هو الرجل ، أي : الكامل في الرجولية ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال . وإن جعلت { الاما } بمنزلة الصوت ، كان " ذلك " مبتدأ خبره " الكتاب " ، أي : ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل . . . اه ملخصاً .

وقيل : المشار إليه { الاما } على أنه اسم للسورة والمراد المسمى .

و { الكتاب } مصدر كتب كالكتب ، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه .

و ( الريب ) في الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة ، وحقيقة الريبة ، قلق النفس واضطرابها ، ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً . وقال ابن الأثير : الريب هو الشك مع التهمة .

و ( هدى ) . مصدر هداه هدى وهداية وهدية - بكسرها - فهدى ، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية ، وضده الضلال .

و ( المتقون ) جمع متق ، اسم فاعل من اتقى وأصله أوتقى - بوزن افتعل - من وقى الشيء وقاية ، أي : صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه . والمعنى : ذلك الكتاب الكامل ، وهو القرآن الكريم ، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف في أنه منزل من عند الله ، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها . وكانت الإشارة بصيغة البعيد ، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه ، فإن نظرت إليه ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء ، وإن نظرت إليه من ناحية معانية فهو فوق مدارك الحكماء ، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين ، وأدق محدد لتاريخ السابقين ، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن ، وقد شاع في كلام البلغاء تمثل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال ، لأن الشيء النفيس عزيز على أهله ، فمن العادة أن يجعلوه في مكان مرتفع بعيد عن الأيدي . وصحت الإشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد ، لأن الإشارة إلى بعضه كالإشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإنزال ، فهو حاضر في الأذهان ، فشبه بالحاضر في العيان . ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين ، لأنه لروعة حكمته ، وسطوع حجته ، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحياً سماوياً ، ومصدر هداية وإصلاح .

فالجملة الكريمة تنفى الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه ، ويقبلوا على النظر فيه بروية ، ومن ارتاب في القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية ، أو بصيرة نافذة ، أو قلب سليم .

وقدم جملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } على جملة { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتاباً هادياً غبار الريب ، وغيوم الشكوك ، حتى يستقر في النفوس وصفه ، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته .

وفصل جملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } عما قبلها لكمال الاتصال ، حيث كانت جملة { ذَلِكَ الكتاب } مفيدة لكماله ، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } مفيدة لنفي الريب عنه .

والمراد بكونه { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } مع أنه هداية لهم ولغيرهم ، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم . قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال - تعالى - : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ } ويصح أن يكون المعنى : هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية ، كما أقول : هديت مهتديا ، أو كتبت مكتوبا ، على معنى أني هديت شخصاً صار مهدياً بهذه الهداية ، وكتبت خطاباً صار مكتوباً بهذه الكتابة ، وهو أسلوب عربي صحيح . كما ورد في حديث " من قتل قتيلا فله سلبه " . قال صاحب الكشاف : ومحل { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } الرفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ل " ذلك " . . . والذي هو أرسخ عرقاً في البلاعة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً ، وأن يقال : إن قوله { الاما } جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها . و { ذَلِكَ الكتاب } جملة ثانية . و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ثالثة . { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض . فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة : بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريراً لجهة التحدى ، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله . لأنه لا كمال أكمل من الحق واليقين . ولا نقص أنقص ما للباطل والشبه .

وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك ؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع - بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق - من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه . وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

1

( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) .

ومن أين يكون ريب أو شك ؛ ودلالة الصدق واليقين كامنة في هذا المطلع ، ظاهرة في عجزهم عن صياغة مثله ، من مثل هذه الأحرف المتداولة بينهم ، المعروفة لهم من لغتهم ؟

( ذلك الكتاب لا ريب فيه . . هدى للمتقين ) . .

الهدى حقيقته ، والهدى طبيعته ، والهدى كيانه ، والهدى ماهيته . . ولكن لمن ؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورا ودليلا ناصحا مبينا ؟ . . للمتقين . . فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب . هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك . هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب .

لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى ، ويحذر أن يكون على ضلالة ، أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيا ، خائفا ، حساسا ، مهيأ للتلقي . . ورد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقا ذا شوك ؟ قال بلى ! قال : فما عملت ؟ قال : شمرت واجتهدت . قال : فذلك التقوى . .

فذلك التقوى . . حساسية في الضمير ، وشفافية في الشعور ، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وتوق لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء ، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا . وعشرات غيرها من الأشواك !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ }

قال عامة المفسرين : تأويل قول الله تعالى : ذَلِكَ الكِتَابُ : هذا الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( ذلك الكتاب ) ، قال : هو هذا الكتاب .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم ابن ظهير ، عن السدّي في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) قال : هذا الكتاب .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب . قال : قال ابن عباس : ( ذِلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون «ذلك » بمعنى «هذا » ؟ و«هذا » لا شك إشارة إلى حاضر معاين ، و«ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟ قيل : جاز ذلك لأن كل ما تقضّى وقَرُب تقضيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر ، فكالحاضر عند المخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الحديث ، فيقول السامع : إن ذلك والله لكما قلت ، وهذا والله كما قلت ، وهو والله كما ذكرت . فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى ، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ ، فكذلك ذلك في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل ( ذلك الكتاب ) ( الم ) التي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك الكتابُ . ولذلك حسن وضع «ذلك » في مكان «هذا » ، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله : ( الم ) من المعاني بعد تقضي الخبر عنه بألم ، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه كالحاضر المشار إليه ، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب . وترجمه المفسرون أنه بمعنى «هذا » لقرب الخبر عنه من انقضائه ، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم ، وكما قال جل ذكره : ( واذْكُرْ إسمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الأخْيار هَذَا ذِكْرٌ ) فهذا ما في «ذلك » إذا عنى بها «هذا » . وقد يحتمل قوله جل ذكره : ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة ، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الذي لا ريب فيه . ثم ترجمه المفسرون بأن معنى «ذلك » : «هذا الكتاب » ، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في ذلك . وقد وجه معنى ذلك بعضهم إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السلمي :

فإنْ تَكُ خَيْلي قَدْ أصِيبَ صَميمُها *** فَعَمْدا على عَيْنٍ تَيَمّمْتُ مالكا

أقُولُ لَهُ والرّمْحُ يَأطِرُ مَتْنَهُ *** تَأمّلْ خُفافا إنّني أنا ذَلكا

كأنه أراد : تأملني أنا ذلك . فرأى أن «ذلك الكتاب » بمعنى «هذا » نظير ما أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو مخبر عن نفسه ، فكذلك أظهر «ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد . والقول الأول أولى بتأويل الكتاب لما ذكرنا من العلل .

وقد قال بعضهم : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : يعني به التوراة والإنجيل ، وإذا وجه تأويل ذلك إلى هذا الوجه فلا مؤنة فيه على متأوله كذلك لأن «ذلك » يكون حينئذٍ إخبارا عن غائب على صحة .

القول في تأويل قوله تعالى : لا رَيْبَ فِيهَ .

وتأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ : «لا شك فيه » ، كما :

حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد لا رَيْبَ فِيهِ ، قال : لا شك فيه .

حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد عن عطاء : لا رَيْبَ فِيهِ قال : لا شك فيه .

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدّي ، قال : لا رَيْبَ فِيهِ : لا شك فيه .

حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) : لا شك فيه .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) قال : لا شك فيه .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول لا شك فيه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس قوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .

وهو مصدر من قولك : رابني الشيء يريبني ريبا . ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤذيّة الهذلي :

فَقَالُوا تَرَكْنا الحَيّ قَدْ حَصِرُوا بهِ *** فَلا رَيْبَ أنْ قَدْ كانَ ثمّ لَحِيمُ

ويروى : «حصروا » ، و«حَصِروا » ، والفتح أكثر ، والكسر جائز . يعني بقوله : «حصروا به » : أطافوا به ، ويعني بقوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) لا شك فيه ، وبقوله : «إن قد كان ثم لحيم » ، يعني قتيلاً ، يقال : قد لُحم إذا قتل . والهاء التي في «فيه » عائدة على الكتاب ، كأنه قال : لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للمتقين .

القول في تأويل قوله تعالى :

هُدًى .

حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : هُدًى قال : هدى من الضلالة .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدًى للمتّقِينَ ) يقول : نور للمتقين .

والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك : هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه ، ودللته عليه ، وبينته له أهديه هُدًى وهداية .

فإن قال لنا قائل : أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ولا رشادا إلا للمؤمنين ؟ قيل : ذلك كما وصفه ربنا عز وجل ، ولو كان نورا لغير المتقين ، ورشادا لغير المؤمنين لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى ، بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هدى للمتقين ، وشفاء لما في صدور المؤمنين ، ووَقْرٌ في آذان المكذّبين ، وعمى لأبصار الجاحدين ، وحجة لله بالغة على الكافرين فالمؤمن به مهتد ، والكافر به محجوج .

وقوله : هُدًى يحتمل أوجها من المعاني ؛ أحدها : أن يكون نصبا لمعنى القطع من الكتاب لأنه نكرة والكتاب معرفة ، فيكون التأويل حينئذٍ : الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين . و«ذلك » مرفوع ب«الم » ، و«الم » به ، و«الكتاب » نعت ل«ذلك » . وقد يحتمل أن يكون نصبا على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في «فيه » ، فيكون معنى ذلك حينئذٍ : الم الذي لا ريب فيه هاديا . وقد يحتمل أن يكون أيضا نصبا على هذين الوجهين ، أعني على وجه القطع من الهاء التي في «فيه » ، ومن الكتاب على أن «الم » كلام تام ، كما قال ابن عباس . إن معناه : أنا الله أعلم . ثم يكون «ذلك الكتاب » خبرا مستأنفا ، ويرفع حينئذٍ الكتاب ب«ذلك » و«ذلك » بالكتاب ، ويكون «هدى » قطعا من الكتاب ، وعلى أن يرفع «ذلك » بالهاء العائدة عليه التي في «فيه » ، والكتاب نعت له ، والهدى قطع من الهاء التي في «فيه » . وإن جعل الهدى في موضع رفع لم يجز أن يكون «ذلك الكتاب » إلا خبرا مستأنفا و«الم » كلاما تاما مكتفيا بنفسه إلاّ من وجه واحد وهو أن يرفع حينئذٍ «هدى » بمعنى المدح كما قال الله جل وعز : { الم تِلْكَ آيَاتُ الكِتابِ الحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ } في قراءة من قرأ «رحمة » بالرفع على المدح للاَيات .

والرفع في «هدى » حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجه ، أحدها : ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف . والاَخر : على أن يجعل الرافع «ذلك » ، والكتاب نعت ل«ذلك » . والثالث : أن يجعل تابعا لموضع «لا ريب فيه » ، ويكون «ذلك الكتاب » مرفوعا بالعائد في «فيه » ، فيكون كما قال تعالى ذكره : ( وَهَذَا كتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ ) .

وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين أن «الم » رافع «ذلك الكتاب » بمعنى : هذه الحروف من حروف المعجم ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضَه ، وهدم ما بنى فأسرع هدمَه ، فزعم أن الرفع في «هدى » من وجهين والنصب من وجهين ، وأن أحد وجهي الرفع أن يكون «الكتاب » نعتا ل«ذلك » ، و«الهدى » في موضع رفع خبر ل«ذلك » كأنك قلت : ذلك لا شك فيه . قال : وإن جعلت «لا ريب فيه » خبره رفعت أيضا «هدى » بجعله تابعا لموضع «لا ريب فيه » كما قال الله جل ثناؤه : { وَهَذَا كِتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ } كأنه قال : وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا . قال : وأما أحد وجهي النصب ، فأن تجعل «الكتاب » خبرا ل«ذلك » وتنصب «هدى » على القطع لأن «هدى » نكرة اتصلت بمعرفة وقد تمّ خبرها فتنصبها ، لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة ، وإن شئت نصبت «هدى » على القطع من الهاء التي في «فيه » كأنك قلت : لا شكّ فيه هاديا .

قال أبو جعفر : فترك الأصل الذي أصّله في «الم » وأنها مرفوعة ب«ذلك الكتاب » ونبذه وراء ظهره . واللازم له على الأصل الذي كان أصّله أن لا يجيز الرفع في «هدى » بحال إلا من وجه واحد ، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحا . فأما على وجه الخبر لذلك ، أو على وجه الإتباع لموضع «لا ريب فيه » ، فكان اللازم له على قوله إن يكون خطأ ، وذلك أن «الم » إذا رفعت «ذلك الكتاب » فلا شك أن «هدى » غير جائز حينئذٍ أن يكون خبرا ل«ذلك » بمعنى الرافع له ، أو تابعا لموضع لا ريب فيه ، لأن موضعه حينئذٍ نصب لتمام الخبر قبله وانقطاعه بمخالفته إياه عنه .

القول في تأويل قوله تعالى :

للْمُتّقِينَ .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قوله : ( للْمُتّقِينَ ) قال : اتقوا ما حرم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِينَ ) أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به .

حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدى للْمُتّقِينَ ) قال : هم المؤمنون .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : سألني الأعمش عن المتقين ، قال : فأجبته ، فقال لي : سل عنها الكلبي فسألته فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم . قال : فرجعت إلى الأعمش ، فقال : نرى أنه كذلك ولم ينكره .

حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال : حدثنا عمر أبو حفص ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : ( هُدًى للْمُتّقِينَ ) هم مَنْ نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال : ( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِين ) قال : المؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي .

وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه : ( هُدًى للْمُتّقينَ ) تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه ، فتجنبوا معاصيه واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها . وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم بالتقوى فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسليم لها ، لأن ذلك من صفة القوم لو كان محصورا على خاصّ من معاني التقوى دون العام منها لم يَدَع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده ، إما في كتابه ، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذْ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى . فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو : الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين . إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه وتضييع فرائضه التي فرضها عليه ، فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا ، فيكون وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبا تأويل قول الله عز وجل للمتقين .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك الكتاب } ذلك إشارة إلى { الم } إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى ، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا أشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره ، متى أريد ب{ الم } السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو ، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } أو في الكتب المتقدمة . وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة .

وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس ، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب . وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة .

{ لا ريب فيه } معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز ، لا أن أحدا لا يرتاب فيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له ، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة .

وقيل : معناه لا ريب فيه للمتقين . وهدى حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي . والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة ، وهي قلق النفس واضطرابها ، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة . وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ، ومنه ريب الزمان لنوائبه .

{ هدى للمتقين } يهديهم إلى الحق ، والهدى في الأصل مصدر كالسرى والتقى ومعناه الدلالة .

وقيل الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى : { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب . واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه ، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى : { هدى للناس } . أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات ، وتعرف النبوات ، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعا ما لم تكن الصحة حاصلة ، وإليه أشار بقوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه .

والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى . والوقاية : فرط الصيانة . وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة ، وله ثلاث مراتب :

الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } .

الثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعنى بقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } .

الثالثة أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وقد فسر قوله : { هدى للمتقين } ههنا على الأوجه الثلاثة .

واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب : أن يكون { الم } مبتدأ على أنه اسم للقرآن . أو السورة . أو مقدر بالمؤلف منها ، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقا ، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك .

وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف وذلك خبرا ثانيا . أو بدلا والكتاب صفته ، و{ لا ريب } في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إن لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها . وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى : { لا فيها غول } لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة ، أو صفته وللمتقين خبره . وهدى نصب على الحال ، أو الخبر محذوف كما في { لا } ، ضمير . فلذلك وقف على { لا ريب } ، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون ذلك مبتدأ و{ الكتاب } خبره على معنى : أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا ، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر { الم } .

والأولى أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما . ف{ الم } ، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم ، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي ، و{ لا ريب فيه } ، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كماله أعلى مما للحق واليقين . و{ هدى للمتقين } ، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله بأنه { هدى للمتقين } ، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول ، وبيانه أنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته ، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة ، وما كان كذلك كان لا محالة { هدى للمتقين } ، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل ، وفي الثانية فخامة التعريف ، وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا عن إبهام الباطل ، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكرا للتعظيم وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقيا إيجازا وتفخيما لشأنه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( 2 )

الاسم من { ذلك } الذال والألف ، وقيل الذال وحدها ، والألف تقوية ، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد ، والكاف للخطاب ، وموضع { ذلك } رفع كأنه ابتداء( {[160]} ) ، أو ابتداء وخبره بعده ، واختلف في { ذلك } هنا فقيل : هو بمعنى «هذا » ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن .

قال القاضي أبو محمد : وذلك أنه قد يشار ب «ذلك » إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وب «هذا » إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقُرْب( {[161]} ) . وقيل : هو على بابه إِشارة إلى غائب( {[162]} ) ، واختلف في ذلك الغائب ، فقيل : ما قد كان نزل من القرآن ، وقيل : التوراة والإنجيل ، وقيل : اللوح المحفوظ ؛ أي الكتاب الذي هو القدر وقيل : إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ، فأشار إلى ذلك الوعد( {[163]} ) .

وقال الكسائي : «{ ذلك } إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد » . وقيل : إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتاباً ، فالإشارة إلى ذلك الوعد ، وقيل : إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال { الم } حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها( {[164]} ) .

ولفظ { الكتاب } مأخوذ من «كتبتُ الشيء » إذا جمعتَه وضممتَ بعضه إلى بعض ككتبَ( {[165]} ) الخَرَز بضم الكاف وفتح التاء وكتبَ الناقة .

ورفع { الكتاب } يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان . و { لا ريب فيه } معناه : لا شكّ فيه ولا ارتياب به ؛ والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريبٌ للكفار( {[166]} ) .

وقال قوم : لفظ قوله { لا ريب } فيه لفظ الخبر ومعناه النهي .

وقال قوم : هو عموم يراد به الخصوص ؛ أي عند المؤمنين . وهذا ضعيف( {[167]} ) .

وقرأ الزهري ، وابن محيصن ، ومسلم بن جندب ، وعبيد بن عمير : «فِيهُ » بضم الهاء ؛ وكذلك «إليهُ » و «علَيْهُ » و «بِهُ » و «نُصْلِهُ » ونولهُ وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل . وقرأ ابن إسحاق : «فيهو » ضم الهاء ووصلها بواو . ( {[168]} )

و { هدى } معناه رشاد وبيان ، وموضعه ، من الإعراب رفع على أنه خبر { ذلك } ، أو خبر ابتداء مضمر ، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله( {[169]} ) ، ويصح أن يكون موضعه نصباً على الحال من ذلك ، أو من الكتاب ، ويكون العامل فيه معنى الإشارة ، أو من الضمير في { فيه } ، والعامل معنى الاستقرار ؛ وفي هذا القول ضعف .

وقوله { للمتقين } اللفظ مأخوذ من وَقَى ، وفعله اتَّقى ، على وزن افتعل ، وأصله «للموتقيين »( {[170]} ) استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء ، وأبدلت الواو تاءً على أصلهم في اجتماع الواو والتاء ، وأدغمت التاء في التاء فصار { للمتقين } . والمعنى : الذين يتقون الله تعالى( {[171]} ) بامتثال أوامره واجتناب معاصيه ، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله . ( {[172]} )


[160]:- أي: هو ذلك الكتاب.
[161]:- قال بعضهم: الإشارة للبعيد بذلك من باب العرف لا من باب الوضع، ولذلك ترى العرب تستعمل كلا من اسمي الإشارة مكان الآخر، وذلك موجود في كلامهم ومتداول بينهم. قال أبو (ح): سمعت شيخنا أبا جعفر يقول: ذلك إشارة إلى الصراط في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتموه هوالكتاب. قال أبو (ح): وبهذا الذي ذكره الأستاذ يتبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد، وهذا القول أولى، لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره، لا إلى شيء لم يجر له ذكر ا.هـ.
[162]:- ضعف هذا المذهب كثير من العلماء كما قاله ابن (ك).
[163]:- في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لابتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان).
[164]:- هو قطرب وغيره كما سبق آنفا، ويقال لحروف المعجم: حروف الهجاء، كما روي أنه قيل لأعرابي:أتقرأ القرآن؟ قال: والله ما هجوت منه حرفا.
[165]:- كتب السقاء كتبا خرزه بسيرين –وكتب الناقة ظأرها فخزم منخزيها بشيء لئلا تشم البَو، والكُتَبة بالضم السير يخرز به- أو الخرزة التي ضم السير وجهيها، الجمع كتب.
[166]:- معنى نفي الريب عن الكتاب أنه ليس مظنة للريب في ذاته لعلو منزلته، وظهور معجزته، وليس معناه أنه لا يرتاب في أحد أصلا.
[167]:- أي لأن النفي عام، ولذلك كان (لا ريب) منصوبا على التبرئة.
[168]:- وقرأ ابن كثير (فيهي) بكسر الهاء ووصلها بالياء، وقرأ أبو عمرو البصري (فيه هدى) بالإدغام
[169]:- من القراء من يقف على قوله تعالى: (لا ريب)، ويبتدئ بقوله تعالى: (فيه هدى للمتقين)، كأن المعنى: ذلك الكتاب حقا –والوقف على قوله تعالى: (لا ريب فيه) أولى لقوله تعالى في سورة السجدة (آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين). قال أبو (ح): والأولى جعل كل جملة مستقلة، فلذلك الكتاب جملة، ولا ريب جملة، وفيه هدى للمتقين جملة، ولم تحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض، فالأولى أخبرت بكمال الكتاب، والثانية أخبرت بنفي الريب عن الكتاب، والثالثة أثبتت هداية الكتاب للمتقين، وعلى ما ذكره المؤلف فجعل (هدى) خبر (ذلك)، أو خبر ابتداء مضمر أولى، لأن كون الكتاب هدى أبلغ من كونه فيه هدى، ويكون (فيه) من تمام ما قبله.
[170]:- بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها، ثم حذفت الياء للالتقاء فقوله: وسكنت أي الياء.
[171]:- إنما خص الله هدايته بالمتقين –مع أن هداية الكتاب عامة- إظهارا لكرامتهم، وإبرازا لعبوديتهم، لأنهم هم الذين انتفعوا بمواهب الكتاب ومعارفه.
[172]:- روى معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا (يأيها الناسُ، اتخذوا تقوى الله تجارة يأتيكم الربح بلا بضاعة)، ثم قرأ: [ومن يتق الله يجعل له مخرجا] الآية، وعن ابن عباس مرفوعا (من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله) [إن أكرمكم عند الله أتقاكم]. وفي التنزيل [ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب] [ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا]، [ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا]، وقد فسرت التقوى بأنواع من التفسير، وذلك كله مقبول كما للإمام (ط) رحمه الله.