قوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } عطف المستقبل على الماضي ، لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي ، كما قال تعالى في موضع آخر : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } وقيل معناه : إن الذين كفروا فيما تقدم ، ويصدون عن سبيل الله في الحال ، أي : وهم يصدون . { والمسجد الحرام } أي : ويصدون عن المسجد الحرام . { الذي جعلناه للناس } قبلةً لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال : ( وضع للناس ) . { سواءً } قرأ حفص عن عاصم و يعقوب : ( ( سواء ) ) نصباً بإيقاع الجعل عليه يتعدى إلى مفعولين . وقيل : معناه مستوياً فيه ، { العاكف فيه والباد } وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر ، وتم الكلام عند قوله للناس وأراد بالعاكف : المقيم فيه ، والبادي : الطارئ المنتاب إليه من غيره . واختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : سواء ( العاكف فيه والباد ) أي : في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه . وإليه ذهب مجاهد و الحسن وجماعة ، وقالوا : المراد منه نفس المسجد الحرام . ومعنى التسوية : هو التسوية في تعظيم الكعبة وفي فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت . وقال آخرون : المراد منه جميع الحرم ، ومعنى التسوية : أن المقيم والبادي سواء في النزول به ، ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر ، غير أنه لا يزعج فيه أحد إذا كان قد سبق إلى منزل ، وهو قول ابن عباس و سعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل . وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم . وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم ، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها ، وعلى القول الأول -وهو الأقرب إلى الصواب- يجوز ، لأن الله تعالى قال : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فنسب الدار إليه نسب ملك ، واشترى عمر داراً للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم ، فدل على جواز بيعها . وهذا قول طاووس و عمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي . قوله عز وجل : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } أي : في المسجد الحرام وهو الميل إلى الظلم ، " والباء " في قوله ( ( بإلحاد ) ) زائدة كقوله : ( تنبت بالدهن ) ومعناه : من يرد فيه إلحاداً بظلم ، قال الأعشى : ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ، أي : رزق عيالنا . وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال : معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلم . واختلفوا في هذا الإلحاد ، فقال مجاهد و قتادة : هو الشرك وعبادة غير الله . وقال قوم : هو كل شيء كان منهياً عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم . وقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم ، أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم ، من قتل صيد ، أو قطع شجر . وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك ، أو تظلم من لا يظلمك ، وهذا معنى قول الضحاك . وعن مجاهد أنه قال : تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات . وقال حبيب بن أبي ثابت : هو احتكار الطعام بمكة . وقال عبد الله بن مسعود في قوله : " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " { نذقه من عذاب أليم } قال : لو أن رجلاً هم بخطيئة لم تكتب عليه ، ما لم يعملها ، ولو أن رجلاً هم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين ، أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم . وقال السدي : إلا أن يتوب . وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان . أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر ، فسئل عن ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله ، وبلى والله .
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الخصمين وعن عاقبة كل منهما . . . جاء الحديث عن المسجد الحرام ، وعن مكانته ، وعن الأمر ببنائه ، وعن وجوب الحج إليه ، وعن المنافع التى تعود على الحجاج ، وعن سوء مصير من يصد الناس عن هذا المسجد ، جاء قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ . . . } . { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ . . . } .
قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت ، وعظم كفر هؤلاء الكافرين فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام } .
قال ابن عباس : الآية نزلت فى أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية عن المسجد الحرام ، عن أن يحجوا ويعتمروا ، وينحروا الهدى . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم ، وكان محرما بعمرة ، ثم صالحوه على أن يعود فى العام القادم . . .
وصح عطف المضارع وهو " يصدون " على الماضى وهو " كفروا " لأن المضارع هنا لم يقصد به زمن معين من حال أو استقبال ، وإنما المراد به مجرد الاستمرار ، كما فى قولهم : فلان يحسن إلى الفقراء ، فإن المراد به استمرار وجود إحسانه .
ويجوز أن يكون قوله { وَيَصُدُّونَ } خبرا لمبتدأ محذوف ، أى : وهم يصدون عن المسجد الحرام . وخبر إن فى قوله - سبحانه - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . } محذوف لدلالة آخر الآية عليه .
والمعنى : إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر دين الله - تعالى - ، ومن زيارة المسجد الحرام . . . هؤلاء الكافرون سوف نذيقهم عذابا أليما .
ويصح أن يكون الخبر محذوفا للتهويل والإرهاب . وكأن وصفهم بالكفر والصد كاف فى معرفة مصيرهم المهين .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { والمسجد الحرام } قيل إنه المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن ، لأنه لم يذكر غيره ، وقيل الحرم كله ، لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه . . . وهذا صحيح لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك .
وقوله - سبحانه - : { الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد . . . } تشريف لهذا المكان حيث جعل الله - تعالى - الناس تحت سقفه سواء ، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا المؤمنين عنه .
ولفظ " سواء " قرأه جمهور القراء بالرفع على أنه خبر مقدم ، والعاكف : مبتدأ ، والباد معطوفة عليه أى : العاكف والباد سواء فيه . أى مستويان فيه .
وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على أنه المفعول الثانى لقوله " جعلناه " بمعنى صيرناه . أى : جعلناه مستويا فيه العاكف والباد . ويصح أن يكون حالا من الهاء فى { جَعَلْنَاهُ } أى : وضعناه للناس حال كونه سواء العاكف فيه والباد .
والمراد : بالعاكف فيه : المقيم فيه . يقال : عكف فلان على الشىء ، إذا لازمه ولم يفارقه . والباد : الطارىء عليه من مكان آخر .
وأصله من يكون من أهل البوادى الذين يسكنون المضارب والخيام ، ويتنقلون من مكان إلى آخر .
أى : جعلناه للناس على العموم ، يصلون فيه ، ويطوفون به ، ويحترمونه ويستوى تحت سقفه من كان مقيما فى جواره ، وملازما للتردد عليه ، ومن كان زائرا له وطارئا عليه من أهل البوادى أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة .
فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم ، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء .
وقوله - تعالى - : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } تهديد لكل من يحاول ارتكاب شىء نهى الله عنه فى هذا المسجد الحرام .
والإلحاد الميل . يقال : ألحد فلان فى دين الله ، أى : مال وحاد عنه .
و " من " شرطية وجوابها " نذقه " ومفعول " يرد " محذوف لقصد التعميم . أى : ومن يرد فيه مرادا بإلحاد ، ويصح أن يكون المفعول قوله { بِإِلْحَادٍ } على أن الباء زائدة .
أى : ومن يرد فى هذا المسجد الحرام إلحادا ، أى : ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب طلمه وخروجه عن طاعتنا ، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره ، ولا يكتنه كنهه .
وقد جاء هذا التهديد فى أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من بنوى ويريد الميل فيه عن دين الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد ، ومصيره أقبح .
ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل ، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار ، والغش .
ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك : وأولى الأقوال التى ذكرناها فى تأويل ذلك بالصواب : القول الذى ذكرناه من أن المراد بالظلم فى هذا الموضع ، كل معصية لله ، وذلك لأن الله عم بقوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } ولم يخصص به ظلما دون ظلم فى خبر ولا عقل ، فهو على عمومه ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام : ومن يرد فى المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له .
يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام ، وقضاء مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] .
وفي هذه الآية دليل [ على ]{[20101]} أنها مدنية ، كما قال في سورة " البقرة " : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقال : هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي : ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] أي : ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله .
وقوله : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } [ أي : يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء ، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ] {[20102]} ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
وقال مجاهد [ في قوله ]{[20103]} : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } : أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل . وكذا قال أبو صالح ، وعبد الرحمن بن سابط ، وعبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ]{[20104]} .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله .
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف ، وأحمد بن حنبل حاضر{[20105]} أيضًا ، فذهب الشافعي ، رحمه الله{[20106]} إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري ، عن علي بن الحُسَين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله ، أتنزل غدًا في دارك{[20107]} بمكة ؟ فقال : " وهل ترك لنا عَقيل من رباع " . ثم قال : " لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر " . وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين{[20108]} [ وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم . وبه قال طاوس ، وعمرو بن دينار .
وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر . وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص عليه
مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عيسى ابن يونس ، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين{[20109]} ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نَضْلة قال : تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا ]{[20110]} السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن{[20111]} .
وقال عبد الرزاق ابن مجاهد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها .
وقال أيضًا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهي عن تُبوّب دور مكة ؛ لأن ينزل الحاج في عَرَصاتها ، فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين ، إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال : فذلك إذًا .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن منصور ، عن مجاهد ؛ أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء{[20112]} . قال : وأخبرنا مَعْمر ، عمن سمع عطاء يقول [ في قوله ]{[20113]} : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ، قال : ينزلون حيث شاءوا .
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا{[20114]} من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا{[20115]} .
" وتوسط الإمام أحمد [ فيما نقله صالح ابنه ]{[20116]} فقال : تملك وتورث ولا تؤجر ، جمعا بين الأدلة ، والله أعلم .
وقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] أي : تُنْبِتُ الدهن ، وكذا قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ{[20117]} } تقديره إلحادًا ، وكما قال الأعشى :
ضَمنَتْ برزق عيالنا أرْماحُنا *** بين المَرَاجِل ، والصّريحَ الأجرد{[20118]} وقال الآخر :
بوَاد يَمانِ يُنْبتُ الشَّثّ صَدْرُهُ *** وَأسْفَله بالمَرْخ والشَّبَهَان
والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى " يَهُمّ " ، ولهذا{[20119]} عداه بالباء ، فقال : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } أي : يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار .
وقوله : { بِظُلْمٍ } أي : عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج{[20120]} ، عن ابن عباس : هو [ التعمد ]{[20121]} .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } بشرك .
وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله . وكذا قال قتادة ، وغير واحد .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب [ له ]{[20122]} العذاب الأليم .
وقال مجاهد : { بِظُلْمٍ } : يعمل فيه عملا سيئا .
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره :
حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن السُّدِّي : أنه سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود - في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم ، وهو بعَدَن أبينَ ، أذاقه{[20123]} الله من العذاب الأليم .
قال شعبة : هو رفعه لنا ، وأنا لا أرفعه لكم . قال يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد ، عن يزيد بن هارون ، به{[20124]} .
[ قلت : هذا الإسناد ]{[20125]} صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ؛ ولهذا صَمم شعبة على وَقْفه من كلام ابن مسعود . وكذلك رواه أسباط ، وسفيان الثوري ، عن السدي ، عن مُرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن السدي ، عن مُرَّة ، عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم . وكذا قال الضحاك بن مُزاحم .
وقال سفيان [ الثوري ]{[20126]} ، عن منصور ، عن مجاهد " إلحاد فيه " ، لا والله ، وبلى والله . وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله .
وقال سعيد بن جُبَير : شتم الخادم ظلم فما فوقَه .
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مِهْرَان ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : تجارة الأمير فيه .
وعن ابن عمر : بيع الطعام [ بمكة ]{[20127]} إلحاد .
وقال حبيب{[20128]} بن أبي ثابت : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : المحتكر بمكة . وكذا قال غير واحد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان ، عن يعلى بن أمية ؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " احتكار الطعام بمكة إلحاد " {[20129]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر{[20130]} ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قول الله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاريّ ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهَرَب إلى مكة ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني : من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام .
وهذه الآثار ، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكنْ هُو أعم من ذلك ، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [ الفيل : 4 ، 5 ] ، أي : دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء ؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يغزو هذا البيت جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم " الحديث{[20131]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كُنَاسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال : أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير ، فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في حَرَم الله ، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش ، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت " ، فانظر لا تكن هو{[20132]} .
وقال أيضا [ في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ]{[20133]} : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير ، وهو جالس في الحِجْر فقال : يا بن الزبير ، إياك والإلحادَ في الحرم ، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحلها ويحل به رجل من قريش ، ولو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها " . قال : فانظر لا تكن{[20134]} هو{[20135]} .
وقوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون } الآية ، قوله { ويصدون } تقديره وهم يصدون وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي وقالت فرقة الواو زائدة { ويصدون } خبر { إن } وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله { والبادي } تقديره خسروا أو هلكوا ، وجاء { يصدون } مستقبلاً إذ فعل يديمونه كما جاء قوله تعالى :
{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم }{[8339]} [ الرعد : 28 ] ونحوه ، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صُدَّ رسولُ الله صلى عليه وسلم عن المسجد الحرام وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجميع إلا أن يراد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث ، وقالت فرقة { المسجد الحرام } أرادوا به مكة كلها ع وهذا صحيح لكنه قصد بالذكر المهم المقصود من ذلك ، وقرأ جمهور الناس «سواء » بالرفع وهو على الابتداء و { العاكف } خبره ، وقيل الخبر { سواء } وهو مقدم وهو قول أبي علي والمعنى الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبداً ، وقرأ حفص عن عاصم «سواء » بالنصب وهي قراءة الأعمش وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولاً ثانياً ل «جعل » ويرتفع «العاكفُ » به لأنه مصدر في معنى مستوٍ أُعْمِلَ عمل اسم الفاعل ، والوجه الثاني ان يكون حالاً من الضمير في { جعلنا } وقرأت فرقة «سواءً » بالنصب «العاكفِ » بالخفض عطفاً على الناس{[8340]} ، و { العاكف } ، المقيم في البلد ، و { البادي } ، القادم عليه من غيره ، وقرأ ابن كثير في الوصل والوقف «البادي » بالياء . ووقف أبو عمرو بغير ياء ، ووصل بالياء ، وقرأ نافع «البادِ » بغير ياء في الوصل والوقف في رواية المسيبي ، وأبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس{[8341]} ، وروى ورش الوصل بالياء ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء وصلاً ووقفاً ، وهي في الإمام بغير ياء ، وأجمع الناس على الاستواء في نفس { المسجد الحرام } واختلفوا في مكة ، فذهب عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وجماعة معهم إلى الأمر كذلك في دور مكة وأن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ، وقال : سفيان الثوري وغيره ، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول ، قال ابن سابط{[8342]} : وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل باباً فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق باباً في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب ، وقال جمهور من الأمة منهم مالك : ليست الدور كالمسجد ولأهلها الامتناع بها والاستبداد ، وعلى هذا هو العمل اليوم ، وهذا الاختلاف الأول متركب على الاختلاف في مكة هل هي عنوة{[8343]} كما روي عن مالك والأوزاعي ، أو صلح كما روي عن الشافعي ، فمن رآها صلحاً فإن الاستواء في المنازل عنده بعيد ، ومن رآها عنوة أمكنه أن يقول الاستواء فيها ، قرره الأئمة الذين لم يقطعوها أحداً وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم «وهل ترك لنا عقيل منزلاً »{[8344]} يقتضي أن لا استواء وأنها متملكة ممنوعة على التأويلين في قوله تعالى عليه السلام لأنه تؤول بمعنى أنه ورث جميع منازل أبي طالب وغيره ، وتؤول بمعنى أنه باع منازل بني هاشم حين هاجروا ومن الحجة لتملك أهلها دورهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً للسجن بأربعة آلاف ، ويصح مع ذلك أن يكون الاستواء في وقت الموسم للضرورة والحاجة فيخرج الأمر حينئذ عن الاعتبار بالعنوة والصلح ، وقوله تعالى : { بإلحاد } قال أبو عبيدة الباء زائدة ومنه قول الشاعر :
بواد يمان ينبت الشت صدره . . . وأسلفه بالمرخ والشهبان{[8345]}
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا . . . {[8346]} وهذا كثير{[8347]} ويجوز أن يكون التقدير { ومن يرد فيه } الناس { بإلحاد } و «الإلحاد » الميل ، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السئية فيه ، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة ، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم ، وقال ابن عباس : «الإلحاد » في هذه الآية الشرك ، وقال أيضاً : هو استحلال الحرام وحرمته ، وقال مجاهد : هو العمل السييء فيه ، وقال عبد الله بن عمرو : قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد ، وقال حبيب بن أبي ثابت : الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم .
قال أبو محمد رحمه الله :والعموم يأتي على هذا كله ، وقرأت فرقة «ومن يرد » من الورود حكاه الفراء ، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة ، و { من } شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على { الذين } والله المستعان .