114- إن الذين يخفون أحاديث يحدثون بها أنفسهم أو يتحدثون بها فيما بينهم ، لا خير في هذه الأحاديث في الكثير ، لأن الشر يفرخ في الخفاء ، لكن إذا كان التحدث للأمر بصدقة يعطونها ، أو للعزم على القيام بعمل غير مستنكر ، أو تدبير إصلاح بين الناس ، فإن ذلك خير ، ومن يفعله طلباً لرضا اللَّه - سبحانه - فإن اللَّه - تعالى - يعطيه جزاءً كبيراً على عمله في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } ، يعني : قوم طعمة ، وقال مجاهد : الآية عامة في حق جميع الناس ، والنجوى : هي الإسرار في التدبير ، وقيل : النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سراً كان أو جهراً ، فمعنى الآية : لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم .
قوله تعالى : { إلا من أمر بصدقة } أي : إلا في نجوى من أمر بصدقة ، فالنجوى يكون متصلا ، وقيل : هاهنا : الرجال المتناجون ، كما قال تعالى { وإذ هم نجوى } [ الإسراء :47 ] { إلا من أمر بصدقة } وقيل هذا استثناء منقطع ، يعني لكن من أمر بصدقة أي : حث عليها .
قوله تعالى : { أو معروف } ، أي : بطاعة الله ، وما يعرفه الشرع ، وأعمال البر كلها معروف ، لأن العقول تعرفها .
قوله تعالى : { أو إصلاح بين الناس } .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم هو ابن أبي الجعد عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ؟ قال : قلنا بلى ، قال : إصلاح ذات البين ، وإن إفساد ذات البين هي الحالقة ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أمه أم مكتوم بنت عقبة ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس الكذاب من أصلح بين الناس فقال خيراً ، أو نمى خيراً ) .
قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك } أي : هذه الأشياء التي ذكرها .
قوله تعالى : { ابتغاء مرضاة الله } ، أي : طلب رضاه .
قوله تعالى : { فسوف نؤتيه } ، في الآخرة .
قوله تعالى : { أجراً عظيماً } ، قرأ أبو عمرو وحمزة { يؤتيه } بالياء ، يعني : يؤتيه الله ، وقرأ الآخرون بالنون .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن كثيرا من كلام الناس لا خير فيه ، وأن العاقل هو الذى يحرص على القول النافع والعمل الطيب . وأن الذين يتبعون الطريق المخالف لطريق الحق سينالهم عذاب شديد من خالقهم فقال - سبحانه - : { لاَّ خَيْرَ فِي . . . . وَسَآءَتْ مَصِيراً } .
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 114 ) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 115 )
وقوله - تعالى - : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } إشارة إلى ما جبل عليه كثير من الناس من إخفاء الأقوال أو الأعمال التى فيها شر ومضرة ، ومن إعلان الأقوال أو الأفاعل التى من ورائها خير ومنفعة . وقوله { نَّجْوَاهُمْ } أى : مما يتناجى به الناس ويتكلمون فيه . والنجوى : اسم مصدر بمعنى المسارة . يقال : نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة . أى : ساررته بكلام على انفراد . وأصله : أن تعلو بمن تناجيه بسر معين فى نجوة من من الأرض . أى فى مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله . وقيل : أصله من النجاة ، لأن الإِسرار بالشئ فيه معاونة على النجاة . وتطلق النجوى على القوم المتناجين كما فى قوله - تعالى - { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى } والضمير فى قوله { مِّن نَّجْوَاهُمْ } يعود إلى الناس جميعا ، ويدخل فيه أولئك الذين كانوا يختانون أنفسهم ومن على شاكلتهم دخولا أوليا .
والمعروف - كما يقول الآلوسى - هو كل ما عرفه الشرع واستحسنه ، فيشمل جميع أنواع البر كقرض وإغاثة ملهوف وإرشاد ضال إلى غير ذلك . ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله - تعالى - { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } .
والمعنى : لا خير فى كثير من الكلام الذى يناجى فيه الناس ، ويتحدثون به سرا ، إلا فى نجوى من أمر غيره سرا بصدقة يزكى بها ماله ، وينفع بها المحتاج إليها ، أو من غيره بالإِكثار من أعمال البر ، أو القيام بالإِصلاح بين الناس المتخاصمين لكى يعودوا إلى ما كانوا عليه من الأفة والإِخاء والصفاء .
قال الجمل : وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } . فى هذا الاستثناء قولان :
والثانى : أنه منقطع . وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يراد بها الصمدر كالدعوى فتكون بمعنى التناجى أى التحدث . وأن يراد بها القوم المتناجون إطلاقا للمصدر على الواقع منه مجازا . فعلى الأولى يكون منقطعا ، لأن من أمر ليس مناجاة ، فكأنه قيل : لكن من أمر بصدقة ففى نجواه الخير وإن جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلا . وقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } . إما منصوب على الاستثناء المنقطع إن جعلته منقطعا فى لغة الحجازيين . أو على أصل الاستثناء إن جعلته متصلا . وإما مجرور على البدل من كثير ، أو من نجواهم ، أو صفة لأحدهما .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أخرجت من التناجيى المذموم ثلاث خصال هى جماع الخير ، وذلك لأن الصدقة التى يخرجها الإِنسان تكون سببا فى تزكية ماله ، وحسن ثوابه ، ونشر المحبة والمودة بين الناس .
والتعبير بقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } يفيد الدعوة إليها ، والحث على بذلها سرا ما دامت المصلحة تقتضى ذلك .
أما المعروف وهو النوع الثانى من التناجى المحمود فهو - كما يقول القرطبى لفظ يعم كل أعمال البر . ففى الحديث الشريف " كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " وقال على بن أبى طالب : ( لا يزهدنك فى المعروف كفر من كفره ، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الجاحد ) .
وقال الماوردى : ينبغى لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته ، ويبادر به خيفة عجزه ، وليعلم أنه من فرض زمانه ، وغنائم إمكانه ، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه ، فكم من واثق بالقدرة ففاتت فأعقبت ندما .
وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لكل شئ ثمرة وثمرة المعروف السراح " - أى التعجيل - ومن شرط المعروف ترك الامتنان به ، وترك الإِعجاب بفعله . لما يهما من إسقاط الشكر ، وإحباط الأجر . قال بعض الشعراء :
زاد معروفك عندى عظما . . . أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته . . . وهو عند الناس مشهور خطير
والأمة التى يفشو فيها قول المعروف وفعله ، تسودها السعادة ، وتظلها المحبة والمودة والرحمة . وأما الإِصلاح بين الناس فهو فريضة اجتماعية يقوم بها من صفت نفوسهم وقويت عزائمهم ، ورسخ إيمانهم .
وقد حض القرآن على الإِصلاح بين الناس سواء أكانوا جماعات أم أفرادا لأن التخاصم والتنازع يؤدى إى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس . قال - تعالى - : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى تحض على الاصلاح بين الناس ومن ذلك ما رواه ابن مردويه عن محمد بن يزيد بن حنيش : قال دلنا على سفيان الثورى نعوده . فدخل علينا سعيد بن حسان فقلا له الثورى الحديث الذى كنت حدثتنيه عن أم صالح أردده على . فقال : حدثتنى أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له . إلا ذكر الله - تعالى - أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر " فقال سفيان : أو ما سمعت الله فى كتابه يقول : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } . فهو هذا بعينه .
وروى الجماعة - سوى ابن ماجه - عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذى يصلح بين الناس فينمى خيرا أو يقول خيرا " وقالت : لم أسمعه يرخص فى شئ مما يقوله الناس إلا فى ثلاث : فى الحرب . والإِصلاح بين الناس . وحديث الرجل امرأته وحديث المراة زوجها .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن أبى الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى . يا رسول الله ! ! قال إصلاح ذات البين " قال " وفساد ذات البين هو الحالقة " .
ففى هذه الأحاديث الشريفة دعوة قوية إلى الاصلاح بين الناس حتى يعيشوا فى أمان واطمئنان .
وبذلك نرى أن هذه الأمور الثلاثة التى أخرجها الله - تعالى - من التناجى المذموم هى جماع الخير الإِنسانى والاجتماعى .
وقد أشار الإِمام الرازى إلى ذلك بقوله : هذه الآية وإن نزلت فى مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها فى المعنى عامة . والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه - تعالى - ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع : الأمر بالصدقة . والأمر بالمعروف . والاصلاح بين الناس .
وإنما ذكر الله - تعالى - هذه الأقسام الثلاثة ، لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة . أما إيصال الخير : فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال . وإليه الإِشارة بقوله : { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } . وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل لاقوة العملية بالأفعال الحسنة . ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف . وإليه الإشارة بقوله { أَوْ مَعْرُوفٍ } وأما إزالة الضرر فإليها الإشِارة { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة فى هذه الآية .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة من يقوم بفعل هذه الفضائل فقال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
أى : ومن يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس ، قاصدا بفعله رضا الله وحسن مثوبته ، فسوف نؤتيه أجراً عظيما لا يعرف مقداره غلا الله - تعالى - وقال - سبحانه - ومن يفعل ذلك ولم يقل ومن يأمر بذلك كما جاء فى صدر الآية . لأن المقصود الترغيب فى هذا الفعل الحسن ، لأن الآمر بالخير إذا دخل فى زمرة الخيرين كان الفاعل أحرى بالدخول فى زمرتهم .
وفى تقييد الفعل بكونه ابتغاء مرضاة الله ، تحريض على إخلاص النية ، لأن الأعمال بالنيات ، وإذا صاحب الرياء الأعمال أبطلها ومحق بركتها .
والتعبير بسوف هنا لتأكيد الوقوع فى المستقبل . أى . فسوف نؤتيه أجراً لا يحيط به نطاق الوصف ، ولن نبخصه شيئا من حقه حتى ولو كان هذا الشئ بالغاً النهاية فى الصغر .
{ لا خير في كثير من نجواهم } من متناجيهم كقوله تعالى : { وإذ هم نجوى } أو من تناجيهم فقوله : { إلا من أمر بصدقة أو معروف } على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل . وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به . { أو إصلاح بين الناس } أو إصلاح ذات البين . { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه ، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى ، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحق به من الله أجرا . ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا . وقرأ حمزة وأبو عمرو " يؤتيه " بالياء .
لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة ، ولا الأحوال التي حذّرت منها ، من تناج وتحاوُر ، سِرّا وجهراً ، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها ، لذلك كان المقام حقيقاً بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه ، لأنّ في ذلك تعليماً وتربية وتشريعاً ، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم ، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة ، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين ، وكان التناجي فاشياً لمقاصد مختلفة ، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا ، أي خوفاً ، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهلِ الكتاب ، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو { ألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى } [ المجادلة : 8 ] الآيات ، وقوله : { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } [ الإسراء : 47 ] وقوله : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم } [ البقرة : 14 ] ، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضاً ، فقال : { لا خير في كثير من نجواهم } . فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لإفادة حكم النجوى ، والمناسبةُ قد تبيّنت .
والنجوى مصدر ، هي المسَارّة في الحديث ، وهي مشتقّة من النجو ، وهو المكان المستتر الذي المفضِي إليه ينجو من طالبه ، ويطلق النجوى على المناجين ، وفي القرآن { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } ، وهو وصف بالمصدر والآية تحتمل المعنيين . والضمير الذي أضيف إليه { نجوى } ضمير جماعة الناس كلّهم ، نظير قوله تعالى : { ألا إنّهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } إلى قوله : { وما يُعلنون } في سورة هود ( 5 ) ، وليس عائداً إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله : { يستخفون من الناس } [ النساء : 108 ] إلى هنا ؛ لأنّ المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلاّ فيما يختصّ بقضيتهم ، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله : { إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } . وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة ، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة ، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه ، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره ، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث . فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم ، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره ، كما قال صالح بن عبد القدوس :
الستر دون الفاحشات ولا *** يَغشاك دون الخير مِنْ ستْرِ
وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرّة ، لأنّ التناجي كان من شأن المنافقين فقال : { ألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهو عنه } [ المجادلة : 8 ] وقال : { إنّما النجوى من الشيطان ليُحزن الذين آمنوا } [ المجادلة : 10 ] .
وقد ظهر من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أنّ النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين ، فعلمنا من ذلك أنّها لا تغلب إلاّ على أهل الريَب والشبهات ، بحيث لا تصير دأباً إلاّ لأولئك ، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى .
ومعنى { لا خير } أنّه شرّ ، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه ، لعدم الاعتداد بالواسطة ، كقوله تعالى : { فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال } [ يونس : 32 ] ، ولأنّ مقام التشريع إنّما هو بيان الخير والشرّ .
وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو مُتناجيِهم ، فعلم من مفهوم الصفة أنّ قليلاً من نجواهم فيه خير ، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع . والاستثناء في قوله : { إلاّ من أمر بصدقة } على تقدير مضاف ، أي : إلاّ نجوى من أمر ، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين ، وهو مستثنى من { كثير } ، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير ، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم . أمّا القسم الذي أخرجَته الصفة ، فهو مجمل يصدق في الخارج على كلّ نجوى تصدر منهم فيها نفع ، وليس فيها ضرر ، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة ، أو نكاح أو نحو ذلك .
وأمّا القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبيّن في ثلاثة أمور : الصدقة ، والمعروف ، والإصلاح بين الناس . وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير ، فلمّا ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أنّ نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة ، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم ، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء ، فبَقي ما عدا ذلك من نجواهم ، وهو الكثير ، موصوفاً بأن لا خير فيه وبذلك يتّضح أنّ الاستثناء متّصل ، وأنْ لا داعي إلى جعله منقطعاً . والمقصد من ذلك كلّه الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة ، ولو تناجى فيها مَن غالب أمره قصد الشرّ .
وقوله : { ومن يفعل ذلك } إلخ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله . فدلّ على أنّ كونها خيراً وصف ثابت لها لما فيها من المنافع ، ولأنّها مأمور بها في الشرع ، إلاّ أنّ الثواب لا يحصل إلاّ عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث : « إنما الأعمال بالنيات » . وقرأ الجمهور : ( نُؤتيه ) بنون العظمة على الالتفات من الغيبة في قوله : { مرضاة الله } .