قوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا } الآية ، نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر ، فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات ، وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، فأنزل الله فيهم هذه الآية . وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح ، وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا يقولون : آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية فيهم : { قالت الأعراب آمنا } صدقنا . { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن غرير الزهري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، أخبرني عامر بن سعد ، عن أبيه قال : أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم ، قال : فترك النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجلاً ولم يعطه وهو أعجبهم إلي ، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته ، فقلت : مالك عن فلان ؟ والله إني لأراه مؤمناً ، قال : أو مسلماً ، قال : فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً ؟ قال : أو مسلماً ؟ فسكت قليلا ، ثم غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمنا قال : أو مسلما ؟ قال : { إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه " . فالإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم كما يقال : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأصاف إذا دخل في الصيف ، وأربع إذا دخل في الربيع ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان ، والأبدان والجنان ، كقوله عز وجل لإبراهيم عليه السلام : { أسلم قال أسلمت لرب العالمين } ( البقرة-131 ) ، ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب ، وذلك قوله : { ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } { وإن تطيعوا الله ورسوله } ظاهراً وباطناً سراً وعلانية . قال ابن عباس تخلصوا الإيمان ، { لا يلتكم } قرأ أبو عمرو { يألتكم } بالألف كقوله تعالى : { وما ألتناهم } ( الطور-21 ) ، والآخرون بغير ألف ، وهما لغتان ، معناهما : لا ينقصكم ، يقال : ألت يألت ألتاً ولات يليت ليتاً إذا نقص ، { من أعمالكم شيئاً } أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيئاً ، { إن الله غفور رحيم } .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالرد على الأعراب الذين قالوا آمنا ، دون أن يدركوا حقيقة الإِيمان ، وبين من هم المؤمنون الصادقون .
فقال - تعالى - : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل . . . بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
والإِعراب : اسم جنس لبدو العرب ، واحده أعرابى ، وهم الذين يسكنون البادية .
والمراد بهم هنا جماعة منهم لأكلهم ، لأن منهم ، { مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ } قال الآلوسى : قال مجاهد : نزلت هذه الآيات فى بنى أسد ، وهم قبيلة كانت تسكن بجوار المدينة ، أظهروا الإِسلام ، وقلوبهم دغلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا . . ويروى أنهم قدموا المدينة فى سنة مجدبة ، فأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جئناك بالأثقال والعيا ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان . . يمنون بذلك على النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله - سبحانه - : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا } من الإِيمان ، وهو التصديق القلبى ، والإِذعان النفسى والعمل بما يقتضيه هذا الإِيمان من طاعة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : { أَسْلَمْنَا } من الإِسلام بمعنى الاستسلام والانقياد الظاهرى بالجوارح ، دون أن يخالط الإِيمان شغاف قلوبهم . أى : قالت الأعراب لك - أيها الرسول الكريم - آمنا وصدقنا بقلبونا لكل ما جئت به ، وامتثلنا لما تأمرنا به وتنهانا عنه .
قل لهم { لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أى : لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية . .
{ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } أى : ولكن قولوا نطقنا بكلمة الإِسلام : واستسلمنا لما تدعونا إليه إستسلاما ظاهريا طمعا فى الغنائم ، أو خفوا من القتل .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه قوله - تعالى - : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } والذى يقتضيه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا . .
قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : قل لم تؤمنوا ، وروعى فى هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه ، حيث لم يقل : كذبتم ، ووضع ، " لم تؤمنوا " الذى هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه . .
واستغنى بالجملة التى هى " لم تؤمنوا " عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالإِيمان . .
وقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } جملة حالية من ضمير ، " قولوا " و " لما " لفظ يفيد توقع حصول الشيئ الذى لم يتم حصوله .
أى : قولوا أسلمنا والحال أنه لم يستقر الإِيمان فى قلوبكم بعد ، فإنه لو استقر فى قلوبكم لما سلكتم هذا المسلك ، ولما مننتم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإسلامكم .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإِيمان أخص من الإِسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، حين سأل عن الإِسلام .
ثم عن الإِيمان . . فترقى من الأعم إلى الأخص .
كما يدل على ذلك حديث الصحيحين " عن سعد بن أبى وقاص ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجلا ولم يعط آخر . فقال سعد : يا رسول الله ، مالك عن فلان إنى لأراه مؤمنا ، فقال : " أو مسلما " " .
فقد فرق - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمن والمسلم . فدل على أن الإِيمان أخص من الإِسلام .
كما دل هنا عن أن هؤلاء الأعراب المذكورين فى هذه الآية ، إنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان فى قلوبهم . فادعو لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا بذلك . .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى ما يكمل إيمانهم فقال : { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ومعنى : " لا يلتكم " لا ينقصكم . يقال : لات فلان فلانا حقه - كباع - إذا نقصه .
أى : وإن تطيعوا الله - تعالى - ورسوله ، بأن تخلصوا العبادة ، وتتركوا المن والطمع ، لا ينصكم - سبحانه - من أجور أعمالكم شيئا ، إن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لعباده التائبين توبة صادقة نصوحا .
يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، عليه السلام ، حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ، ثم للأخص منه .
قال{[27229]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئًا ، فقال سعد : يا رسول الله ، أعطيت فلانًا وفلانا ولم تُعط فلانًا شيئًا ، وهو مؤمن ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أو مسلم " حتى أعادها سعد ثلاثا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أو مسلم " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا ؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، به{[27230]} .
فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن ، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام . وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من " صحيح البخاري " ولله الحمد والمنة . ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا ؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام ، فدل هذا على{[27231]} أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين ، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا في ذلك . وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، واختاره ابن جرير . وإنما قلنا هذا لأن البخاري ، رحمه الله ، ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك . وقد روي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن زيد أنهم قالوا في قوله : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : استسلمنا خوف القتل والسباء . قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة . وقال قتادة : نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والصحيح الأول ؛ أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يحصل لهم بعد ، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا ، كما ذكر المنافقون في سورة براءة . وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد .
ثم قال : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [ شَيْئًا ] } {[27232]} أي : لا ينقصكم من أجوركم شيئا ، كقوله : { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لمن تاب إليه وأناب .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلََكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : قالت الأعراب : صدّقنا بالله ورسوله ، فنحن مؤمنون ، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهم لَمْ تُؤْمِنُوا ولستم مؤمنين وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا . وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أعراب من بني أسد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : قالَتِ الأَعْرَابُ آمَنّا قال : أعراب بني أسد بن خُزيمة .
واختلفت أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الأعراب : قولوا أسلمنا ، ولا تقولوا آمنا ، فقال بعضهم : إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك ، لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم ، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم ، فقيل لهم : قولوا أسلمنا ، لأن الإسلام قول ، والإيمان قول وعمل ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري قالَتِ الأَعْرَاب آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال : إن الإسلام : الكلمة ، والإيمان : العمل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، وأخبرني الزهريّ ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجالاً ، ولم يعط رجلاً منهم شيئا ، فقال سعد : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ، ولم تُعط فلانا شيئا ، وهو مؤمن ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أوْ مُسْلِمٌ » ؟ حتى أعادها سعد ثلاثا ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «أوْ مُسْلِمٌ » ، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّي أُعْطِي رِجالاً وأَدَعُ مَنْ هُوَ أحَبّ إليّ مِنْهُمْ ، لا أُعْطِيهِ شَيْئا مَخافَةَ أنْ يُكَبّوا فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قَالتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا قال : لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم ، فردّ الله ذلك عليهم قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا ، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون ، صدّقوا إيمانهم بأعمالهم فمن قال منهم : أنا مؤمن فقد صدق قال : وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب ، وليس بصادق .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مُغيرة ، عن إبراهيم وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال : هو الإسلام .
وقال آخرون : إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقيل ذلك لهم ، لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا ، فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب ، لا أسماء المهاجرين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا . . . الاَية ، وذلك أنهم أرادوا أن يتسَمّوا باسم الهجرة ، ولا يتسَمّوا بأسمائهم التي سماهم الله ، وكان ذلك في أوّل الهجرة قبل أن تنزل المواريث لهم .
وقال آخرون : قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم لم تؤمنوا ، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولعمري ما عمت هذه الاَية الأعراب ، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الاَخر ، ولكن إنما أُنزلت في حيّ من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أسلمنا ، ولم نقاتلك ، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، فقال الله : لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا حتى بلغ في قلوبكم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال : لم تعمّ هذه الاَية الأعراب ، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الاَخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله ، ولكنها في طوائف من الأعراب .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن رَباح ، عن أبي معروف ، عن سعيد بن جُبَير قالَت الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا قال : استسلمنا لخوف السباء والقتل .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد قُولُوا أسْلَمْنا قال : استسلمنا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وقرأ قول الله قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا استسلمنا : دخلنا في السلم ، وتركنا المحاربة والقتال بقولهم : لا إله إلاّ الله ، وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ ، فإذا قالُوا لا إلَهَ إلاّ اللّهُ ، عَصَمُوا مِنّي دِماءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلاّ بِحَقّها وَحِسابُهُمْ على اللّهِ » .
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ وهو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول ، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله ، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ ، وهو أن يقولوا أسلمنا ، بمعنى : دخلنا في الملة والأموال ، والشهادة الحقّ .
قوله : وَلمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ يقول تعالى ذكره : ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان ، وحقائق معانيه في قلوبكم .
وقوله : وَإنْ تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ أعمالِكُمْ شَيئا يقول تعالى ذكره : لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم ، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله ، وتعملوا بما فرض عليكم ، وتنتهوا عما نهاكم عنه ، لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُمْ شَيْئا يقول : لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُمْ شَيْئا يقول : لن يظلمكم من أعمالكم شيئا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في وَإنْ تُطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ قال : إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم . وقرأت قرّاء الأمصار لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُم بغير همز ولا ألف ، سوى أبي عمرو ، فإنه قرأ ذلك «لا يأَلَتْكُمْ » بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله : وَما ألَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهمْ مِنْ شَيْءٍ فمن قال : ألت ، قال : يألت . وأما الاَخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت ، كما قال رُؤبةُ بن العجاج :
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ *** ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاها لَيْتُ
والصواب من القراءة عندنا في ذلك ، ما عليه قرّاء المدينة والكوفة لا يَلِتْكُمْ بغير ألف ولا همز ، على لغة من قال : لات يليت ، لعلتين : إحداهما : إجماع الحجة من القرّاء عليها . والثانية أنها في المصحف بغير ألف ، ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع ، لأنها ساكنة ، والهمزة إذا سكنت ثبتت ، كما يقال : تأمرون وتأكلون ، وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها ، ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب . وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم .
وقوله : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه ، وتاب إليه من سالف ذنوبه ، فأطيعوه ، وانتهوا إلى أمره ونهيه ، يغفر لكم ذنوبكم ، رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه ، فتوبوا إليه يرحمكم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة ، شكّ يزيد ، رحيم بعباده .
كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنةَ الوفود ، وفْدُ بني أسدٍ بننِ خُزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة ، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذُكر في أول السورة ، ووفَدَ بنُو أسد في عدد كثير وفيهم ضِرار بن الأزْوَر ، وطُلَيْحَة بن عبد الله ( الذي ادعى النبوءة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة ) ، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولمْ نقاتلك كما قاتلك محارب خَصَفَةَ وهوازنُ وغَطفانَ . يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنُّون عليه ويريدون أن يَصرف إليهم الصدقات ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة ، والأغراض المسكوَّة بالجَفاء متناسبة . وقال السدّي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح ( 11 ) في قوله تعالى : { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا } الآية .
قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية .
والأعراب : سكان البادية من العَرب . وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب ، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي .
وتعريف { الأعراب } تعريف العهد لإعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقاً على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد .
وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } الآية .
والاستدراك بحرف ( لكن ) لرفع ما يتوهم من قوله : { لم تؤمنوا } أنهم جاؤوا مضمرين الغدْر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال : { ولكن قولوا أسلمنا } تعليماً لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مَقرُّه اللسان والأعمالُ البدنية ، وهي قواعد الإسلام الأربعة : الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سُؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة « الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم رمضان وتحُجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا » فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثو عهد به كذبهم الله في قولهم { آمنَّا } ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله ، وأنه لا يتعدّ بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان ، فلا يغني أحدهما بدون الآخر ، فالإيمان بدون إسلام عناد ، والإسلام بدون إيمان نفاق ، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ، أو أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات ، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واستغني بقوله : { لم تؤمنوا } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مُؤدّاه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقاً لا كاذباً فقيل لهم { لم تؤمنو } تكذيباً لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } إلى قوله : { أولئك هم الصادقون } أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولاً على المعنى .
وعدل عن أن يقال : ولكن أسلمتم إلى { قولوا أسلمنا } تعريضاً بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع ، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر ، وذلك مما يُتعير به ، أي الشأن أن تقولوا قولاً صادقاً .
وقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } واقع موقع الحال من ضمير { لم تؤمنوا } وهو مبيّنٌ لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله : { لم تؤمنوا } بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } .
واستعير الدخول في قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويَسْتقر والخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزاً للانصراف عنه .
و ( لمّا ) هذه أخت ( لم ) وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين ( لم ) أختها . وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن التكلم تؤذن غالباً ، بأن النمفي بها متوقع الوقوع . قال في « الكشاف » « وما في ( لمّا ) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد » .
وهي دلالة من مستتبعات التراكيب . وهذا من دقائق العربية . وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانيه أبو حيان ، ولهذا لم يكن قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } تكريراً مع قوله : { لم يؤمنوا } .
وقوله : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً } إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حَصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضاً عن الاشتغال بالمَنّ والتعريض بطلب الصدقات .
ومعنى { لا يلتكم } لا يُنقصكم ، يقال : لاته مثل باعه . وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد ، ويقال : التَه ألَتاً مثل : أمره ، وهي لغة غطفان قال تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } في سورة الطور ( 21 ) .
وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب . ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدُّوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفها .
وضمير الرفع في { يلتكم } عائد إلى اسم الله ولم يقل : لا يَلِتَاكم بضمير التثنية لأنّ الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبَّل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال .
وجملة { إن الله غفور رحيم } استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا ، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدُها ، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غيرَ معتدّ بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده .
وترتيب { رحيم } بعد { غفور } لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها .