قوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } عطف المستقبل على الماضي ، لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي ، كما قال تعالى في موضع آخر : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } وقيل معناه : إن الذين كفروا فيما تقدم ، ويصدون عن سبيل الله في الحال ، أي : وهم يصدون . { والمسجد الحرام } أي : ويصدون عن المسجد الحرام . { الذي جعلناه للناس } قبلةً لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال : ( وضع للناس ) . { سواءً } قرأ حفص عن عاصم و يعقوب : ( ( سواء ) ) نصباً بإيقاع الجعل عليه يتعدى إلى مفعولين . وقيل : معناه مستوياً فيه ، { العاكف فيه والباد } وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر ، وتم الكلام عند قوله للناس وأراد بالعاكف : المقيم فيه ، والبادي : الطارئ المنتاب إليه من غيره . واختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : سواء ( العاكف فيه والباد ) أي : في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه . وإليه ذهب مجاهد و الحسن وجماعة ، وقالوا : المراد منه نفس المسجد الحرام . ومعنى التسوية : هو التسوية في تعظيم الكعبة وفي فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت . وقال آخرون : المراد منه جميع الحرم ، ومعنى التسوية : أن المقيم والبادي سواء في النزول به ، ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر ، غير أنه لا يزعج فيه أحد إذا كان قد سبق إلى منزل ، وهو قول ابن عباس و سعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل . وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم . وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم ، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها ، وعلى القول الأول -وهو الأقرب إلى الصواب- يجوز ، لأن الله تعالى قال : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فنسب الدار إليه نسب ملك ، واشترى عمر داراً للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم ، فدل على جواز بيعها . وهذا قول طاووس و عمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي . قوله عز وجل : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } أي : في المسجد الحرام وهو الميل إلى الظلم ، " والباء " في قوله ( ( بإلحاد ) ) زائدة كقوله : ( تنبت بالدهن ) ومعناه : من يرد فيه إلحاداً بظلم ، قال الأعشى : ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ، أي : رزق عيالنا . وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال : معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلم . واختلفوا في هذا الإلحاد ، فقال مجاهد و قتادة : هو الشرك وعبادة غير الله . وقال قوم : هو كل شيء كان منهياً عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم . وقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم ، أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم ، من قتل صيد ، أو قطع شجر . وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك ، أو تظلم من لا يظلمك ، وهذا معنى قول الضحاك . وعن مجاهد أنه قال : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات . وقال حبيب بن أبي ثابت : هو احتكار الطعام بمكة . وقال عبد الله بن مسعود في قوله : " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " { نذقه من عذاب أليم } قال : لو أن رجلاً هم بخطيئة لم تكتب عليه ، ما لم يعملها ، ولو أن رجلاً هم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين ، أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم . وقال السدي : إلا أن يتوب . وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان . أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر ، فسئل عن ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله ، وبلى والله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ويَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ الله يقول : ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه ، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ يقول : معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام ، وقضاء نسكه به ، والنزول فيه حيث شاء العاكف فيه ، وهو المقيم به والباد : وهو المنتاب إليه من غيره .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه والباد ، في أنه ليس أحدهما بأحقّ بالمنزل فيه من الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن ابن سابط ، قال : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم ، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل . ففشا فيهم السرق ، وكل إنسان يسرق من ناحيته ، فاصطنع رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا ، إنما جعلته ليحرز متاعهم . وهو قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ قال : الباد فيه كالمقيم ، ليس أحد أحقّ بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : أعتكف بمكة ؟ قال : أنت عاكف . وقرأ : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ العاكف : أهله ، والباد : المنتاب في المنزل سواء .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ يقول : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ قال : العاكف فيه : المقيم بمكة والباد : الذي يأتيه هم في سواء في البيوت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : سَواءً العاكِفُ فِيهِ وَالبادِ سواء فيه أهله وغير أهله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : سَوَاءً العاكفُ فِيهِ والبْادِ قال : أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء .
وقال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قال : الساكن ، والبَادِ الجانب سواء حقّ الله عليهما فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قال : الساكن والباد : الجانب .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قالا : من أهله ، والبَادِ الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء .
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك لأن الله تعالى ذكره ذكر في أوّل الاَية صدّ من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام ، فقال : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ ثم ذكر جلّ ثناؤه صفة المسجد الحرام ، فقال : الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ فأخبر جلّ ثناؤه أنه جعله للناس كلهم ، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه . ثم قال : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ وَالبْادِ فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد ، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدّوا عنه المؤمنين به وذلك لا شكّ طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام ، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم . وقيل : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فعطف ب «يصدّون » وهو مستقبل على «كفروا » وهو ماض ، لأن الصدّ بمعنى الصفة لهم والدوام . وإذا كان ذلك معنى الكلام ، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال ، ولا يكون بلفظ الماضي . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : إن الذين كفروا من صفتهم الصدّ عن سبيل الله ، وذلك نظير قول الله : الّذِين آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوُبهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ . وأما قوله : سَوَاءٌ العاكِفُ فِيهِ فإن قرّاء الأمصار على رفع «سواءٌ » ب «العاكف ، و«العاكف » به ، وإعمال «جعلناه » في الهاء المتصلة به ، واللام التي في قوله «للناس » ، ثم استأنف الكلام ب «سواء » وكذلك تفعل العرب ب «سواء » إذا جاءت بعد حرف قد تمّ الكلام به ، فتقول : مررت برجل سواء عنده الخير والشرّ ، وقد يجوز في ذلك الخفض . وإنما يختار الرفع في ذلك لأن «سواء » في مذهب واحد عندهم ، فكأنهم قالوا : مررت برجل واحدٍ عنده الخير والشرّ . وأما من خفضه فإنه يوجهه إلى معتدل عنده الخير والشرّ ، ومن قال ذلك في سواء فاستأنف به ورفع لم يقله في «معتدل » ، لأن «معتدل » فعل مصرّح ، وسواء مصدر فاخراجهم إياه إلى الفعل كاخراجهم حسب في قولهم : مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه قرأه : سواءً نصبا على إعمال «جعلناه » فيه ، وذلك وإن كان له وجه في العربية ، فقراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .
وقوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظْلُمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ يقول تعالى ذكره : ومن يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم ، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم . وأدخلت الباء في قوله «بإلحاد » والمعنى فيه ما قلت ، كما أدخلت في قوله : تنبت بالدهن والمعنى : تنبت الدهن ، كما قال الشاعر :
بِوَادِ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشّثّ صَدْرُهُ *** وأسْفَلُهُ بالمرْخِ والشّبَهانِ
والمعنى : وأسفله ينبت المرخ والشبهان وكما قال أعشى بني ثعلبة :
ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيالِنا أرْماحُنا *** بينَ المَرَاجِلِ والصّرِيجِ الأجْرَدِ
بمعنى : ضمنت رزق عيالنا أرماحنا في قول بعض نحويي البصريين . وأما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول : أدخلت الياء فيه ، لأن تأويله : ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم . وكان يقول : دخول الباء في «أن » أسهل منه في «إلحاد » وما أشبهه ، لأن «أن » تضمر الخوافض معها كثيرا وتكون كالشرط ، فاحتملت دخول الخافض وخروجه لأن الإعراب لا يتبين فيها ، وقال في المصادر : يتبين الرفع والخفض فيها ، قال : وأنشدني أبو الجَرّاح :
فَلَمّا رَجَتْ بالشّرْبِ هَزّ لها العَصَا *** شَحِيحٌ لهُ عِنْدَ الأَداءِ نَهِيمُ
ألا هَلْ أتاها والحَوَادِثُ جمّةٌ *** بأنّ أمرأ القَيْسِ بْنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا
قال : فأدخل الباء على «أن » وهي في موضع رفع كما أدخلها على «إلحاد » وهو في موضع نصب . قال : وقد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر ، كما قال الشاعر :
ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمِي *** بِمَا لاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيادِ
وقال : وهو في «ما » أقلّ منه في «أن » ، لأن «أن » أقلّ شبها بالأسماء من «ما » . قال : وسمعت أعرابيّا من ربيعة ، وسألته عن شيء ، فقال : أرجو بذاك يريد أرجو ذاك .
واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم ، فقال بعضهم : ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به أي بالبيت ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بالْحاد بِظُلْمٍ يقول : بشرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحاد بِظُلْمٍ هو أن يعبد فيه غير الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ قال : هو الشرك ، من أشرك في بيت الله عذّبه الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قَتادة ، مثله وقال آخرون : هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ يعني أن تستحلّ من الحرام ما حرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ قال : يعمل فيه عملاً سيئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله .
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ قالا : حدثنا المحاربيّ ، عن سفيان عن السّديّ ، عن مرّة عن عن عبد الله ، قال : ما من رجل يهمّ بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلاً بعد أن بين همّ أن يقتل رجلاً بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا شعبة ، عن السديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله قال مجاهد ، قال يزيد ، قال لنا شعبة ، رفعه ، وأنا لا أرفعه لك في قول الله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِيم قال : «لو أن رجلاً همّ فيه بسيئة وهو بعدن أَبْيَنَ ، لأذاقه الله عذابا أليما » .
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْاد بِظُلْم قال : إن الرجل ليهمّ بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها ، فتكتب عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِيم قال : الإلحاد : الظلم في الحرم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك الظلم : استحلال الحرم متعمدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : بإلحْادٍ بِظُلمٍ قال : الذي يريد استحلاله متعمدا ، ويقال الشرك .
وقال آخرون : بل ذلك احتكار الطعام بمكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن أشعث ، عن حبيب بن أبي ثابت في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بالحْادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ قال : هم المحتكرون الطعام بمكة .
وقال آخرون : بل ذلك كل ما كان منهيّا عنه من الفعل ، حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان له فسطاطان : أحدهما في الحلّ ، والاَخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ ، فسئل عن ذلك ، فقال : كنا نحدّث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن أبي ربعي ، عن الأعمش ، قال : كان عبد الله بن عمرو يقول : لا والله وبلى والله من الإلحاد فيه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس ، من أنه معنيّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم ، فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك : «وَمَنْ يَرِدْ فِيهِ » بفتح الياء ، بمعنى : ومن يَرِدْه بإلحاد من وَرَدْت المكان أَرِدْه . وذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القرّاء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب . وذلك أنّ «يَرِدْ » فعل واقع ، يقال منه : هو يَرِد مكان كذا أو بلدة كذا غدا ، ولا يقال : يَرِدُ في مكان كذا . وقد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب أن طَيّئا تقول : رغبت فيك ، تريد : رغبت بك ، وذكر أن بعضهم أنشده بيتا :
وأرْغَبُ فِيها عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ *** وَلَكِنّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لَسْتُ أرْغَبُ
بمعنى : وأرغب بها . فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا ، فإنه يجوز في الكلام ، فأما القراءة به غير جائزة لِما وصفت .