92- ولا تكونوا في الحنث في أيمانكم بعد توكيدها مثل المرأة المجنونة التي تغزل الصوف وتحكم غزله ، ثم تعود فتنقضه وتتركه محلولاً ، متخذين أيمانكم وسيلة للتغرير والخداع لغيركم ، مع أنكم مصرون على الغدر بهم ؛ لأنكم أكثر وأقوى منهم ، أو تنوون الانضمام لأعدائهم الأقوى منهم ، أو لترجون زيادة القوة بالغدر ، وإنما يختبركم اللَّه ، فإن آثرتم الوفاء كان لكم الغنم في الدنيا والآخرة ، وإن اتجهتم إلى الغدر كان الخسران . وليبين لكم يوم القيامة حقيقة ما كنتم عليه ، تختلفون عليه في الدنيا ، ويجازيكم حسب أعمالكم{[118]} .
ثم ضرب الله مثلاً لنقض العهد فقال : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة } ، أي : من بعد غزله وإحكامه . قال الكلبي ، و مقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها ريطة بنت عمرو بن سعد ابن كعب بن زيد مناة بن تميم ، وتلقب بجعر ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع ، وصنارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة ، على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف والشعر والوبر ، وتأمر جواريها بذلك ، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها . ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد ، لا كففتم عن العهد ، ولا حين عاهدتم وفيتم به . { أنكاثاً } ، يعني : أنقاضاً ، واحدها نكث ، وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلاً كان أو حبلاً . { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم } ، أي : دخلاً وخيانة وخديعة ، والدخل ما يدخل في الشيء للفساد . وقيل : الدخل و الدغل : أن يظهر الوفاء ويبطن النقض . { أن تكون } ، أي : لأن تكون { أمة هي أربى } أي : أكثر وأعلى ، { من أمة } قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء ، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر ، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد ، بأن كانت أمة أكثر من أمة . فنهاهم الله عن ذلك . { إنما يبلوكم الله به } ، يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } ، في الدنيا .
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لتقبيح نقض العهد ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } .
وقوله : { غزلها } أي : مغزولها ، فهو مصدر بمعنى المفعول . والفعل منه غزل يغزل - بكسر الزاي . . من باب ضرب . يقال غزلت المرأة الصوف أو القطن غزلا .
والجار والمجرور في قوله : { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ، متعلق بالفعل { نقضت } ، أي : نقضته وأفسدته من بعد إبرامه وإحكامه .
و { أنكاثا } ، حال مؤكدة من : { غزلها } ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، بتضمين الفعل نقضت معنى صيرت أو جعلت .
والأنكاث : جمع نكث - بكسر النون - ، بمعنى منكوث أي : منقوض ، وهو ما نقض وحل فتله ليغزل ثانيا ، والجمع أنكاث ، كحمل وأحمال .
يقال : نكث الرجل العهد نكثا - من باب قتل - إذا نقضه ونبذه ، ومنه قوله : - تعالى - { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } ، قال ابن كثير : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده . وهذا أرجح وأظهر سواء أكان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .
والمعنى : كونوا - أيها المسلمون - أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوها بعد إبرامها ، فإنكم إن نقضتموها كان مثلكم كمثل تلك المرأة الحمقاء ، التي كانت تفتل غزلها فتلا محكما ، ثم تنقضه بعد ذلك ، وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة محلولة . .
فالجملة الكريمة تحقر في كل جزئية من جزئياتها ، حال من ينقض العهد ، وتشبهه على سبيل التنفير والتقبيح بحال امرأة ملتاثة في عقلها ، مضطربة في تصرفاتها .
وقوله - سبحانه - : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .
إبطال للأسباب التي كان يتخذها بعض الناس ذرائع ومبررات لنقض العهود .
والدَّخَل - بفتح الخاء - : المكر والغش والخديعة . وهو في الأصل اسم للشيء الذي يدخل في غيره وليس منه .
قال الراغب : والدخل كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة ، كالدَّغلَ ، وعن الدعوة في النسب . . . ومنه قيل : شجرة مدخولة - أي : ليست من جنس الأشجار التي حولها .
وقوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ . . . } ، متعلق بقوله : { تتخذون } .
وقوله : { أربى } ، مأخوذ من الربو بمعنى الزيادة والكثرة . يقال : رَبَا الشيء يربوا ، إذا زاد وكثر .
والمعنى : ولا تكونوا مشبهين لامرأة هذا شأنها ، حالة كونكم متخذين أيمانكم وأقسامكم وسيلة للغدر والخيانة ، من أجل أن هناك جماعة أوفر عددا وأكثر مالا من جماعة أخرى .
قال القرطبى : قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى ، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها غدرت بالأولى ونقضت عهدها ، ورجعت إلى هذه الكبرى ، فنهاهم الله - تعالى- : أن ينقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى ، أو أكثر أموالا . . .
وقال الفراء : المعنى : لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالأيمان .
وقال ابن كثير : قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك .
والخلاصة : أن الآية الكريمة تدعو إلى وجوب الوفاء بالعهود في جميع الأحوال ، وتنهى عن اللجوء إلى الذرائع الباطلة ، من أجل نقض العهود ، إذ الإِسلام لا يقر هذه الذرائع وتلك المبررات ، بدعوى أن هناك جماعة أقوى من جماعة ، أو دولة أعز من دولة ، وإنما الذي يقره الإِسلام هو مراعاة الوفاء بالعهود ، وعدم اتخاذ الأيمان وسيلة للغش والخداع .
والضمير المجرور في قوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، يعود على مضمون الجملة المتقدمة ، وهي قوله - تعالى - : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } .
أي : إنما يبلوكم الله ويختبركم بكون أمة أربى من أمة ، لينظر أتفُون بعهودكم أم لا . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : قوله - تعالى - : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، الضمير لقوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ . . . } ؛ لأنه في معنى المصدر . أي : إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم . وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم .
ويجوز أن يعود إلى ما أمر الله به من الوفاء بالعهد ، فيكون المعنى : إنما يبلوكم الله ويختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهود ، ومن النهي عن النقض ليظهر لكم المطيع من العاصي ، وقوي الإِيمان من ضعيفه .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أن مرد الفصل بين العباد فيما اختلفوا فيه إليه - تعالى - وحده ، فقال : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازي أهل الحق بما يستحقون من ثواب ، ويجازي أهل الباطل بما هم أهله من عقاب .
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا ، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم ، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال ، وتقبيح نكث العهد ، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات :
( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، أن تكون أمة هي أربى من أمة . إنما يبلوكم الله به . وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .
فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي ، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة ! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب . وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب . وهو المقصود . وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل ، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه !
وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول [ ص ] بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة ، بينما قريش كثرة قوية . فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها : ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ) أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة . وطلبا للمصلحة مع الأمة الأربى .
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن " مصلحة الدولة " فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول ، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر ، تحقيقا لمصلحة الدولة ! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر ، ويجزم بالوفاء بالعهد ، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل . ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى . ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان ، وأكل حقوق الناس ، واستغلال الدول والشعوب . . وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام .
والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر ، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة : ( أن تكون أمة هي أربى من أمة )هو ابتلاء من الله لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه : ( إنما يبلوكم الله به ) . .
ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه : ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة .
وقوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } ، قال عبد الله بن كثير ، والسدّي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .
وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده .
وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .
وقوله : { أَنْكَاثًا } ، يحتمل أن يكون اسم مصدر : نقضت غزلها أنكاثا ، أي : أنقاضا . ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من ناكث ؛ ولهذا قال بعده : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ } ، أي : خديعة ومكرًا ، { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم . فنهى الله عن ذلك ، لينبه بالأدنى على الأعلى ؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى .
وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة " الأنفال " {[16675]} قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عَبْسَة : الله أكبر يا معاوية ، وفاء لا غدرًا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها " . فرجع معاوية بالجيش ، رضي الله عنه وأرضاه .
قال ابن عباس : { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : أكثر .
وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز . فنهوا عن ذلك . وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد نحوه .
وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، قال سعيد بن جُبَير : يعني بالكثرة . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد .
{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازى كل عامل بعمله ، من خير وشر .