قوله تعالى : { له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } أي : كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين : اتخذ الله ولدا نظيره في سورة مريم : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه } ( مريم-88 ) . { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } من المؤمنين . { ألا إن الله هو الغفور الرحيم * }
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر علو شأنه وكمال عظمته وجلاله فقال : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } .
والفعل { تَكَادُ } مضارع " كاد " الذى هو من أفعاله المقاربة ، وقوله { يَتَفَطَّرْنَ } أى : يتشققن . والضمير فى قوله - تعالى - : { مِن فَوْقِهِنَّ } يعود إلى السماوات ، باعتبار أن كل سماء تنفطر فوق التى تليها .
وهذا التفطر سببه الخشية من الله - تعالى - ، الخوف من جلاله وعظمتنه فيكون المعنى : تكاد السماوات يتشققن مع عظمهن { مِن فَوْقِهِنَّ } أى : من أعلاهن ، خشية ورهبة من عظمته - عز وجل - ، كما قال - تعالى - { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ويصح أن يكون هذا التفطر سببه ، شدة الفرية التى افتراها المشركون على الله - تعالى - حيث زعموا أن لله ولدا ، كما قال سبحانه - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } قال صاحب الكشف : فإن قلت : لم قال : { مِن فَوْقِهِنَّ } ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة : فوق السماوات ، وهى : العرش ، والكرسى ، وصفوف الملائكة ، المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - من آثار ملكوته العظمى ، فلذا قال : { يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أى : يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية . أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات ، فكان القياس أن يقال : من تحتهن ، من الجهة التى جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ فى ذلك فجعلت مؤثرة فى جهة الفوق . كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التى فوقهن ، دع التى تحتهن .
وقوله - تعالى - : { والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } مؤكد لما قبله من بيان علو شأنه - عز وجل - ، وسمو عظمته وجلاله .
أى : والملائكة ينزهون ربهم - تعالى - عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله ، خوفا منه - سبحانه - ، ورهبة لذاته .
وقوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض } معطوف على { يُسَبِّحُونَ } . والمراد بمن فى الأرض : المؤمنون بصفة خاصة ، لأنهم هم الذين يستحقون ذلك ، كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } أى : أن الملائكة ينزهون الله - تعالى - عما لا يليق به . ويطلبون للمؤمنين من أهل الأرض عفو الله - تعالى - ورحمته وغفرانه .
وقوله : { لأَرْضِ أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } تذييل قصد به الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله .
أى : ألا إن الله - تعالى - وحده ، هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا يحاسبه على ما يفعل محاسب
وقوله : { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وكعب الأحبار : أي فرقًا ، من العظمة { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ } كقوله : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ] .
وقوله : { أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } إعلام بذلك وتنويه به .
وقوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ يقول تعالى ذكره : تكاد السموات يتشققن من فوق الأرضين ، من عظمة الرحمن وجلاله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ قال : يعني من ثقل الرحمن وعظمته تبارك وتعالى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ : أي من عظمة الله وجلاله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ تَكادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ قال : يتشقّقن في قوله : مُنْفَطِرٌ بِهِ قال : منشقّ به .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ يقول : يتصدّعن من عظمة الله .
حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، قال : حدثنا حسين بن محمد ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : جاء رجل إلى كعب فقال : يا كعب أين ربنا ؟ فقال له الناس : دقّ الله تعالى ، أفتسأل عن هذا ؟ فقال كعب : دعوه ، فإن يك عالماً ازداد ، وإن يك جاهلاً تعلم . سألت أين ربنا ، وهو على العرش العظيم متكىء ، واضع إحدى رجليه على الأخرى ، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة ، وكثافتها خمس مئة سنة ، حتى تمّ سبع أرضين ، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة ، وكثافتها خمس مئة سنة ، والله على العرش متكىء ، ثم تفطر السموات . ثم قال كعب : اقرأوا إن شئتم تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنّ . . . الاَية .
وقوله : وَالمَلائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول تعالى ذكره : والملائكة يصلون بطاعة ربهم وشكرهم له من هيبة جلاله وعظمته ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَالمَلائِكَةُ يَسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ قال : الملائكة يسبحون له من عظمته .
وقوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ يقول : ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ قال : للمؤمنين . يقول الله عزّ وجلّ : ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده ، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها .
{ تكاد السموات } وقرأ نافع والكسائي بالياء . { يتفطرن } يتشققن من عظمة الله ، وقيل من ادعاء الولد له . وقرأ البصريان وأبو بكر " ينفطرن " بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر ، وقرئ " تتفطرن " بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر . { من فوقهن } أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية ، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة ، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى . وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس . { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة ، وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد ، وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة . { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته ، والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه ، وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران الله ورحمته .
وقرأ نافع والكسائي : «يكاد » بالياء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وعاصم : «تكاد » بالتاء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ونافع وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وقتادة : «يتفطرون » من التفطر ، وهو مطاوع فطرت . وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن والأعرج وأبو رجاء ، والجحدري : «ينفطرون » من الإفطار وهو مطاوع فطر ، والمعنى فيهما : يتصدعن ويتشققن من سرعة جريهن خضوعاً وخشية من سلطان الله تعالى وتعظيماً له وطاعة ، وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه مردود ، لأن الله تعالى لا يوصف به .
وقوله : { من فوقهن } أي من أعلاهن . وقال الأخفش علي بن سليمان : الضمير للكفار .
قال القاضي أبو محمد : المعنى من فوق الفرق والجماعات الملحدة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات يتفطرن{[10108]} ، فهذه الآية على هذا كالآية التي في :
{ كهيعص }{[10109]} [ مريم : 1 ] . وقالت فرقة معناه : من فوق الأرضين ، إذ قد جرى ذكر الأرض ، وذكر الزجاج أنه قرئ «يتفطرن ممن فوقهن » .
وقوله تعالى : { يسبحون بحمد ربهم } قيل معناه : يقولون سبحان الله ، وقيل معناه : يصلون لربهم .
وقوله تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } قالت فرقة : هذا منسوخ بقوله تعالى : في آية أخرى : { ويستغفرون للذين آمنوا }{[10110]} وهذا قول ضعيف ، لأن النسخ في الإخبار لا يتصور . وقال السدي ما معناه : إن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في المؤمن ، فكأنه قال : { ويستغفرون لمن في الأرض } من المؤمنين ، إذ الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وقالت فرقة : بل هي على عمومها ، لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران الله تعالى للكفرة على أن يبقوا كفرة ، وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم ، وكأن الملائكة تقول : اللهم اهد أهل الأرض واغفر لهم . ويؤيد هذا التأويل تأكيده صفة الغفران والرحمة لنفسه بالاستفتاح ، وذلك قوله : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } أي لما كان الاستغفار لجميع من في الأرض يبعد{[10111]} أن يجاب ، رجا عز وجل بأن استفتح الكلام تهيئة لنفس السامع فقال : { ألا إن الله } هو الذي يطلب هذا منه ، إذ هذه أوصافه ، وهو أهل المغفرة .