87- واذكر - أيها النبي - قصة يونس صاحب الحوت إذ ضاق بإعراض قومه عن دعوته ، فهجرهم ورحل عنهم بعيداً غاضباً عليهم ، ظاناً أن الله أباح له أن يهجرهم ، فظن أن الله لن يقدر عليه ، فابتلعه الحوت ، وعاش وهو في ظلمات البحر ، ونادى ربه ضارعاً إليه معترفاً بما كان منه قائلا : يا رب ، لا معبود بحق إلا أنت ، أنزهك عن كل ما لا يليق بك ، أعترف إني كنت من الظالمين لنفسي بعملِ ما لا يرضيك .
قوله تعالى : { وذا النون } أي : اذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى { إذ ذهب مغاضباً } اختلفوا في معناه . فقال الضحاك : مغاضباً لقومه ، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس ، قال : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطاً ونصف ، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي معه في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال له الملك : فمن ترى ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال يونس : إنه قوي أمين فدعا الملك بيونس فأمره أن يخرج ، فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي . قال : لا ، قال : فهل سماني لك ؟ قال : لا ، قال : فها هنا غيري أنبياء أقوياء ، فألحوا عليه فخرج من بينهم مغاضباً للنبي وللملك ، ولقومه فأتى بحر الروم فركبه . وقال عروة بن الزبير و سعيد بن جبير وجماعة : ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعدما أوعدهم ، وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف ، فيما أوعدهم ، واستحيا منهم ، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب ، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده ، وأنه يسمى كذاباً لا كراهية لحكم الله تعالى . وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد ، فغضب ، والمغاضبة ها هنا من المفاعلة التي تكون من واحد ، كالمسافرة والمعاقبة ، فمعنى قوله مغاضباً أي غضبان . وقال الحسن : إنما غاضب ربه عز وجل من أجل أنه أمره بالمسير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه ، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم ، فقيل له إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأل أن ينظر إلا أن يأخذ نعلاً يلبسها فلم ينظر ، وكان في خلقه ضيق فذهب مغاضباً . وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، فقال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب فانطلق إلى السفينة . وقال وهب بن منبه : إن يونس ابن متى كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل فقذفها بين يده ، وخرج هارباً منها ، فلذلك أخرجه الله من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تكن كصاحب الحوت } قوله { فظن أن لن نقدر عليه } أي لن نقضي بالعقوبة ، قاله مجاهد وقتادة والضحاك و الكلبي ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس يقال : قدر الله الشيء تقديراً وقدر يقدر قدراً بمعنى واحد ، ومنه قوله : { نحن قدرنا بينكم الموت }في قراءة من خففها دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري ، فظن أن لن نقدر عليه بالتشديد ، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه : فظن أن لن نضيق عليه الحبس ، كقوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يضيق . وقال ابن زيد : هو استفهام معناه : فظن أنه يعجز ربه ، فلا يقدر عليه . وقرأ يعقوب يقدر بضم الياء على المجهول خفيف . وعن الحسن قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه واستزله للشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه ، وكان له سلف وعبادة فأبي الله أن يدعه للشيطان ، فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة . وقال عطاء : سبعة أيام وقيل : ثلاثة أيام . وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة . وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه تعالى في بطن الحوت ، وراجع نفسه فقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، حين عصيتك وما صنعت من شيء فلن أعبد غيرك فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته ، والتأويلات المتقدمة أولى بحال الأنبياء أنه ذهب مغاضباً لقومه أو للملك ، { فنادى في الظلمات } أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } يعني : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت .
وروي عن أبي هريرة مرفوعاً : أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً ، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه ما هذا ؟ فأوحى الله إليه : إن هذا تسبيح دواب البحر ، قال : فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه ، فقالوا : يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة ، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول ، فقال : ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم فشفعوا له ، عند ذلك فأمر الحوت فقذفه إلي الساحل كما قال الله تعالى : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم }
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة يونس - عليه السلام - فقال : { وَذَا النون . . . } .
المراد بذى النون : يونس بن متى - عليه السلام - ، والنون : الحوت . وجمعه نينان وأنوان . وسمى بذلك لابتلاع الحوت له .
قال - تعالى - : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ . . } وملخص قصة يونس " أن الله - تعالى - ارسله إلى أهل نينوى بالعراق فى حوالى القرن الثامن قبل الميلاد ، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله - عز وجل - فاستعصوا عليه ، فضاق بهم ذرعا ، وتركهم وهو غضبان ليذهب إلى غيرهم ، فوصل إلى شاطىء البحر ، فوجد سفينة فركب فيها ، وفى خلال سيرها فى البحر ضاقت بركابها ، فقال ربانها : إنه لا بد من أحد الركاب يلقى بنفسه فى البحر لينجو الجميع من الغرق . فجاءت القرعة على يونس ، فألقى بنفسه فى اليم فالتقمه الحوت . . . ثم نبذه إلى الساحل بعد وقت يعلمه الله - تعالى - ، فأرسله - سبحانه - إلى قومه مرة أخرى فآمنوا .
وسيأتى تفصيل هذه القصة فى سورة الصافات - بإذن الله - .
والمعنى : واذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ - عبدنا ذان النون . وقت أن فارق قومه وهو غضبان عليهم ، لأنهم لم يسارعوا إلى الاستجابة له .
قال الجمل : وقوله : { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } أى : غضبان على قومه ، فالمفاعة ليست على بابها فلا مشاركة كعاقبت وسافرت ، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ، أى غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا فى أول الأمر " .
وقوله - تعالى - : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } بيان لما ظنه يونس - عليه السلام - حين فارق قومه غاضبا عليهم بدون إذن من ربه - عز وجل - .
أى : أن يونس قد خرج غضبان على قومه لعدم استجابتهم لدعوته فظن أن لن نضيق عليه ، عقابا له على مفارقته لهم من غير أمرنا ، أو فظن أننا لن نقضى عليه بعقوبة معينة فى مقابل تركه لقومه بدون إذننا .
فقوله : { نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } بمعنى نضيق عليه ونعاقبه . يقال : قدر الله الرزق يقدره - بكسر الدال وضمها - إذا ضيقه . ومنه قوله - تعالى - : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } وقوله : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ . . } أى : ضيقه عليه
ثم بين - سبحانه - ما كان يردده يونس وهو فى بطن الحوت فقال : { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين .
والفاء فى قوله { فنادى } فصيحة .
والمراد بالظلمات : ظلمات البحر ، وبطن الحوت ، والليل .
أى : خرج يونس غضبان على قومه . فحدث له ما حدث من التقام الحوت له ، فلما صار فى جوفه المظلم ، بداخل البحر المظلم ، أخذ يتضرع إلينا بقوله : أشهد أن لا إله إلا أنت يا إلهى مستحق للعبادة ، { سُبْحَانَكَ } أى : أنزهك تنزيها عظيما { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } لنفسى حين فارقت قومى بدون إذن منك .
وإنى أعترف بخطىء - يا إلهى - فتقبل توبتى ، واغسل حوبتى .
هذا وقد ذكر ابن جرير وابن كثير وغيرهما من المفسرين هنا روايات متعددة عن المدة التى مكثها يونس فى بطن الحوت ، وعن فضل الدعاء الذى تضرع به إلى الله - تعالى - ، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن سعد بن أبى وقاص - رضى الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " " بسم الله الذى إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى " . قال : قلت : يا رسول الله ، هى ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : " هى ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة ، إذا دعوا بها . ألم تسمع قول الله - تعالى - : { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } فهو شرط من الله لمن دعاه به " " .
عطف على { وذا الكفل } [ الأنبياء : 85 ] . وذكر ذي النون في جملة من خُصّوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما في قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له .
و ( ذو النون ) وصفٌ ، أي صاحب الحوت . لقب به يونس بن متَى عليه السلام . وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس .
وذهابُه مغاضباً قيل خروجه غضبان من قومه أهل ( نينَوى ) إذْ أبَوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته ، فالمغاضبة مفاعلة . وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس . وقيل : إنه أوحي إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدّة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبانَ من عدم تحقق ما أنذرهم به ، فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غَضب غريب . وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره ابن جرير . والوجه أن يكون { مغاضباً } حالاً مراداً بها التشبيه ، أي خرج كالمغاضب . وسيأتي تفصيل هذا المعنى في سورة الصافات .
وقوله تعالى : { فظن أن لن نقدر عليه } يقتضي أنه خرج خروجاً غير مأذون له فيه من الله . ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل هو إليها يرسل الله غيره إليهم . وقد روي عن ابن عباس أن ( حزقيال ) ملكَ إسرائيل كان في زمنه خمسةُ أنبياء منهم يونس ، فاختاره الملِك ليذهب إلى أهل ( نينوَى ) لدعوتهم فأبى وقال : ههنا أنبياء غيري وخرج مغاضباً للملِك . وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل .
ومحلّ العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة .
ومعنى { فظن أن لن نقدر عليه } قيل نقدر مضارع قَدَر عليه أمراً بمعنى ضيّق كقوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] وقوله تعالى : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } [ الطلاق : 7 ] ، أي ظن أن لن نضيّق عليه تَحْتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة ، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقطَ تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهاداً منه ، فعوتب بما حلّ به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله . وفي « الكشاف » : أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاويةُ : « لقد ضربتني أمواجُ القرآن البارحة فغرِقت فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . قال : وما هي ؟ فقرأ معاوية هذه الآية وقال : أو يظن نبيءُ الله أن الله لا يقدر عليه ؟ قال ابن عباس : هذا من القَدرْ لا من القُدرة » . يعني التضييق عليه .
وقيل { نقدر } هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القُدرة ، أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذننٍ . ونقل هذا عن مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج .
وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ .
وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خُطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرةً بدافع الغضب عن غير تأمل في لوازمه وعواقبه ، قالوا : وكان في طبعه ضيق الصدر .
وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته . والتقدير : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر . قال منذر بن سعيد في « تفسيره » : وقد قرىء به .
وعندي فيه تأويلان آخران وهما : أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلاً عادة ، وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة ، أي ظن بعد أن ابتلعَه الحوت .
وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده ، ولذلك قال : { إني كنت من الظالمين } مبالغة في اعترافه بظلم نفسه ، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف ، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف ، أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه ، ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله .
و { إني } مفسرة لفعل { نادى } .
وتقديمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنّى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء .
والظلمات : جمع ظلمة . والمراد ظلمة الليل ، وظلمة قعر البحر ، وظلمة بطن الحوت . وقيل : الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وذا النون} يعني: يونس بن متى، عليه السلام، {إذ ذهب مغاضبا} يعني: مراغما لقومه... ففارقهم من غير أن يؤمنوا.
{فظن أن لن نقدر عليه} فحسب يونس أن لن نعاقبه بما صنع. {فنادى}: فدعا ربه {في الظلمات} يعني: ظلمات ثلاث ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، فنادى: {أن لا إله إلا أنت} يوحد ربه، عز وجل، {سبحانك} نزه تعالى أن يكون ظلمه، ثم أقر على نفسه بالظلم، فقال: {إني كنت من الظالمين} يقول يونس عليه السلام: إني ظلمت نفسي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد ذا النون، يعني صاحب النون. والنون: الحوت. وإنما عَنَى بذي النون: يونس بن متى، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع.
وقوله:"إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا" يقول: حين ذهب مغاضبا.
واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا، وعمن كان ذهابه، وعلى من كان غضبه؛
فقال بعضهم: كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب... وقال آخرون: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه... وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ "على ذلك. على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه واستعظاما له. وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واسْتَحْيَا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء. وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذي فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك... وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمُقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه. ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ" ويقول: "فالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أنهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ".
وقوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جلّ ثناؤه: "وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ"... عن ابن عباس: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" يقول: ظنّ أن لن نقضيَ عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره. وعقوبته أخذ النون إياه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظنّ أنه يُعجز ربه فلا يقدر عليه... وقال آخرون: بل ذلك بمعنى الاستفهام، وإنما تأويله: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟... وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عَنَى به: فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه، عقوبة له على مغاضبته ربه.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة، لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوّته، ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه، وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر، وغير جائز لأحد وصفه بذلك. وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن، ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك. والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلاً على أنه مراد في الكلام، فإذا لم يكن في قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَيْهِ" دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد، كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان، صحّ الثالث وهو ما قلنا.
وقوله: "فَنَادَى في الظّلُماتِ" اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عُني بها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت... وقال آخرون: إنما عَنَى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر. قالوا: فذلك هو الظلمات...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات: "إن لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات: بطن الحوت، وبالأخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر. ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل.
وقوله: "لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ" يقول: نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته "إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" في معصيتي إياك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ ذهب مغاضبا} اختلف فيه: قال بعضهم: مغاضبا لربه أي حزينا له، لأنه كان أراد أن يهلك الله قومه لما أيس من إيمان قومه، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم، فخرج حزينا لذلك...
وقال بعضهم: {إذ ذهب مغاضبا} لقومه، وذلك يخرج على وجوه: أحدها: خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه؛ خرج مكيدة لقومه لأنه السنة فيهم أنه إذا خرج رسول الله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب؛ خرج من عندهم ليخافوا العذاب، فيؤمنوا. والثاني: خرج إشفاقا على نفسه لئلا يقتل لما أن قومه هموا بقتله؛ خرج لئلا يقتل إشفاقا على نفسه كما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهر قومه لما هموا بقتله. لكن رسول الله خرج بإذن، ويونس بغير إذن. والثالث: خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة، وأيس من إيمانهم، خرج ليفرغ نفسه لعبادة ربه إذ كان مأمورا بعبادة ربه ودعا قومه إلى ذلك. فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربه، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه، فعوقب لذلك، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي، ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان تأديباً.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال إن يونس عليه السلام صَحِبَ الحوتَ أياماً قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظَنُّكَ بِعَبْدٍ عَبَدَه -سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طولَ عمره... ترى أيبطل هذا؟ لا يُظَنُّ بِكَرَمِهِ ذلك!
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت. ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب»... وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى».
أما قوله "سبحانك "فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز، وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله: {فظن أن لن نقدر عليه} أنه ظن العجز، وإنما قال: {سبحانك} لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام، أو عجزا عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاء ذي النون في بطن الحوت "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له).
في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: "وكذلك ننجي المؤمنين" وليس ههنا صريح دعاء، وإنما هو مضمون قوله: "إني كنت من الظالمين" فاعترف بالظلم فكان تلويحا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله. ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن في هذه الحلقة من قصة يونس -عليه السلام- لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات. إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدرا بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضبا، ضيق الصدر، حرج النفس؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين. ولولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه. لما فرج الله عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا. ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا. ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا. إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة.. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أوصاد القلوب! إن طريق الدعوات ليس هينا لينا. واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب. ولا بد من إزالة هذا الركام. ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة. ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة. ومن محاولة العثور على العصب الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود!...
إن الداعية أداة في يد القدرة. والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله. والهدى هدى الله. وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه. وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها.