{ قل الله أعلم بما لبثوا } روي عن علي أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاث مائة شمسية ، والله تعالى ذكر ثلاث مائة قمرية ، والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين ، فيكون في ثلاث مائة تسع سنين ، فلذلك قال : { وازدادوا تسعاً } . { له غيب السماوات والأرض } ، فالغيب ما يغيب عن إدراك ، والله عز وجل لا يغيب عن إدراكه شيء . { أبصر به وأسمع } أي : ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع ! أي : لا يغيب عن سمعه وبصره شيء . { ما لهم } أي : ما لأهل السماوات والأرض ، { من دونه } أي من دون الله ، { من ولي } ناصر ، { ولا يشرك في حكمه أحداً } ، قرأ ابن عامر و يعقوب : { ولا تشرك } بالتاء على المخاطبة والنهي ، وقرأ الآخرون بالياء ، أي : لا يشرك الله في حكمه أحداً . وقيل : { الحكم } هنا علم الغيب ، أي : لا يشرك في علم غيبه أحداً .
وقوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } تقرير وتأكيد لكون المدة التى لبثوها هى ما سبق بيانه فى الآية السابقة .
فكأنه - سبحانه - يقول : هذا هو فصل الخطاب فى المدة التى لبثوها راقدين فى كهفهم ، وقد أعلمك الله - تعالى - بذلك - أيها الرسول الكريم - ، وما أعلمك به فهو الحق الصحيح الذى لا يحوم حوله شك ، فلا تلتفت إلى غيره من أقوال الخائضين فى أمر هؤلاء الفتية ، فإن الله - تعالى - هو الأعلم بحقيقة ذلك .
ويرى بعضهم أن قوله - تعالى - : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ } حكاية لكلام أهل الكتاب فى المدة التى لبثها أهل الكهف نياما فى كهفهم ، وأن قوله { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } للرد عليهم .
وقد حكى الإِمام ابن كثير القولين . ورجح الأول منهما فقال : هذا خبر من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف فى كهفهم ، منذ أن أرقدهم الله إلى أن بعثهم وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان . كان مقداره ثلاثمائة سنين وتسع سنين بالهلالية وهى ثلاثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال بعد الثلاثمائة { وازدادوا تسعا } .
وقال قتادة فى قوله : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ . . } وهذا قول أهل الكتاب وقد رده الله - تعالى - بقوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } .
وفى هذا الذى قاله قتادة نظر ، فإن الذى بأيدى أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع ولو كان الله - تعالى - قد حكى قولهم لما قال : { وازدادوا تسعا } ، وظاهر الآية أنه خبر عن الله لا حكاية عنهم . . .
وقوله - تعالى - : { لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض } تأكيد لاختصاصه - عز وجل - بعلم المدة التى لبثوها ، أى : له - سبحانه - وحده علم ما خفى وغاب من أحوال السموات والأرض ، وأحوال أهلهما ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وقوله - سبحانه - : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } صيغتا تعجب : أى : ما أبصره وما أسمعه - تعالى - والمراد أنه - سبحانه - لا يغيب عن بصره وسمعه شئ .
وجاءت هذه الجملة الكريمة بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره - تعالى - فى الإِدراك خارج عما عليه إدراك المبصرين والسامعين . إذ لا يحجبه شئ ، ولا يتفاوت عنده لطيف وكثيف ، وصغير وكبير ، وجلى وخفى .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } .
أى : ليس لأهل السموات ولا لأهل الأرض ولا لغيرهما غير الله - تعالى - نصير ينصرهم ، أو ولى يلى أمرهم . ولا يشرك - سبحانه - فى حكمه أو قضائه أحدا كائنا من كان من خلقه . كما قال - تعالى - { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } هذا ، وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات مسائل منها .
( أ ) مكان الكهف الذى لجأ إليه هؤلاء الفتية ، والزمن الذى ظهروا فيه ، أما مكان الكهف فللعلماء فيه أقوال : من أشهرها أنه كان بالقرب من مدينة تسمى " أفسوس " وهى من مدن تركيا الآن ، قالوا إنها تبعد عن مدينة " أزمير " بحوالى أربعين ميلا ، وتعرف الآن باسم : " أيازبوك " .
وقيل : إنه كان ببلدة تدعى " أبسس " - بفتح الهمزة وسكون الباء وضم السين - وهذه البلدة من ثغور " طرسوس " بين مدينة حلب بسوريا ، وبلاد أرمينية وأنطاكية .
وقيل : إنه كان ببلدة تسمى " بتراء " بين خليج العقبة وفلسطين . . إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة ، التى لا نرى داعيا لذكرها ، لقلة فائدتها .
وأما الزمن الذى ظهروا فيه ، فيرى كثير من المفسرين أنه كان فى القرن الثالث الميلادى فى عهد الإِمبراطور الروماني " دقيانوس " الذى كان يحمل الناس حملا على عبادة الأصنام ، ويعذب من يخالف ذلك .
( ب ) العبر والعظات والأحكام التى تؤخذ من هذه القصة - ومن أهمها :
1- إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، حيث أخبر - عن طريق ما أوحاه الله إليه من قرآن - عن قصة هؤلاء الفتية ، وبين وجه الحق فى شأنهم ورد على ما خاضه الخائضون فى أمرهم ، وصدق الله إذ يقول : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق . . . } 2- الكشف عن جانب من بلاغة القرآن الكريم فى قصصه ، حيث ساق هذه القصة مجملة فى الآيات الأربع الأولى منها ، ثم ساقها مفصلة بعد ذلك تفصيلا حكيما . وفى ذلك ما فيه من تمكن أحداثها وهداياتها فى القلوب .
والمرشد العاقل هو الذى ينتفع بهذا الأسلوب القرآنى فى وعظه وإرشاده .
3- بيان أن الإِيمان متى استقر فى القلوب ، هان كل شئ فى سبيله . فهؤلاء الفتية آثروا الفرار بدينهم ، على البقاء فى أوطانهم ، لكى تسلم لهم عقيدتهم . . فهم كما قال - سبحانه - فى شأنهم : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }
4- بيان أن على المؤمن أن يلجأ إلى الله بالدعاء - لا سيما عند الشدائد والكروب ، وأنه متى اتقى الله - تعالى - وأطاعه ، جعل له - سبحانه - من كل ضيق فرجا ، ومن كل هم مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، وصانه من السوء .
( قل : الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض . أبصر به وأسمع ) . .
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم ، يقرره عالم غيب السماوات والأرض . ما أبصره ، وما أسمعه ! سبحانه . فلا جدال بعد هذا ولا مراء .
ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها : ( ما لهم من دونه من ولي . ولا يشرك في حكمه أحدا ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً * قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله وَلَبَثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا فقال بعضهم : ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك ، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا وقالوا : لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف ، لم يكن لقوله قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا وجه مفهوم ، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا هذا قول أهل الكتاب ، فردّه الله عليهم فقال : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَواتِ والأرْضِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ قال : في حرف ابن مسعود : «وَقالُوا وَلَبِثُوا » يعني أنه قال الناس ، ألا ترى أنه قال : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب عن مطر الورّاق ، في قول الله : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ قال : إنما هو شيء قالته اليهود ، فردّه الله عليهم وقال : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا .
وقال آخرون : بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا قال : عدد ما لبثوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه ، وزاد فيه قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : ولَبَثُوا في كْهفِهْم ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا قال : وتسع سنين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بنحوه .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : ثني الأجلح ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : نزلت هذه الاَية وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ فقالوا : أياما أو أشهرا أو سنين ؟ فأنزل الله : سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلَبِثُوا في كَهْفِهِمْ قال : بين جبلين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره : ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله ، ليتساءلوا بينهم ، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر ، ثلاث مئة سنين وتسع سنين ، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه . وأما الذي ذُكر عن ابن مسعود أنه قرأ «وَقالُوا : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِم » وقول من قال : ذلك من قول أهل الكتاب ، وقد ردّ الله ذلك عليهم ، فإن معناه في ذلك : إن شاء الله كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاث مئة سنين وتسع سنين ، فردّ الله ذلك عليهم ، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أوَوا إليه أن بعثهم ليتساءلوا بينهم ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم ، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا ، لا يعلم بذلك غير الله ، وغير من أعلمه الله ذلك .
فإن قال قائل : وما يدلّ على أن ذلك كذلك ؟ قيل : الدالّ على ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء ، فقال : وَلِبثُوا في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مئَةٍ سنينَ وَازْدَادُوا تسْعا ولم يضع دليلاً على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه ، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان ، لأن ذلك لو جاز جاز في كلّ أخباره ، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره ، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده .
فإن ظنّ ظانّ أن قوله : قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا دليل على أن قوله : وَلِبثُوا فِي كَهْفِهِمْ خبر منه عن قوم قالوه ، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه : قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنزلنا هذه السورة ، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلاً على أن قوله : وَلِبِثُوا في كَهْفِهِمْ خبر من الله عن قوم قالوه ، وإذا لم يكن دليلاً على ذلك ، ولم يأت خبر بأن قوله : وَلِبِثُوا في كَهْفِهِمْ خَبر من الله عن قوم قالوه ، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها ، صحّ ما قلنا ، وفسَد ما خالفه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفين ثَلاثِ مِئَةٍ سِنِينَ بتنوين : ثلاث مئةٍ ، بمعنى : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مئة . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة : «ثَلاثَ مِئَةِ سِنِينَ » بإضافة ثلاث مئة إلى السنين ، غير منوّن .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراة من قرأه : ثلاثَ مِئَةٍ بالتنوين سِنِينَ ، وذلك أن العرب إنما تضيف المئة إلى ما يفسرها إذا جاء تفسيرها بلفظ الواحد ، وذلك كقولهم ثلاث مئة درهم ، وعندي مئة دينار ، لأن المئة والألف عدد كثير ، والعرب لا تفسر ذلك إلا بما كان بمعناه في كثرة العدد ، والواحد يؤدّي عن الجنس ، وليس ذلك للقليل من العدد ، وإن كانت العرب ربما وضعت الجمع القليل موضع الكثير ، وليس ذلك بالكثير . وأما إذا جاء تفسيرها بلفظ الجمع ، فإنها تنوّن ، فتقول : عندي ألفٌ دراهمُ ، وعندي مئةٌ دنانير ، على ما قد وصفت .
وقوله : لَهُ غَيْبُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول تعالى ذكره : لله علم غيب السموات والأرض ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، ولا يخفى عليه شيء ، يقول : فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا ، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السموات والأرض ، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار .
وقوله : أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ يقول : أبصر بالله وأسمع ، وذلك بمعنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه .
وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكلّ موجود ، وأسمعه لكلّ مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع ، تبارك وتعالى .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ قال : يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا .
وقوله : ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ يقول جلّ ثناؤه : ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم وليّ ، يلي أمرهم وتدبيرهم ، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون . وَلا يُشْرِكُ فِي حُكمِهِ أحَدا يقول : ولا يجعل الله في قضائه ، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا ، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم ، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ .
{ قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض } له ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما ، فلا خلق يخفى عليه علما . { أبصر به وأسمع } ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، إذ لا يحجبه شيء ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي ، والهاء تعود إلى الله ومحله الرفع على الفاعلية والباء مزيدة عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر ، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء ، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى { وكفى به } والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ومعدية إن كانت للصيرورة . { ما لهم } الضمير لأهل السماوات والأرض . { من دونه من وليّ } من يتولى أمورهم . { ولا يشرك في حكمه } في قضائه . { أحدا } منهم ولا يجعل له فيه مدخلا . وقرأ ابن عامر وقالون عن يعقوب بالتاء والجزم على نهي كل أحد عن الإشراك .
إن كان قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } [ الكهف : 25 ] إخباراً مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } قطعاً للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب ، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم .
وإن كان قوله : { ولبثوا } حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } تفويضاً إلى الله في علم ذلك كقوله : { قل ربي أعلم بعدتهم } [ الكهف : 22 ] .
وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم . واللام في { له } للملك . وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص ، أي لله لا لغيره ، رداً على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم .
و { أبصر به وأسمع } صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات ، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد .
وضمير الجمع في قوله : { ما لهم من دونه من ولي } يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم . وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول ( من ) الزائدة على النكرة المنفية .
وكذلك قوله : { ولا يشرك في حكمه أحداً } هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه .
وقرأ الجمهور { ولا يشرك } برفع { يشرك } وبياء الغيبة . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { قل الله أعلم } . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و { يشرك } على أن ( لا ) ناهية . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته ، أو الخطاب لكل من يتلقاه .
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها ، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها .