3- حرَّم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل لحم الميتة - وهي كل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي - ، وأكل الدم السائل ، ولحم الخنزير ، وما ذكر اسم غير الله عليه عند ذبحه ، وما مات خنقاً ، أو التي ضربت حتى ماتت ، وما سقط من علو فمات ، وما مات بسبب نطح غيره له ، وما مات بسبب أكل حيوان مفترس منه . وأما ما أدركتموه وفيه حياة مما يحل لكم أكله وذبحتموه فهو حلال لكم بالذبح . وحرَّم الله عليكم ما ذبح قربة للأصنام ، وحرم عليكم أن تطلبوا معرفة ما كتب في الغيب بواسطة القرعة بالأقداح . وتناول شيء مما سبق تحريمه ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله . ومن الآن انقطع رجاء الكفار في القضاء على دينكم ، فلا تخافوا أن يتغلبوا عليكم ، واتقوا مخالفة أوامري . اليوم أكملت لكم أحكام دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي بإعزازكم وتثبيت أقدامكم ، واخترت لكم الإسلام ديناً . فمن ألجأته ضرورة جوع إلى تناول شيء من المحرمات السابقة ففعل لدفع الهلاك عن نفسه غير منحرف إلى المعصية ، فإن الله يغفر للمضطر ما أكل ، دفعاً للهلاك ، وهو رحيم به فيما أباح له{[49]} .
قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } . أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى .
قوله تعالى : { والمنخنقة } . وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والموقوذة } . هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا ، فإذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والمتردية } . هي التي تتردى من مكان عال ، أو في بئر ، فتموت . قوله تعالى : { والنطيحة } . هي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل ، وكف خضيب ، فإذا حذفت الاسم ، وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء ، فقالوا : كحيلة ، وخضيبة . وهنا أدخل الهاء ، لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة ، والنسيكة ، وأكيلة السبع .
قوله تعالى : { وما أكل السبع } . يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه .
قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } . يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء ، وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار ، إذا أتممت اشتعالها ، والمراد هنا : إتمام فري الأوداج ، وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكل . غير السن ، والظفر . وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المريء ، والحلقوم . وكماله أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدد يقطع ، من حديد ، أو قصب ، أو زجاج ، أو حجر . إلا السن ، والظفر . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع ، وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالاً وإن ذبحته ، وكذلك المتردية ، والنطيحة ، إذا أدركتها حيةً قبل أن تصير إلى حالة المذبوح ، فذبحتها ، تكون حلالاً . ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه ، فسقط على الأرض ومات ، كان حلالا لأن الوقوع على الأرض من ضرورته فإن سقط على جبل ، أو شجر ، ثم تردى منه فمات ، فلا يحل ، وهو من المتردية ، إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء ، فيحل كيفما وقع ، لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .
قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } . قيل : النصب جمع واحده نصاب ، وقيل : هو واحد ، وجمعه أنصاب ، مثل : عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب ، واختلفوا فيه فقال مجاهد وقتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجراً منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ، ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : ( وما ذبح على النصب ) ( وما أهل لغير الله به ) : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام ، أي : وما ذبح لأجل النصب .
قوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } . أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها زلم ، زلم بفتح الزاي ، وضمها ، كانت أزلامهم سبعة قداح مستوية ، من شوحط ، يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد نعم ، وعلى واحد لا ، وعلى واحد منكم ، وعلى واحد من غيركم ، وعلى واحد ملصق ، وعلى واحد العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمراً من سفر ، أو نكاح ، أو ختان أو غيره ، أو تداوروا في نسب ، أو اختلفوا في تحمل عقل ، جاءوا إلى هبل ، وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح ، حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا ، إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا ، لم يفعلوا ذلك حولاً ، ثم عادوا إلى القداح ثانيةً ، فإذا أجالوا على نسب فإن خرج منكم ، كان وسطاً منهم ، وإذا خرج من غيركم ، كان حليفاً ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ، ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه . قوله تعالى : { ذلكم فسق } . قال سعيد بن جبير : الأزلام حصا بيض ، كانوا يضربون بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم . وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة ، والطيرة ، من الجبت " ، والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا ابن فنجويه ، أنا فضل السندي ، أخبرنا الحسن بن داود الخشاب ، أنا سويد بن سعيد ، أنا أبو المختار ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تكهن ، أو استقسم ، أو تطير طيرة ترده عن سفره ، لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة ) .
قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } . يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم ، فلما قوي الإسلام أيسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .
قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } . نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، حدثني الحسن بن الصباح . سمع جعفر بن عون ، أنا أبو العميس ، أنا قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : أية آية ؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا . قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة ، وعرفة ، وعيد اليهود ، والنصارى ، والمجوس . ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، قال : صدقت " . وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم ، وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً ، ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت هجرته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول . أما تفسير الآية قوله عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم ، يعني الفرائض ، والسنن ، والحدود ، والأحكام . والحلال ، والحرام . فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض والسنن ، والحدود ، والأحكام . هذا معنى قول ابن عباس رضي عنهما . ويروى عنه أن آية الربا نزلت بعدها . وقال سعيد بن جبير وقتادة : { أكملت لكم دينكم } فلم يحج معكم مشرك وقيل : أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو ، وقوله عز وجل : { وأتممت عليكم نعمتي } يعني : وأنجزت وعدي في قولي { ولأتم نعمتي عليكم } فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين ، وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، سمعت عبد الواحد قال : سمعت أبا محمد بن حاتم قال : سمعت أبا بكر النيسابوري ، سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة ، أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال جبريل ، عليه السلام قال الله تعالى : " هذا دين ارتضيته لنفسي ، ولن يصلحه إلا السخاء ، وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه " .
قوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } . أي : جهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال : رجل خميص البطن ، إذا كان طاوياً خاوياً .
قوله تعالى : { غير متجانف لإثم } . أي : مائل إلى إثم ، وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة : غير متعرض لمعصية في مقصده .
قوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } . وفيه إضمار . أي : فأكله فإن الله غفور رحيم . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حسن المزوري ، أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان ، أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي ، أنا أبو عبيدة القاسم بن سلام ، أنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي ، قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال : ما لم تصطحبوا ، أو تغتبقوا ، أو تخنقوا بها بقلاً ، فشأنكم بها .
ثم شرع - سبحانه - في بيان المحرمات التي أشار إليها قبل ذلك بقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال - تعالى - :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم . . . }
في هذه المحرمات يتلى في قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } . .
والميتة كما يقول ابن جرير - كل ما له نفس - أي دم ونحوه - سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله أكلها . أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية .
وقال : بعضهم : الميتة : هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية شرعية ، مما أحل الله أكله " أي : حرم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل الميتة لخبث لحمها ، ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها .
وقد أجمع العلماء على حرمة أكل الميتة ، أما شعرها وعظمها فقال الأحناف بطارتهما وبجواز الانتفاع بهما . وقال الشافعية بنجاستهما وبعدم جواز استعمالهما .
وقد استثنى العلماء من الميتة المحرمة السمك والجراد . فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد " .
وفيهما - أيضاً - من حديث جابر ، " إن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش . فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : فقال : " كلوا رزقاً أخرجه الله لكم : أطعمونا منه إن كان معكم . فأتاه بعضهم بشيء منه " .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال " .
وثاني هذه المحرمات ما ذكره - سبحانه - في قوله : { والدم } أي : وحرم عليكم أكل الدم .
والمراد به : الدم المسفوح . أي السائل من الحيوان عند التذكية . لقوله - تعالى - في آية أخرى { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } وهي خاصة . والآية التي معنا عامة . والخاص مقدم على العام .
وكان أهل الجاهلية يجعلونه في الماعز ويشوونه ويأكلونه ، فحرمه الله - تعالى - لأنه يضر الأجسام . أما الدم الذي يكون جامداً بأصل خلقته كالكبد والطحال فإنه حلال كما جاء في حديث ابن عمر الذي سقناه منذ قليل .
وثالث هذه المحرمات ما جاء في قوله - تعالى - { وَلَحْمُ الخنزير } أي : وحرم عليكم لحم الخنزير وكذلك شحمه وجلده وجميع أجزائه ، لأنهن مستقذر تعافه الفطرة ، وتتضرر به الأجسام .
وخص لحم الخنزير بالذكر مع أن جميع أجزائه محرمة لأنه هو المقصود بالأكل قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { وَلَحْمُ الخنزير } يعني إنسيه ووحشية ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم . كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد . . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود . ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا . هو حرام : ثم قال : قاتل الله اليهود . إن الله لما حرم شحومها جملوه - أي أذابوه - ثم باعوه فأكلوا ثمنه " .
ورابع هذه المحرمات بينه - سبحانه - بقوله : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } .
الإِهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً . ومنه : إهلال الصبي أي : صراخه بعد ولادته ، والإِهلال بالحج أي رفع الصوت بالتلبية .
وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم ، سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمي ذلك إهلالا . ثم توسع فيه فقيل لكل ذابح : مهل سمي أو لم يسم . جهر بالتسمية أو لم يجهر .
والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح فذكر عليه عند ذبحه غير اسم الله - تعالى - سواء اقتصر على ذكر غيره كقوله عند الذبح باسم الصنم فلان ، أو باسم المسيح أو عزير أو فلان ، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف عليه كقوله : باسم الله واسم فلان .
أما إذا جمع الذابح بين اسم الله واسم غيره بدون عطف بأن قال : باسم الله المسيح نبي الله ، أو باسم الله محمد رسول الله ، فالأحناف يجوزون الأكل من الذبيحة ويعتبرون ذكر غير الله كلاماً مبتدأً بخلاف العطف فإنه يكون نصا في ذكر غير الله .
وجمهور العلماء يحرمون الأكل من الذبيحة متى ذكر مع اسم الله آخر سواء أكان ذلك بالعطف أو بدونه .
وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً والتحريم هنا ليس لذات الحيوان ، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله - تعالى -
ثم ذكر - سبحانه - أربعة أنواع أخرى من المحرمات فقال : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة } .
والمنخنقة : هي التي تموت خنقاً إما قصداً بأن يخنقها آدمي . وإما اتفاقاً بأن يعرض لها من ذاتها ما يخنقها .
والموقوذة : هي التي تضرب بمثقل غير محدد كخشب أو حجر حتى تموت وكانوا في الجاهلية يضربون البهيمة بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها .
والوقذ : شدة الضرب . وفلان وقيذ أي : مثخن ضرباً . ويقال : وقذه يقذه وقذا : ضربه ضرباً حتى استرخى وأشرف على الموت .
قال القرطبي : وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال " قلت يا رسول الله فإني أرمي الصيد فأصيب ؟ - والمعراض : وهو سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا رميت بالمعراض فخزق - أي نفذ وأسال الدم - فكله . وإن أصاب بعرضه فلا تأكله " .
والمتردية : هي التي تتردى أي : تسقط من أعلى إلى أسفل فتموت من التردي مأخوذ من الردى بمعنى الهلاك سواء تردت بنفسها أم رداها غيرها .
والنطيحة : هي التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح يقال : نطحه ينطحه وينطحه أي أصابه بقرنه .
والمعنى : وحرم الله عليكم كذلك - أيها المؤمنون - الأكل من المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، إذا ماتت كل واحدة من هذه الأنواع لهذه الأسباب دون أن تذكوها ذكاة شرعية ، لأن الأكل منها في هذه الحالة يعود عليكم بالضرر .
وتاسع هذه المحرمات ذكره - سبحانه - في قوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } .
المراد بالسبع كل ذي ناب وأظفار من الحيوان . كالأسد والنمر والذئب ونحوها من الحيوانات المفترسة .
وقوله { ذَكَّيْتُمْ } من التذكية وهي الإتمام . يقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها .
والمراد هنا : إسالة الدم وفرى الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور .
والمعنى : وحرم عليكم - أيضاً - الأكل مما افترسه السبع حتى مات سواء أكل منه أم لم يأكل ، إلا ما أدركتموه من هذه الأنواع وقد بقيت فيه حياة يضرب معها اضطراب المذبوح وذكيتموه أي ذبحتموه ذبحا شرعياً : فإنه في هذه الحالة يحل لكم الأكل منه . فقوله { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } الاستثناء هنا يرجع إلى هذه الأنواع الخمسة .
وقيل : إن الاستثناء هنا مختص بقوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع } .
أي : وحرم عليكم ما أكل السبع بعضه فمات بسبب جرحه ، إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه ذكاة شرعية فإنه في هذه الحالة يحل الأكل منه ، والأول أولى ، لأن هذه الأنواع الخمسة تشترك في أنها تعلقت بها أحوال قد تفضي بها إلى الهلاك ، فإن هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنها حينئذ ميتة ، وإذا أدركت بالذكاة في وقت تنفع فيه الذكاة لها جاز الأكل منها .
أما النوع العاشر في هذه المحرمات فيتجلى في قوله - تعالى - { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } والنصب : جمع نصاب : ككتب وكتاب . أو جمع نصب كسقف وسقف . ويصح أن يكون لفظ النصب واحداً وجمعه أنصاب مثل : طنب أطناب .
وعلى كل فهي حجارة كان الجاهليون ينصبونهها حول الكعبة ، وكان عددها ثلاثمائة وستين حجراً ، وكانوا يذبحون عليها قرابينهم التي يتقربون بها إلى أصنامهم . ويعتبرون الذبح أكثر قربة إلى معبوداتهم متى تم على هذه النصب . وليست هذه النصب هي الأوثان ، فإن النصب حجارة غير منقوشة بخلاف الأوثان فإنها حجارة مصورة منقوشة .
والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح على النصب لأنه لم يتقرب به إلى الله ، وإنما تقرب به إلى الأصنام وما تقرب به إلى غير الله فهو فسق ورجس يجب البعد عنه .
هذه عشرة أنواع من المأكولان حرمت الآية الكريمة الأكل منها ، لما اشتملت عليه من مضرة وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن الله - تعالى - قد حرمها ، لأنه - سبحانه - لا يحرم الخبائث .
ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن يقف عند ما أحله الله - تعالى - وحرم .
ثم ذكر - سبحانه - نوعا من الأفعال المحرمة ، بعد ذكره لعشرة أنواع من المطاعم المحرمة فقال : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } .
وإنما ذكر - سبحانه - هذا الفعل المحرم مع جملة المطاعم المحرمة ، لأنه مما ابتدعه أهل الجاهلية ؛ كما ابتدعوا ما ابتدعوه في شأن المطاعم .
والاستقسام : طلب معرفة ام قسم للإِنسان من خير أو شر .
والأزلام : قداح الميسر واحدها زلم - بفتح اللام وبفتح الزاي أو ضمها - وسميت قداح الميسر بالأزلام ، لأنها زلمت أي سويت ، ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة ، إذا كان جيد القد ، جميل القوام .
وكان لأهل الجاهلية طرق للاستقسام بالأزلام من أشهرها : أنه كانت لديهم سهام مكتوب على أحدها : أمرني ربي وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل من الكتابة ، فإذا أرادوا سفراص أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها فإن خرج الآمر أقدموا على ما يريدونه وإن خرج الناهي امسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي .
والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تطلبوا معرفة ما قسم لكم في سفر أو غزو أو زواج أو ما يشبه ذلك بواسطة الأزلام ، لأن هذا الفعل فسق ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .
فاسم الإِشارة " ذلكم " يعود إلى الاستقسام بالأزلام خاصة . ويجوز أن يعود إليه وإلى تناول ما حرم عليهم .
قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله . لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا " .
وثبت في الصحيحين أيضاً " أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين : قال فاستقسمت بالأزلام . هل أضرهم أولا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال : فعصيت الأزلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك " .
فإن قيل إن الاستقسام بالأزلام هو لون من التفاؤل ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن فلم صار فسقاً ؟
فالجواب أن هناك فرقا واسعاً بين الاستقسام بالأزلام وبين الفأل ؛ فإن الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس وتنشرح للعمل مع رجاء الخير منه بخلاف الاستقسام بالأزلام فإن القوم كانوا يستقسمون بالأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام بإرشاد من الأصنام فلهذا كان الاستقسام بها فسقا وخروجا عن طاعة الله .
وفضلا عن هذا فإن الاستقسام بالأزلام طلب لمعرفة علم الغيب الذي استأثر الله به ، وذلك حرام وافتراء على الله - تعالى - .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد ذكرت أحد عشر نوعاً من المحرمات عشرة منها تتعلق بالمأكولات ، وواحدا يتعلق بالأفعال .
وهناك مطعومات أخرى جاء تحريمها عن طريق السنة النبوية ، كتحريمه صلى الله عليه وسلم الأكل من لحوم الحمر الأهلية .
وبعد أن بين - سبحانه - هذه الأنواع من المحرمات التي حرمها على المؤمنين رحمة بهم ، ورعاية لهم ، أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم ، وأمرهم بأن يجعلوا خشيتهم منه وحده ، فقال - تعالى - : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .
وقوله { اليوم } ظرف منصوب على الظرفية بقوله { يَئِسَ } والألف واللام فيه للعهد الحضوري ، فيكون المراد به يوماً معيناً وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع .
ويصح أن لا يكون المراد به يوما بعينه ، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية .
وقد حكى الإِمام الرازي هذين الوجهين فقال ما ملخصه : وقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } فيه قولان :
الأول : أنه ليس المراد به ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان أي لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ، ونظيره قوله : كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخاً . لا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه .
الثاني : أن المراد به يوم نزول هذه الآية . وقد " نزلت يوم الجمعة من يوم عرفة بعد العصر في عام حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء " .
وقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } أي انقطع رجاؤهم في التغلب عليكم ، وفي إبطال أمر دينكم . وفي صرف الناس عنه بعد أن دخلوا فيه أفواجاً وبعد أن صار المشركون مهقورين لكم . أذلة أمام قوتكم . وما دام الأمر كذلك { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } أي : فلا تجعلوا مكاناً لخشية المشركين في قلوبكم فقد ضعفوا واستكانوا ، بل اجعلوا خشيتكم وخوفكم وهيبتكم من الله وحده الذي جعل لكم الغلبة والنصر عليهم .
ثم عقب ذلك - سبحانه - بيان أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة الإِسلامية فقال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } .
أي ؛ اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي ، ونصري لكم على أعدائكم وتمكيني إياكم من أداء فريضة الحج دون أن يشارككم في الطواف بالبيت أحد من المشركين .
وأتممت عليكم نعمتي ، بأن أزلت دولة الشرك من مكة ، وجعلت كلمتكم هي العليا وكلمة أعدائكم هي السفلى ، ورضيت لكم الإِسلام دينا ، بأن اخترته لكم من بين الأديان . وجعلته الدين المقبول عندي ، فيجب عليكم الالتزام بأحكامه وآدابه وأوامره ونواهيه قال - تعالى - : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } وليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصاً قبل اليوم ثم أكمله ، وإنما المراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتاً في علم الله قابلا للنسخ . ولكنها اليوم كملت وصارت مؤبدة وصالحة لكل زمان ومكان ، وغير قابلة للنسخ ، وقد بسط هذا المعنى كثير من المفسرين فقال الإِمام الرازي : قال القفال : إن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبداً كاملا . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه - تعالى - كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة . فالشرع أبداً كان كاملا . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
وقال القرطبي ما ملخصه : لعل قائلا يقول : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات . وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار . قبل نزول هذه الآية - ماتوا على دين ناقص . ومعلوم أن النقص عيب ؟
فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها . . ؟ لا شك أن هذا النقصان ليس بعيب .
وقوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يخرج على وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصاً عما كان عند الله أنه ملحقه به ، وضامه إليه . . وهكذا شرائع الإِسلام شرعها الله شيئاً فشيئاً إلى أن أنهى - سبحانه - الدين منتهاه الذي كان له عنده .
وثانيهما : أنه أراد بقوله { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا فاستجمع لهم الدين أداء أركانه ، وقياما بفرائضه وفي الحديث :
" بني الإِسلام على خمس " وقد كانوا تشهدوا ، وصلوا ، وزكوا ، وصاموا ، وجاهدوا ، واعتمروا ، ولم يكونوا حجوا ، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله وهم بالموقف عشية عرفة { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أي : أكمل وضعه لهم .
وقد روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : " جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال وأي آية ؟ قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة " .
وروى أنها " لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى عمر ، فقال له ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة في ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " صدقت " " .
وبعد أن ذكر - سبحانه - في صدر الآية أحد عشر نوعا من المحرمات ، وأتبع ذلك ببيان إكمال الذين وإتمام النعمة على المؤمنين . جاء ختام الآية لبيان حكم المضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فقال - تعالى - : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقوله { اضطر } من الاضطرار بمعنى الوقوع في الضرورة .
والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع الشديد . يقال خمصه الجوع خمصا ومخمصة .
إذا اشتد به . وفي الحديث : " إن الطير تغدو خماصاً - أي جياعا ضامرات البطون - وتروح بطانا - أي مشبعات " وقال الأعشى :
يبيتون في المشتى ملاءً بطونهم . . . وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا
أي : وجاراتهم جوعى وقد ضمرت بطونهن من شدة الجوع .
وقوله { مُتَجَانِفٍ } من الجنف وهو الميل ، يقال : جنف عن الحق - كفرح - إذا مال عنه وجنف عن طريقه - كفرح وضرب - جنفاً وجنوفاً إذا مال عنه .
والمعنى : فمن ألجأته الضرورة إلى كل شيء من هذه المحرمات في مجاعة شديدة حالة كونه غير مائل إلى ارتكاب إثم من الآثام فلا ذنب عليه في ذلك لأن الله - تعالى - واسع المغفرة .
فهو بكرمه يغفر لعباده تناول ما كان محرما إذا اضطروا إلى تناوله لدفع الضرورة بدون بغي أو تعد ، وهو واسع الرحمة حيث أباح لهم ما يدفع عنهم الضرر ولو كان محرما .
قال الآلوسي : وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائداً على ما يمسك رمقه فإن ذلك حرام . وقيل : يجوز أن يشبع عند الضرورة . وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغياً أو عادياً بأن ينزعها من مضطر آخر أو خارجاً في معصية .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت ما يحرم في حالة الاختيار ، وما يحل في حالة الاضطرار .
وجاءت بين ذلك بجمل معترضة - وهي قوله { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } إلى قوله : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } لتأكيد تحريم هذه الأشياء ، لأن تحريمها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإِسلام المرضى عند الله .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :
1 - حرمة هذه الأنواع الأحد عشر التي ذكرها الله - تعالى - في هذه الآية ووجوب الابتعاد عنها لأنها رجس أو فسق ، ولأن استحلال شيء منها يكون خروجا عن تعاليم دين الله ، وانتهاكا لحرماته .
2 - حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، متى ذبحت ذبحاً شرعياً وكانت بها بقية حياة تجعلها تضطرب بعد ذبحها اضطراب المذبوح .
وللفقهاء كلام طويل في ذلك يؤخذ منه اتفاقهم على أن الخنق وما معه إذا لم يبلغ بالحيوان إلى درجة اليأس من حياته بأن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه الحالة كانت الذكاة محللة له . أما إذا غلب على الظن أنه يهلك بما حصل له بسبب الخنق أو الوقذ أو التردي أو النطح أو أكل السبع منه ، فقد أفتى كثير من العلماء بعمل الذكاة فيه ، وقد أخذ بذلك الأحناف . فقد قالوا : متى كانت عينه أو ذنبه يتحرك أو رجله ترك ثم ذكى فهو حلال .
وقال قوم لا تعمل الذكاة فيه ويحرم أكله .
ومنشأ اختلافهم في أن الذكاة تعمل أولا تعمل يعود إلى : هل الاستثناء هن متصل أو منقطع ؟
فمن قال إنه متصل يرى أنه أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ ، فما قبل حرف الاستثناء حرام ، وما بعده خرج منه فيكون حلالا .
ومن قال إنه منقطع يرى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة . وكأنه قال : ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال أباح الله لكم التمتع به . أما هذه الحيوانات التي حرمها الله في الآية فلا يجوز لكم الأكل منها مطلقا .
وقد رجح المحققون من العلماء أن الاستثناء متصل ، وقالوا : يؤيد القول بأن الاستثناء متصل بالإِجماع على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش فيكون مخرجاً لبعض ما يتناوله المستثنى منه ، فيكون الاستثناء فيه متصلا .
هذا ملخص لما قاله العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب الفروع .
3 - إباحة تناول هذه المحرمات عند الضرورة لدفع الضرر ، ومن هذه الإباحة مقيدة بقيود ذكرها الفقهاء من أهمها قيدان .
الأول : أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط .
الثاني : ألا يتجاوز ما يسد الحاجة ، أما إذا قصد التلذذ أو إرضاء الشهوة ، أو تجلوز المقدار الذي يدفع الضرر فإنه في هذه الأحوال يكون واقعا في المحرم الذي نهى الله عنه .
وقد تكلم الإمام ابن كثير عن هذه المسألة فقال : قوله - تعالى - { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم } أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناول والله غفور له رحيم به ، لأنه - تعالى - يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له .
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر - مرفوعاً - قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتي معصيته " .
ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، و هو إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أوله أن يشبع ويتزود على أقوال ، وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم - بل متى اضطر إلى ذلك جاز له .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفثوا بقلا فشأنكم بها " .
والاصطباح شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ومعنى لم تحتفثوا : أي تقتلعوا .
وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي متعاط لمعصية الله .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي .
4 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } أن الاستقسام بالأزلام محرم ، ومحرم أيضاً كل ما يشبهه من القمار والتنجيم والرمل وما إلى ذلك قال بعض العلماء : من عمل بالأيام في السعد والنحس معتقداً لها تأثيراً كفر وإن لم يعتقد أثم .
وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " .
والعيافة : زجر الطير . والطرق : الخط يخط في الأرض . وقيل : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء .
وفي القاموس : عفت الطير عيافة زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها فتسعد وتتشاءم . وهو من عادة العرب كثيراً . والطيرة : من اطيرت وتطيرت وهو ما يتشاءم من الفأل الرديء ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة .
والجبت : كل ما عبد من دون الله .
وقد روى مسلم في صحيحيه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافاً أو كاهنا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " .
وعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له . أو سحر أو سحر له "
5 - استدل بعضهم بقوله - تعالى - { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } على نفي القياس وبطلان العمل به لأن إكمال الدين يقتضي أنه نص على أحكام جميع الوقائع إذ لو بقى بعض لم يبين حكمه لم يكن الدين كاملا .
وأجيب على ذلك بأن غاية ما يقتضيه إكمال الدين أن يكون الله - تعالى - قد أبان الطرق لجميع الأحكام وقد أمر الله بالقياس ، وتعبد المكلفين به بمثل قوله - تعالى - { فاعتبروا ياأولي الأبصار } فكان هذا مع النصوص الصريحة بياناً لكل أحكام الوقائع ، غاية الأمر أن الوقائع صارت قسمين : قسما نص الله على حكمه ، وقسما أرشد الله - تعالى - إلى أنه يمكن استنباط الحكم فيه من القسم الأول . فلم تصلح الآية متمسكا لهم .
6 - الآية الكريمة قد اشتملت على بشارات لأبناء هذه الأمة الإِسلامية فقد بشرتهم - أولا - بأن أعداءهم قد انقطع رجاؤهم في إبطال أمر الإِسلام أو تحريفه أو تبديل أحكامه التي كتب الله لها البقاء .
وها نحن أولا . نراجع التاريخ فنرى المسلمين قد تغلب عليهم أعداؤهم في معارك حربية ولكن هؤلاء الأعداء لم يستطيعوا التغلب على أحكام هذا الدين ومبادئه . بل بقيت محفوظة يتناقلها الخلف عن السلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد روى الإِمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبه حجة الوداع : " إن الشيطان قد يئس أن يعيده المصلون في جزيرة العرب ولكنه رضي بالتحريش بينهم " .
وبشرتهم - ثالثاً - بإتمام نعمة الله عليهم . وأي نعمة أتم على المؤمنين من إخراج الله إياهم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية ومن تمكينه لهم في الأرض واستخلافهم فيها ، وجعل كلمتهم العليا بعد أن كانوا في ضعف من أمرهم وفساد في أحوالهم .
وبشرتهم - رابعا - بأن الله قد اختار لهم الإِسلام دينا ، وجعله هو الدين المرضي عنده وهو الذي يجب على الناس أن يدخلوا فيه ، وأن يعملوا بأوامره ونواهيه ، لأنه من الحمق والغباء أن يبتعد إنسان عن الدين الذي اختاره الله وارتضاه ليختاره لنفسه طريقاً من نزغات نفسه وهواه .
وهذه بعض الأحكام والآداب التي استلهمها العلماء من الآية الكريمة . وهناك أحكام أخرى ذكرناها خلال تفسيرنا لألفاظ الآية الكريمة .
ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام :
( حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم ) .
والميتة والدم ولحم الخنزير ، سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات [ ص 156 - ص157 من الجزء الثاني من الظلال ] وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل ، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة ؛ وهذا وحده يكفي . فالله لا يحرم إلا الخبائث . وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها . سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه . . وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد ؟ !
وأما ما أهل لغير الله به ، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان . فالإيمان يوحد الله ، ويفرده - سبحانه - بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته . وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل ؛ وأن يهل باسمه - وحده - في كل عمل وكل حركة ؛ وأن تصدر باسمه - وحده - كل حركة وكل عمل . فما يهل لغير الله به ؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله [ وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد ] حرام ؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه ؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان . . فهو خبيث من هذه الناحية ؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير .
وأما المنخنقة [ وهي التي تموت خنقا ] والموقوذة [ وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت ] والمتردية [ وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت ] والنطيحة [ وهي التي تنطحها بهيمة فتموت ] وما أكل السبع [ وهي الفريسة لأي من الوحش ] . . فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح : [ إلا ما ذكيتم ] فحكمها هو حكم الميتة . . إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل . . على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم " التذكية " ، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة ؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة ، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا - أو يقتلها حتما - فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة . بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح ، أيا كان نوع الإصابة . . والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة . .
واما ما ذبح على النصب - وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ، ومثلها غيرها في أي مكان - فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام - حتى لو ذكر اسم الله عليه ، لما فيه من معنى الشرك بالله .
ويبقى الاستقسام بالأزلام . والأزلام : قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه . وهي ثلاثة في قول ، وسبعة في قول . وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب ؛ فتقسم بواسطتها الجزور - أي الناقة التي يتقامرون عليها - إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ، ثم تدار ، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح . . فحرم الله الاستقسام بالأزلام - لأنه نوع من الميسر المحرم - وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق . .
( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) .
فالمضطر من الجوع - وهو المخمصة - الذي يخشى على حياته التلف ، له أن يأكل من هذه المحرمات ؛ ما دام أنه لا يتعمد الإثم ، ولا يقصد مقارفة الحرام . وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل : هل هو مجرد ما يحفظ الحياة . أو هو ما يحقق الكفاية والشبع . أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات . . وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر ، وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج . مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة ؛ والتقوى الموكولة إلى الله . . . فمن أقدم مضطرا ، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد ، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب :
وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى :
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ، ليعلن كمال الرسالة ، وتمام النعمة ، فيحس عمر - رضي الله عنه - ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل - أن أيام الرسول [ ص ] على الأرض معدودة . فقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ؛ ولم يعد إلا لقاء الله . فيبكي - رضوان الله عليه - وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق .
هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح ؛ وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها . . ما دلالة هذا ؟ إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ . كل متكامل . سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . وأن هذا في مجموعة هو " الدين " الذي يقول الله عنه في هذه الآية : إنه أكمله . وهو " النعمة " التي يقول الله للذين آمنوا : إنه أتمها عليهم . وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . . فكلها في مجموعها تكون المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا ؛ والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه ، كالخروج عليه كله ، خروج على هذا " الدين " وخروج من هذا الدين بالتبعية . .
والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره ؛ من أن رفض شيء من هذا المنهج ، الذي رضيه الله للمؤمنين ، واستبدال غيره به من صنع البشر ؛ معناه الصريح هو رفض ألوهية الله - سبحانه - وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر ؛ واعتداء على سلطان الله في الأرض ، وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى . . الحاكمية . . وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين ؛ والخروج من هذا الدين بالتبعية . .
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) . .
يئسوا أن يبطلوه ، أو ينقصوه ، أو يحرفوه . وقد كتب الله له الكمال ؛ وسجل له البقاء . . ولقد يغلبونعلى المسلمين في موقعة ، أو في فترة ، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين . فهو وحده الدين الذي بقي محفوظا لا يناله الدثور ، ولا يناله التحريف أيضا ، على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه ؛ وعلى شدة ما كادوا له ، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور . . غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة ؛ تعرف هذا الدين ؛ وتناضل عنه ، ويبقى فيها كاملا مفهوما محفوظا ؛ حتى تسلمه الى من يليها . وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين !
فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبدا . وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه ؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته ؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه . .
وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة ، لا يقتصر على ذلك الجيل ؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان . . نقول : للذين آمنوا . . الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين ، بمعناه الكامل الشامل ؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجا للحياة كلها . . وهؤلاء - وحدهم - هم المؤمنون . .
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
اليوم . . الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع . . أكمل الله هذا الدين . فما عادت فيه زيادة لمستزيد . وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل . ورضي لهم " الإسلام " دينا ؛ فمن لا يرتضيه منهجا لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة ؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة ، وتوجيهات عميقة ، ومقتضيات وتكاليف . .
إن المؤمن يقف أولا : أمام إكمال هذا الدين ؛ يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . . فماذا يرى ؟ . . يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق ، على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . . رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة . . ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ؛ متكيفة بهذه الظروف . . كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ؛ أرسل إلى الناس كافة ، رسولا خاتم النبيين برسالة " للإنسان " لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة . . رسالة تخاطب " الإنسان " من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة " الإنسان " من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها ؛ وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسيةفيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . . وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة " الإنسان " منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد ؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار . . وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا :
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة ، وإكمال الشريعة معا . . فهذا هو الدين . . ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال . ولا قصورا يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . . وإلا فما هو بمؤمن ؛ وما هو بمقر بصدق الله ؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين !
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان ، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء " للإنسان " في كل زمان وفي كل مكان ؛ لا لجماعة من بني الإنسان ، في جيل من الأجيال ، في مكان من الأمكنة ، كما كانت تجيء الرسل والرسالات .
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ؛ دون أن تخرج عليه ، إلا أن تخرج من إطار الإيمان !
والله الذي خلق " الإنسان " ويعلم من خلق ؛ هو الذي رضي له هذا الدين ؛ المحتوى على هذه الشريعة . فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ؛ وبأطوار الإنسان !
ويقف المؤمن ثانيا : أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين ، بإكمال هذا الدين ؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد " الإنسان " في الحقيقة ، كما تمثل نشأته واكتماله . " فالإنسان " لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه ، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و " الإنسان " لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة " الإنسان " بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد " الإنسان " . . إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ؛ يمكن أن يكون " حيوانًا أو أن يكون " مشروع إنسان " في طريقه إلى التكوين ! ولكنه لا يكون " الإنسان " في أكمل صورة للإنسان ، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . . والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة ، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان !
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية ، لهو الذي يحقق " للإنسان " " إنسانيته " كاملة . . يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي ، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات ، إلى دائرة " التصور " الإنساني ، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .
عالم الشهادة وعالم الغيب . . عالم المادة وعالم ما وراء المادة . . وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود !
ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله ، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام ، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . . ويحققها له ، بالمنهج الرباني ، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء ، والاستعلاء على نوازع الحيوان ، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام !
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ، ولا يقدرها قدرها ، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد ، وويلاتها في واقع الحياة . . هو الذي يحس ويشعر ، ويرى ويعلم ، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى ، وويلات الحيرة والتمزق ، وويلات الضياع والخواء ، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . . هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ؛
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى ، وويلات التخبط والاضطراب ، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية ، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . . ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية . وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ؛ وسار بهم في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام ، والملائكة ، والجن ، والكواكب ، والأسلاف ؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد ، قادر قاهر ، رحيم ودود ، سميع بصير ، عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد ؛ والكل له عباد ، والكل له عبيد . . ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ، ومن سلطان الرياسة ، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة . .
وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية ؛ ومن العادات الزرية ؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان [ لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية ! ] .
" فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه ، لأن :
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
" وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا ، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول :
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه *** ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
" وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره " .
" وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ؛ ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء " .
" وقد قيل عن عزة كليب وائل : إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد ، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل : " لا حر بوادي عوف " لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . " .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . . كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة ، والمرأة المنكودة ، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية ، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها ، والثارات والغارات والنهب والسلب ، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي ، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة ، وتخاذل وخذلان القبائل كلها ، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم :
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
ويقف المؤمن ثالثا : أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . . يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة ، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . . وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها ، حتى ليختار لها منهج حياتها .
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا ، يكافى ء هذه الرعاية الجليلة . . أستغفر الله . . فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ، ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه ، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة ، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . . وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ! . . وإنها - إذن - لجريمة نكدة ؛ لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله . . ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم ، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . . فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . . واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . . فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا ، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ويمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد :
{ حرمت عليكم الميتة } بيان ما يتلى عليكم ، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية . { والدم } أي الدم المسفوح لقوله تعالى : { أو دما مسفوحا } وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها . { ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه . { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق . { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب ، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته . { والمتردية } التي تردت من علو أو في بئر فماتت . { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل . { وما أكل السبع } وما أكل منه السبع فمات ، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل . { إلا ما ذكيتم } إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك . وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع . والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد . { وما ذبح على النصب } النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة . وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام . وقيل هو جمع والواحد نصاب . { وأن تستقسموا بالأزلام } أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح . مكتوب على أحدها ، أمرني ربي . وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل ، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام . وقيل : هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد . { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام ، وكونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله ، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم . { اليوم } لم يرد به يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية . وقيل أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع . { يئس الذين كفروا من دينكم } أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه . { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم . { واخشون } وأخلصوا الخشية لي . { اليوم أكملت لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد . { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية . { ورضيت لكم الإسلام دينا } اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير . { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات . { في مخمصة } مجاعة { غير متجانف لإثم } غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله : { غير باغ ولا عاد } . { فإن الله غفور رحيم } لا يؤاخذه بأكله .