المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

92- ولا تكونوا في الحنث في أيمانكم بعد توكيدها مثل المرأة المجنونة التي تغزل الصوف وتحكم غزله ، ثم تعود فتنقضه وتتركه محلولاً ، متخذين أيمانكم وسيلة للتغرير والخداع لغيركم ، مع أنكم مصرون على الغدر بهم ؛ لأنكم أكثر وأقوى منهم ، أو تنوون الانضمام لأعدائهم الأقوى منهم ، أو لترجون زيادة القوة بالغدر ، وإنما يختبركم اللَّه ، فإن آثرتم الوفاء كان لكم الغنم في الدنيا والآخرة ، وإن اتجهتم إلى الغدر كان الخسران . وليبين لكم يوم القيامة حقيقة ما كنتم عليه ، تختلفون عليه في الدنيا ، ويجازيكم حسب أعمالكم{[118]} .


[118]:هاتان الآيتان تدلان على أن أساس العلاقات بين المسلمين وغيرهم هي العدالة والوفاء بالعهد، وأن العلاقات الدولية لا تنظم إلا بالوفاء بالعهد، وأن الدولة الإسلامية إذا عقدت عهدا فإنما تعقده باسم الله فهو يتضمن يمين الله وكفالته، وتدل الآية على ثلاثة معان لو نفذتها الدولة لساد السلم: أولها: أنه لا يصح أن تكون المعاهدات سبيلا للخديعة وإلا كانت غشا، والغش غير جائز في العلاقات الإنسانية سواء كانت علاقات آحاد أم علاقات جماعات ودول. ثانيها: أن الوفاء بالعهد قوة في ذاته، وأن من ينقض عهده يكون كمن ينقض ما بناه من أسباب القوة، فيكون كالحمقاء التي تفك غزلها بعد تقويته وتوثيقه. ثالثها: أنه لا يصح أن يكون الباعث على نكث العهد الرغبة في القوة أو الزيادة في رقعة الأرض أو نحو ذلك.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

ثم ضرب الله مثلاً لنقض العهد فقال : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة } ، أي : من بعد غزله وإحكامه . قال الكلبي ، و مقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها ريطة بنت عمرو بن سعد ابن كعب بن زيد مناة بن تميم ، وتلقب بجعر ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع ، وصنارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة ، على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف والشعر والوبر ، وتأمر جواريها بذلك ، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها . ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد ، لا كففتم عن العهد ، ولا حين عاهدتم وفيتم به . { أنكاثاً } ، يعني : أنقاضاً ، واحدها نكث ، وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلاً كان أو حبلاً . { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم } ، أي : دخلاً وخيانة وخديعة ، والدخل ما يدخل في الشيء للفساد . وقيل : الدخل و الدغل : أن يظهر الوفاء ويبطن النقض . { أن تكون } ، أي : لأن تكون { أمة هي أربى } أي : أكثر وأعلى ، { من أمة } قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء ، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر ، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد ، بأن كانت أمة أكثر من أمة . فنهاهم الله عن ذلك . { إنما يبلوكم الله به } ، يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } ، في الدنيا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

ثم ضرب - سبحانه - مثلا لتقبيح نقض العهد ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } .

وقوله : { غزلها } أي : مغزولها ، فهو مصدر بمعنى المفعول . والفعل منه غزل يغزل - بكسر الزاي . . من باب ضرب . يقال غزلت المرأة الصوف أو القطن غزلا .

والجار والمجرور في قوله : { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ، متعلق بالفعل { نقضت } ، أي : نقضته وأفسدته من بعد إبرامه وإحكامه .

و { أنكاثا } ، حال مؤكدة من : { غزلها } ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، بتضمين الفعل نقضت معنى صيرت أو جعلت .

والأنكاث : جمع نكث - بكسر النون - ، بمعنى منكوث أي : منقوض ، وهو ما نقض وحل فتله ليغزل ثانيا ، والجمع أنكاث ، كحمل وأحمال .

يقال : نكث الرجل العهد نكثا - من باب قتل - إذا نقضه ونبذه ، ومنه قوله : - تعالى - { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } ، قال ابن كثير : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .

وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده . وهذا أرجح وأظهر سواء أكان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .

والمعنى : كونوا - أيها المسلمون - أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوها بعد إبرامها ، فإنكم إن نقضتموها كان مثلكم كمثل تلك المرأة الحمقاء ، التي كانت تفتل غزلها فتلا محكما ، ثم تنقضه بعد ذلك ، وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة محلولة . .

فالجملة الكريمة تحقر في كل جزئية من جزئياتها ، حال من ينقض العهد ، وتشبهه على سبيل التنفير والتقبيح بحال امرأة ملتاثة في عقلها ، مضطربة في تصرفاتها .

وقوله - سبحانه - : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .

إبطال للأسباب التي كان يتخذها بعض الناس ذرائع ومبررات لنقض العهود .

والدَّخَل - بفتح الخاء - : المكر والغش والخديعة . وهو في الأصل اسم للشيء الذي يدخل في غيره وليس منه .

قال الراغب : والدخل كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة ، كالدَّغلَ ، وعن الدعوة في النسب . . . ومنه قيل : شجرة مدخولة - أي : ليست من جنس الأشجار التي حولها .

وقوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ . . . } ، متعلق بقوله : { تتخذون } .

وقوله : { أربى } ، مأخوذ من الربو بمعنى الزيادة والكثرة . يقال : رَبَا الشيء يربوا ، إذا زاد وكثر .

والمعنى : ولا تكونوا مشبهين لامرأة هذا شأنها ، حالة كونكم متخذين أيمانكم وأقسامكم وسيلة للغدر والخيانة ، من أجل أن هناك جماعة أوفر عددا وأكثر مالا من جماعة أخرى .

قال القرطبى : قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى ، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها غدرت بالأولى ونقضت عهدها ، ورجعت إلى هذه الكبرى ، فنهاهم الله - تعالى- : أن ينقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى ، أو أكثر أموالا . . .

وقال الفراء : المعنى : لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالأيمان .

وقال ابن كثير : قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك .

والخلاصة : أن الآية الكريمة تدعو إلى وجوب الوفاء بالعهود في جميع الأحوال ، وتنهى عن اللجوء إلى الذرائع الباطلة ، من أجل نقض العهود ، إذ الإِسلام لا يقر هذه الذرائع وتلك المبررات ، بدعوى أن هناك جماعة أقوى من جماعة ، أو دولة أعز من دولة ، وإنما الذي يقره الإِسلام هو مراعاة الوفاء بالعهود ، وعدم اتخاذ الأيمان وسيلة للغش والخداع .

والضمير المجرور في قوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، يعود على مضمون الجملة المتقدمة ، وهي قوله - تعالى - : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .

أي : إنما يبلوكم الله ويختبركم بكون أمة أربى من أمة ، لينظر أتفُون بعهودكم أم لا . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : قوله - تعالى - : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، الضمير لقوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ . . . } ؛ لأنه في معنى المصدر . أي : إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم . وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم .

ويجوز أن يعود إلى ما أمر الله به من الوفاء بالعهد ، فيكون المعنى : إنما يبلوكم الله ويختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهود ، ومن النهي عن النقض ليظهر لكم المطيع من العاصي ، وقوي الإِيمان من ضعيفه .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أن مرد الفصل بين العباد فيما اختلفوا فيه إليه - تعالى - وحده ، فقال : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازي أهل الحق بما يستحقون من ثواب ، ويجازي أهل الباطل بما هم أهله من عقاب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

90

وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا ، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم ، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال ، وتقبيح نكث العهد ، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات :

( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، أن تكون أمة هي أربى من أمة . إنما يبلوكم الله به . وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة ! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب . وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب . وهو المقصود . وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل ، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه !

وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول [ ص ] بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة ، بينما قريش كثرة قوية . فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها : ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة . وطلبا للمصلحة مع الأمة الأربى .

ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن " مصلحة الدولة " فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول ، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر ، تحقيقا لمصلحة الدولة ! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ، ويجزم بالوفاء بالعهد ، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل . ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى . ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان ، وأكل حقوق الناس ، واستغلال الدول والشعوب . . وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام .

والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر ، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة : ( أن تكون أمة هي أربى من أمة )هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه : ( إنما يبلوكم الله به ) . .

ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه : ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

وقوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } ، قال عبد الله بن كثير ، والسدّي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .

وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده .

وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .

وقوله : { أَنْكَاثًا } ، يحتمل أن يكون اسم مصدر : نقضت غزلها أنكاثا ، أي : أنقاضا . ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من ناكث ؛ ولهذا قال بعده : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ } ، أي : خديعة ومكرًا ، { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم . فنهى الله عن ذلك ، لينبه بالأدنى على الأعلى ؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى .

وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة " الأنفال " {[16675]} قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عَبْسَة : الله أكبر يا معاوية ، وفاء لا غدرًا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها " . فرجع معاوية بالجيش ، رضي الله عنه وأرضاه .

قال ابن عباس : { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : أكثر .

وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز . فنهوا عن ذلك . وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد نحوه .

وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، قال سعيد بن جُبَير : يعني بالكثرة . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد .

{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازى كل عامل بعمله ، من خير وشر .


[16675]:عند تفسير الآية: 58.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة ، بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكماً ، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام ، بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل ، فحلته بعد إبرامه ، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة ، تسمى ريطة بنت سعد ، كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ، قاله عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة ، وقيل : كانت امرأة موسوسة تسمى خطية ، تغزل عند الحجر وتفعل ذلك ، وقال مجاهد وقتادة ، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة ، و { أنكاثاً } ، نصب على الحال ، والنكث النقض ، و «القوة » في اللغة واحدة قوى ، الغزل والحبل ، وغير ذلك مما يظفر ، ومنه قول الأغلب الراجز :

حبل عجوز فتلت سبع قوى{[7407]} . . . ويظهر لي أن المراد ب : «القوة » ، في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ، ولو قدرناها واحدة القوى ، لم يكن معها ما ينقض ، { أنكاثاً } ، والعرب تقول : أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه ، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة ، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له ، قال مجاهد : المعنى : من بعد إمرار قوة ، و «الدخل » ، الدغل بعينه ، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن ، فيتمكن الحالف من ضره بما يريده ، وقوله : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب ، الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة ، قوية فداخلتها ، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى ، فقال الله تعالى{[7408]} ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة . و «الربا » الزيادة ، ويحتمل أن يكون القول معناه : لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم ، أي : أزيد خيراً ، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود ، و { يبلوكم } ، معناه يختبركم ، والضمير في : { به } ، يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به ، ويحتمل أن يعود على الربا ، أي : أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد ، وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها ، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة ، وقوله : { هي أربى } ، موضع { أربى } ، عند البصريين رفع ، وعند الكوفيين نصب ، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين ؛ لأنه لا يكون مع النكرة ، و { أمة } نكرة ، وحجة الكوفيين أن : { أمة } ، وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف ، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص ، وفي هذا نظر .


[7407]:الأغلب الراجز، هو الأغلب بن جشم العجلي، من سعد بن عجل، كان جاهليا إسلاميا، عاش تسعين سنة، وقتل بنهاوند، وهو أول من شبه الرجز بالقصيد وأطاله بعد أن كان قبله مجرد بيت أو بيت أو بيتين يقولهما الراجز، وهذا عجز البيت، وهو كاملا: كأن عـــــــــــرق أيره إذا ودى حبل عجوز فتلت سبع قوى وهو من أرجوزة في سجاح، قالها حين تزوجت من مسيلمة الكذاب، ويروى "ضفرت" بدلا من "فتلت"، و "خمس" بدلا من "سبع"، ووروى: خرج منه الودي، وقوي: جمع قوة، وهي الخصلة الواحدة من قوى الحبل، أو الطاقة الواحدة من طاقات الحبل، وفي حديث ابن الديلمي: (ينقض الإسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوة قوة)، ويجمع قوة على قوى، كما جمعت صوة على صوى، وهوة على هوى.
[7408]:يريد: كأن الله تعالى قال ما معناه كذا وكذا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

تشنيع لحال الذين ينقضون العهد .

وعطف على جملة { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } [ سورة النحل : 91 ] . واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين لما في هذه الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع كالتوكيد لجملة { ولا تنقضوا الأيمان } . نُهوا عن أن يكونوا مَضْرِب مثل معروف في العرب بالاستهزاء ، وهو المرأة التي تَنقض غزلها بعد شَدّ فتله . فالتي نقضت غزلها امرأةٌ اسمها رَيطة بنت سعد التيمية من بني تيم من قريش . وعُبّر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصّلة ولأن مضمون الصّلة ، هو الحالة المشبّه بها في هذا التمثيل ، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون .

وقد ذُكر من قصّتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلّة العقل ، ولها جوارٍ ، وقد اتّخذت مِغْزلاً قدر ذراع وصِنّارَة مثل أصبع وَفَلْكَةً عظيمة على قدر ذلك ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته ، وهكذا تفعل كل يوم ، فكان حالها إفساد ما كان نافعاً محكماً من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح ، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية . ووجه الشّبه الرجوع إلى فساد بعد التلبّس بصلاح .

والغزل : هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي المغزول ، لأنه الذي يقبل النقض . والغَزل : فتل نتف من الصوف أو الشعر لتُجعل خيوطاً محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغَزل بحيث تلتفّ النتف المفتولة باليد فتصير خيطاً غليظاً طويلاً بقدر الحاجة ليكون سَدًى أو لُحْمَة للنسج .

والقوة : إحكام الغزل ، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه ، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذرٌ لنقضه .

والأنكاث بفتح الهمزة : جمع نِكْث بكسر النّون وسكون الكاف أي منكوث ، أي منقوض ، ونظيره نِقض وأنقاض . والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلاً واحداً جعلتْه منقوضاً ، أي خيوطاً عديدة . وذلك بأن صيّرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطاً ذات عدد .

وانتصب { أنكاثاً } على الحال من { غزلها } ، أي نقضته فإذا هو أنكاث .

وجملة { تتخذون أيمانكم } حال من ضمير { ولا تنقضوا الأيمان } [ سورة النحل : 91 ] .

والدخَل بفتحتين : الفساد ، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها . . والدّخل أيضاً : الشيء الفاسد . ومن كلام العرب : تَرى الفتيان كالنخْل وما يدريك ما الدَخْل ( سكن الخاء لغةً أو للضرورة إن كان نظماً ، أو للسجع إن كان نثراً ) ، أي ما يدريك ما فيهم من فساد . والمعنى : تجعلون أيمانكم الحقيقة بأن تكون معظّمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة ، فيكون وصف الأيمان بالدّخل حقيقة عقلية ؛ أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغَدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدّخل مجازاً عقلياً .

ووجه الفساد أنها تقتضي اطمئنان المتحالفين فإذا نقضها أحد الجانبين فقد تسبّب في الخصام والحقد . وهذا تحذير لهم وتخويف من سوء عاقبة نقض اليمين ، وليس بمقتضضٍ أن نقضاً حدَث فيهم .

و { أن تكون أمة } معمول للام جرّ محذوفة كما هو غالب حالها مع { أنْ } . والمعنى التعليل ، وهو علّة لنقض الأيمان المنهيّ عنه ، أي تنقضون الأيمان بسبب أن تكون أمّة أربى من أمّة ، أي أقوى وأكثر .

والأمّة : الطائفة والقبيلة . والمقصود طائفة المشركين وأحْلافهم .

و { أربى } : أزيد ، وهو اسم تفضيل من الرُبُوّ بوزن العُلُوّ ، أي الزيادة ، يحتمل الحقيقة أعني كثرة العدد ، والمجاز أعني رفاهية الحال وحسن العيش . وكلمة { أربى } تعطي هذه المعاني كلها فلا تَعدلها كلمة أخرى تصلحُ لجميع هذه المعاني ، فوقعها هنا من مقتضى الإعجاز . والمعنى : لا يبعثكم على نقض الأيمان كونُ أمّة أحسن من أمّة .

ومعلوم أن الأمّة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمّة المفضولة هي المنفصَل عنها ، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عدداً وأموالاً من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفصال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفّار .

وجملة { إنما يبلوكم الله به } مستأنفة استئنافاً بيانياً للتعليل بما يقتضي الحكمة ، وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم } [ سورة الأنعام : 165 ] .

والقصر المستفاد من قوله تعالى : { إنما يبلوكم الله به } قصر موصوف على صفة . والتقدير : ما ذلك الرُبُوّ إلا بلوى لكم .

والبَلْو : الاختبار . ومعنى إسناده إلى الله الكناية عن إظهار حال المسلمين . وله نظائر في القرآن . وضمير { به } يعود إلى المصدر المنسبك من قوله : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } .

ثم عطف عليه تأكيدُ أنه سيبيّن لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشّاة بزخارف الشّهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع ، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها ، فيومئذٍ تعلمون أنّ الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شرّ محض .

وأكّد هذا الوعد بمؤكّدين : القسم الذي دلّت عليه اللام ونون التوكيد . ثم يظهر ذلك أيضاً في ترتّب آثاره إذ يكون النعيم إثر الإيمان ويكون العذاب إثر الشرك ، وكل ذلك بيان لما كانوا مختلفين فيه في الدنيا .