طلبت هذه السورة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إلى ربه ، ويعتصم به من شر كل ذي شر من مخلوقاته ، ومن شر الليل إذا دخل ظلامه . لما يصيب النفوس فيه من الوحشة ، ولما يتعذر من دفع ضرره ، ومن شر المفسدات الساعيات في حل ما بين الناس من روابط وصلات ، ومن شر حاسد يتمنى زوال ما يسبغ الله على عباده من نعمه .
{ قل أعوذ برب الفلق } قال ابن عباس ، وعائشة : كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدة أسنان من مشطه ، فأعطاها اليهود فسحروه فيها ، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم ، رجل من يهود ، فنزلت السورتان فيه .
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأنا أنس بن عياض ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم : طب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئاً وما صنعه ، وأنه دعا ربه ، ثم قال : أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ فقالت عائشة : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال الآخر : هو مطبوب . قال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : فبماذا ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ، قال : فأين هو ؟ قال : في ذروان -وذروان بئر في بني زريق -قالت عائشة : فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى عائشة ، فقال : والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين ، قالت : فقلت له : يا رسول الله هلا أخرجته ؟ قال : أما أنا فقد شفاني الله ، فكرهت أن أثير على الناس به شراً " . وروي أنه كان تحت صخرة في البئر ، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة ، فإذا فيه مشاطة رأسه ، وأسنان مشطه فيها .
أخبرنا المطهر بن علي الفاري ، أنبأنا محمد بن إبراهيم الصالحاني ، حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر أبو الشيخ الحافظ ، أنبأنا ابن أبي عاصم ، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن يزيد بن حبان بن أرقم قال : " سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود ، قال : فاشتكى لذلك أياماً ، قال : فأتاه جبريل ، فقال : إن رجلاً من اليهود سحرك وعقد لك عقدا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها فجاء بها ، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهود ولا رأوه في وجهه قط " .
قال مقاتل والكلبي : كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة . وقيل : كانت العقد مغروزة بالإبرة ، فأنزل الله هاتين السورتين ، وهما إحدى عشرة آية ، سورة الفلق خمس آيات ، وسورة الناس ست آيات ، كلما قرأ آية انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال . وروي : أنه لبث فيه ستة أشهر ، واشتد عليه ثلاث ليال ، فنزلت المعوذتان .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا بشر بن هلال الصواف ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : " أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، اشتكيت ؟ قال : نعم ، فقال : بسم الله أرقيك من كل نفس أو عين حاسد ، الله يشفيك ، بسم الله أرقيك " . قوله عز وجل :{ قل أعوذ برب الفلق } ، أراد بالفلق : الصبح ، وهو قول جابر بن عبد الله ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وأكثر المفسرين ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، بدليل قوله :{ فالق الإصباح } . وروي عن ابن عباس : أنه سجن في جهنم . وقال الكلبي : واد في جهنم . وقال الضحاك : يعني الخلق ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس ، والأول هو المعروف .
1- سورة " الفلق " تسمى –أيضا- سورة { قل أعوذ برب الفلق } ، وتسمى هي والتي بعدها بالمُعْوِذَتَيْنِ ، وكان نزولهما على الترتيب الموجود في المصحف .
ويرى الحسن وعطاء وعكرمة أنهما مكيتان ، ويرى قتادة وجماعة أنهما مدنيتان .
قال الآلوسي عند تفسيره لهذه السورة : هي مكية في قول الحسن . . ومدنية في رواية عن ابن عباس . وفي قول قتادة وجماعة ، وهو الصحيح ؛ لأن سبب نزولها سحر اليهود . . ( {[1]} ) .
وقد سار السيوطي في إتقانه على أنهما مكيتان ، وأن نزول سورة الفلق كان بعد نزول سورة " الفيل " وقبل سورة " الصمد " .
2- وعدد آياتها خمس آيات ، والغرض الأكبر منها تعليم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يستعيذ بالله –تعالى- من شرور الحاقدين والجاحدين والسحرة والفاسقين عن أمر ربهم . .
الفلق : أصله شق الشيء عن الشيء ، وفصل بعض عن بعض ، والمراد به هنا : الصبح ، وسمى فلقا لانفلاق الليل وانشقاقه عنه ، كما فى قوله - تعالى - : { فَالِقُ الإصباح } أي : شاقٌّ ظلمة آخر الليل عن بياض الفجر . .
ويصح أن يكون المراد به ، كل ما يفلقه الله - تعالى - من مخلوقات كالأرض التى تنفلق عن النبات ، والجبال التى تنفلق عن عيون الماء . .
أي : قل - أيها الرسول الكريم - أعوذ وأستجير وأعتصم ، بالله - تعالى - الذي فلق الليل ، فانشق عنه الصباح ، والذي هو رب جميع الكائنات ، ومبدع كل المخلوقات . .
تفسير سورة الفلق . {[1]}
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد هو آحاد أمته ، وقال ابن عباس وابن جبير والحسن والقرظي وقتادة ومجاهد وابن زيد : { الفلق } : الصبح ، كقوله تعالى : { فالق الإصباح }{[12032]} [ الأنعام : 96 ] ، وقال ابن عباس أيضاً وجماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم : { الفلق } : جب في جهنم ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[12033]}
سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة { قل أعوذ برب الفلق } . روى النسائي عن عقبة بن عامر قال : اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت : أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف ، فقال : لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من { قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس } .
وهذا ظاهر في أنه أراد سورة { قل أعوذ برب الفلق } لأنه كان جوابا على قول عقبة : أقرأني سورة هود الخ ، ولأنه عطف على قوله { قل أعوذ برب الفلق } قوله { قل أعوذ برب الناس } ولم يتم سورة { قل أعوذ برب الفلق } .
عنونها البخاري في صحيحه { سورة قل أعوذ برب الفلق } بإضافة سورة إلى أول جملة منها .
وجاء في بعض كلام الصحابة تسميتها مع سورة الناس { المعوذتين } . روى أبو داود والترمذي وأحمد عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات بكسر الواو المشددة وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات ، أي آيات السورتين وفي رواية بالمعوذتين في دبر كل صلاة . ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد ، وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى ، فإضافة سورة إلى المعوذة من إضافة المسمى إلى الاسم ، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه أو كالذي يدخله المعاذ .
وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير { سورة الفلق } .
وفي الإتقان : أنها وسورة الناس تسميان « المشقشقتين » بتقديم الشينين على القافين من قولهم خطيب مشقشق اه . أي مسترسل القول تشبيها له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك .
وفي تفسير القرطبي والكشاف أنها وسورة الناس تسميان « المشقشقتين » بتقديم القاف على الشينين زاد القرطبي : أي تبرئان من النفاق ، وكذلك قال الطيبي ، فيكون اسم المقشقشة مشتركا بين أربع سور هذه ، وسورة الناس ، وسورة براءة ، وسورة الكافرون .
واختلف فيها أمكية هي أم مدنية ، فقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وعكرمة : مكية ، ورواه كريب عن ابن عباس . وقال قتادة : هي مدنية ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس .
والأصح أنها مكية لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم .
وقال الواحدي : قال المفسرون إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في الصحاح أنها نزلت بهذا السبب ، وبنى صاحب الإتقان عليه ترجيح أن السورة مدنية وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله تعالى { ومن شر النفاثات في العقد } .
وقد قيل : أن سبب نزولها والسورة بعدها : أن قريشا ندبوا ، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه فأنزل الله المعوذتين ليتعوذ منهم بهما ، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب ولم يسنده .
وعدت العشرين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الفيل وقبل سورة الناس .
واشتهر عن عبد الله بن مسعود في الصحيح أنه كان ينكر أن تكون المعوذتان من القرآن ويقول : إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما ، أي ولم يؤمر بأنهما من القرآن . وقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على القراءة بهما في الصلاة وكتبا في مصاحفهم ، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاته .
والغرض منها تعليم النبي صلى الله عليه وسلم كلمات للتعوذ بالله من شر ما يتقى شره من المخلوقات الشريرة ، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر ، والأحوال التي يستر أحوال الشر من ورائها لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها ، فعلم الله نبيه هذه المعوذة ليتعوذ بها ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهذه السورة وأختها ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين .
الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبيء صلى الله عليه وسلم ليتعوذ بها فإجابتُها مرجوة ، إذ ليس هذا المقول مشتملاً على شيء يُكلف به أو يُعمل حتى يكون المراد : قل لهم كذا كما في قوله : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] ، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة .
وقد روي عن ابن مسعود في أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين فقال : " قِيل لي قُل فقلتُ لكم فقولوا " . يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كَلِمة { قُل .
والخطاب { بقُل } للنبيء صلى الله عليه وسلم وإذ قد كان قرآناً كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به ، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ولذلك أيضاً كان يعوِّذ بهما الحَسَن والحُسَيْن كما ثبت في « الصحيح » ، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنَيي الخطاب من توجُّهه إلى معيّن وهو الأصل ، ومن إرادة كلّ من يصح خطابُه وهو طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه .
واستعمال صيغة التكلم في فعل { أعوذ } يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل { قل } فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها .
وأما تعويذُ قارئها غيرَه بها كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين ، وما رُوي عن عائشة قالت : « إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوِّذات ، فلما ثَقُل كنت أنفث عليه بهن وأمْسح بيدِ نفسه لبركتها » ، فذلك على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات لعجز أو صغر أو عدم حفظ .
والعَوْذ : اللجأ إلى شيء يقِي من يلجأُ إليه ما يخافه ، يُقال : عاذ بفلان ، وعاذ بحصن ، ويقال : استعاذ ، إذا سأل غيره أن يُعيذه قال تعالى : { فاستعِذ باللَّه إنه سميع عليم } [ الأعراف : 200 ] . وعاذ من كذا ، إذا صار إلى ما يعيذه منه قال تعالى : { فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم } [ النحل : 98 ] .
و{ الفلق } : الصبح ، وهو فَعَل بمعنى مفعول مثل الصَّمَد لأن الليل شبه بشَيء مغلق ينفلق عن الصبح ، وحقيقة الفَلْق : الانشقاق عن باطن شيء ، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل ، وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى : { وأغطش ليلها وأخرج ضحاها } [ النازعات : 29 ] ، واستعارة السلخ له في قوله تعالى : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [ يس : 37 ] .
وربُّ الفلق : هو الله ، لأنه الذي خلق أسبابَ ظهور الصبح ، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شراً كثيراً يحدث في الليل من لصوص ، وسباع ، وذوات سموم ، وتعذر السير ، وعُسر النجدة ، وبُعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى ، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر .
والمعنى : أعوذ بفالق الصبح مَنجاةً من شرور الليل ، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجى أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح ، فوُصفَ الله بالصفة التي فيها تمهيدٌ للإِجابة .